23 ديسمبر، 2024 11:50 ص

قصة الحضارة (29): قسم البابليون السنة بناء على تفوقهم في علم الفلك

قصة الحضارة (29): قسم البابليون السنة بناء على تفوقهم في علم الفلك

 

خاص: قراءة- سماح عادل

تناول الكتاب العلوم في الحضارة البابلية، وركز على تفوق البابليين في مجالي الرياضيات وعلم الفلك، وأيضا تميزهم في مجال الطب، في الحلقة التاسعة والعشرين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

علوم البابليين..

يتناول الكتاب العلوم التي برع فيها البابليون: “كان البابليون تجاراً، ومن أجل هذا كان نجاحهم في العلم أيسر من نجاحهم في الفن. لقد أوجدت التجارة علوم الرياضة، وتعاونت مع الدين على إيجاد الفلك. وكانت الأعمال المتعددة التي يقوم بها كهنة أرض الجزيرة، من قضاء بين الناس، وهيمنة على المصالح الحكومية، وزراعة وصناعة، وعرافة وخبرة بالنظر في النجوم وفي أحشاء الحيوانات- كانت الأعمال التي يقوم بها هؤلاء الكهنة حافزاً لهم على أن يضعوا على غير علم منهم، أسس العلوم التي كانت في أيدي اليونان الملحدين سبباً في إنزال الدين من مركز الزعامة والسيطرة على العالم.

كانت علوم البابليين الرياضية تستند إلى تقسيم الدائرة إلى 360 درجة، وتقسيم السنة إلى 360 يوم. وعلى هذا الأساس وضعوا نظاماً ستينياً للعد والحساب بالسنين. وهو النظام الذي نشأت منه فيما بعد النظم الاثنى عشرية التي تعد بالاثنى عشرات. وكانوا لا يستخدمون في العد إلا ثلاثة أرقام- منها علامة للواحد تتكرر حتى تكون تسع علامات متماثلة للرقم 9، وعلامة ثانية للرقم 10 تتكرر حتى تصل إلى 50، وعلامة للرقم 100؛ وكان مما سهل لهم عملية العد والحساب أن وضعوا جداول لا تقتصر على ضرب الأعداد الصحيحة وقسمتها بل تشمل أيضاً أنصاف الأعداد الرئيسية وأثلاثها ومربعاتها ومكعباتها. وتقدم علم الهندسة حتى كان في وسعهم أن يقدروا المساحات المعقدة ومساحات الأشكال غير المنتظمة. وكانوا يقدرون النسبة التقريبية (النسبة بين محيط الدائرة وقطرها) بثلاثة وهو عدد تقريبي لا يليق بأمة من الفلكيين”.

الفلك..

وعن تفوقهم ف يعلم الفلك يوضح الكتاب: “وكان الفلك هو العلم الذي امتاز به البابليون، وهو الذي اشتهروا به في العالم القديم كله. وهنا أيضاً كان السحر منشأ العلم، فلم يدرس البابليون النجوم ليرسموا الخرائط التي تعين على مسير القوافل والسفن، بل درسوها أكثر ما درسوها لتعينهم على التنبؤ بمستقبل الناس ومصائرهم، وبذلك كانوا منجمين أكثر منهم فلكيين. وكان كل كوكب من الكواكب إلهاً تهمه شئون الناس ولا غنى عنه في تدبيرها. فكان المشتري مردك، وعطارد نابو، والمريخ نرجال، والشمس شمش، والقمر سِنْ، وزحل نبيب، والزهرة إشتار. وكانت كل حركة من حركات كل نجم أو كوكب تدل على أن حادثاً وقع على الأرض أو تتنبأ بوقوعه. فإذا كان القمر منخفضاً مثلاً، كان معنى ذلك أن أمة بعيدة ستخضع للملك، وإذا كان هلالاً كان معناه أن الملك سيظفر بأعدائه. وأضحت الجهود التي تبذل لاستخلاص العلم بالمستقبل من حركات النجوم شهوة من شهوات البابليين، استطاع بها الكهنة الخبراء بالتنجيم أن يجنوا أطيب الثمرات من الملوك والشعب على السواء.

وكان من هؤلاء الكهنة من هو مخلص لعلمه مؤمن به، ينقب بغيرة وحماسة في المجلدات التي تبحث في التنجيم، والتي وضعت، حسب رواياتهم المأثورة، في عهد سرجون ملك أكد. وكانوا يشكون من الدجالين الذين يسيرون بين الناس يقرءون لهم طوالعهم أو يتنبئون بما سيكون عليه الجو بعد عام شأن تقويمنا في هذه الأيام، كل هذا نظير أجور يتقاضونها وهم لم يدرسوا من التنجيم شيئاً.

