يبدو ان عائلة الانسان هي نقطة تحاول السلطة الفاسدة استغلالها لاجل الضغط على المواطن لاسكاته. الا انه يمكن القول ان التضحية من اجل المجتمع والعدالة لن تضيع. بل ان الثائر ضد الظلم يحصد ثمرة تضحياته ولو بعد حين. او بعد رحيله الحتمي من الدنيا. والتضحية مستويات، منها ان تضحي بوقتك وجهدك لاجل كلمة اصلاح. او كلمة حق بوجه حاكم ظالم. وتلك هي الكلمة الطيبة وهي صدقة، اي انها تنمو، مع مرور الزمن.
،🔘 عام 1982 كان هاشم وعبدالرزاق طالبين في جامعة البصرة. يقضيان اغلب اوقاتهما معا، بالرغم من اختلافهما الفكري والعقائدي. كان عبد الرزاق شابا نحيفا، تشع عيناه طيبة وتفكر. وكان مهجرا من الفاو، بسبب الحرب، ويسكن هو وامه وزوجته وطفله في بيت مهجور (خرابة) في منطقة القشلة، في البصرة القديمة. شاب ملتزم، وخلوق يسعى في الخير، يحمل هم الوطن والمجتمع والقيم، لذلك كان ينتقد الديكتاتور، والفساد والظلم.
عبد الرزاق جاسم يتحمل بصدر واسع، وحب، ما يصدر من صديقه المتحرر هاشم، الذي يحمل افكار الحاد او لامبالاة، وعبارات جارحة. وينصحه بترك حالة اللامنتمي، والالتزام الاخلاقي والقيمي.
قال عبدالرزاق لهاشم: “عليك ان تكمل دراسات عليا وتصير استاذ جامعي. انت طيب ويمكنك ان تنفع المجتمع والشباب وخاصة طلبتك”
فضحك هاشم بصوت عال باستهزاء..
كان هاشم معاندا لا يكشف عن قلبه الابيض، وغير مستعد ان يحسم اتجاهه الفكري حاليا. ولا يشارك صديقه النقاش في الوضع العام او انتقاد الديكتاتور. لانه لا يؤمن بوجود هدف للوجود او اهمية لحياته.
🔘 1986 تم اعتقال عبدالرزاق. وبالرغم من سوء اخلاق هاشم، الا انه يشعر بحب واشباق تجاه صديقه، لانه يلمس تلك الطيبة البصراوية العطرة. وكان يتعجب من قدرة عبدالرزاق على الصوم اثناء الامتحانات في الشهر السادس، في جو حار يصهر الحديد. ويتفهم الان استعداد عبدالرزاق لمواجهة ازلام الديكتاتور.
🔘 في 1987 تاكد لهاشم ان صديقه عبدالرزاق قد تم اعدامه. ومرت السنوات وهاشم يراجع ذكرياته مع ذلك القمر المنير. وبدا تدريجيا بترك حالة اللامنتمي، والاتجاه نحو الالتزام والاخلاق، ومواجهة الديكتاتور وحزبه.
🔘 عام 1997 حصل هاشم على مرتبة الاستاذية. وخطر في باله ما قاله له صديقه عبد الرزاق…
“عليك ان تكمل دراسات عليا وتصير استاذ جامعي. انت طيب ويمكنك ان تنفع المجتمع والشباب وخاصة طلبتك”
بقيت كلمات عبدالرزاق ترن في ضمير هاشم. ولذلك لم يتردد في نصح طلبته ورعاية من يجد فيه بذرة صالحة. فكان يتولى الاشراف على مشاريعهم او دراستهم العليا. ويتقبل تمردهم الفكري، وينصحهم بالحكمة والموعظة. كما كان يفعل معه عبد الرزاق. وخاصة ذلك الطالب اللامنتمي، الذي جذبته اليه نحافته ونظراته البصرية التي تشع طيبة وتفكر. فاهتم به منذ المرحلة الاولى حتى الرابعة، وصار مشرفا له في مشروع التخرج. الذي اصبح بين يديه الان، وهو يدقق في عنوان المشروع، واسم الطالب محمد عبدالرزاق جاسم.
ولان طالبه في اخر ايام الدراسة، قرر الاستاذ هاشم ان يمهد لاستمرار العلاقة معه. فساله:
اين تسكن؟
▪️ استاذ اسكن بالفاو
▪️ اين يعمل والدك؟
▪️تم اعدام والدي في 1987.
فخرج الاستاذ صورة صديقه الغالي من محفظته وعرضها على الطالب. فنهض متاثرا وهتف:
استاذ هذا والدي..