ونشأ علم الفلك نشأة بطيئة من هذه الأرصاد ومن خرائط النجوم التي كانت تهدف إلى التنجيم والتنبؤ بالغيب. وقد استطاعوا منذ عام 2000 ق.م أن يسجلوا بدقة شروق الزهرة وغروبها بالنسبة إلى الشمس، وحددوا مواضع عدة نجوم، وأخذوا يصورون السماء على مهل. فلما فتح الكاشيون بلاد بابل توقف هذا التقدم نحو ألف عام. ثم واصلوه من جديد في عهد نبوخد نصر، فصور العلماء الكهنة مسارات الشمس والقمر، ولاحظوا اقترانهما كما لاحظوا الخسوف والكسوف، وعينوا مسارات الكواكب، وكانوا أول من ميز النجوم الثوابت من الكواكب السيارة تمييزاً دقيقاً، وحددوا تاريخ الانقلابين الشتائي والصيفي، وتاريخي الاعتدالين الربيعي والخريفي؛ وساروا على النهج الذي سبقهم إليه السومريون فقسموا دائرة فلك البروج (أي مسار الأرض حول الشمس) إلى الأبراج الاثنى عشر.

وبعد أن قسموا الدائرة إلى 360 درجة عادوا فقسموا الدرجة إلى ستين دقيقة والدقيقة إلى ستين ثانية. وكانوا يقدرون الزمن بالساعة المائية والمزولة، واكبر الظن أنهم لم يعملوا على ترقية هاتين الآلتين فحسب بل إنهم اخترعوهما اختراعاً”.

تقسيم السنة..

ويفصل الكتاب عن تبحرهم في علم الفلك: “وقسموا السنة إلى اثني عشر شهراً قمرياً، منها ستة في كل منها ثلاثون يوماً والستة الأخرى في كل منها تسعة وعشرون. ولما كان مجموع أيامهما على هذا الحساب لا يبلغ إلا 354 يوماً فإنهم كانوا يضيفون في بعض السنين شهراً آخر لكي يتفق تقويمهم مع الفصول. وقسموا الشهر إلى أربعة أسابيع تتفق مع أوجه القمر الأربعة. وحاولوا أن يتخذوا لهم تقويماً أسهل من هذا بأن قسموا الشهر إلى ستة أسابيع كل منها خمسة أيام؛ ولكن ثبت بعد إذ أن ُوجد القمر أقوى أثراً من رغبات الناس، وبقي التقسيم الأول كما كان. ولم يكونوا يحسبون اليوم من منتصف الليلة إلى منتصف الليلة التي تليها، بل كان عندهم من شروق القمر إلى شروقه التالي، وقسموا هذه المدة إلى اثنتي عشرة ساعة، في كل ساعة منها ثلاثون دقيقة، وبذلك كان طول الدقيقة البابلية أربعة أضعاف ما قد يوحي إلينا اسمها. إذن فتقسيم الشهر عندنا إلى أربعة أسابيع، وتقسيم أوجه ساعاتنا إلى اثنتي عشرة ساعة (لا إلى أربع وعشرين) وتقسيم الساعة إلى ستين دقيقة، والدقيقة إلى ستين ثانية، كل هذه آثار بابلية لا شك فيها باقية من أيامهم إلى عهدنا الحاضر، وإن كان هذا لا يخطر لنا على بال”.

العلوم والدين..

ويبين الكتاب علاقة علوم البابليين بالدين: “وكان اعتماد العلوم البابلية على الدين وارتباطها به أقوى أثراً في ركود الطب منه في ركود الفلك. على أن أساليب الكهنة الخفية لم تحل دون تقدم العلوم بقدر ما حال دونه تخريف الشعب. ذلك أن علاج المرضى قد خرج إلى حد ما عن اختصاص الكهنة وسيطرتهم من أيام حمورابي، ونشأت مهنة منتظمة للأطباء ذات أجور وعقوبات يحددها القانون، فكان المريض الذي يستدعي طبيباً لزيارته يعرف مقدماً كم من المال يجب عليه أن يؤديه نظير هذا العلاج أو ذاك ونظير هذه الجراحة أو تلك؛ وإذا كان هذا المريض من الطبقات الفقيرة نقص الأجر لكي يتناسب مع فقره. وإذا اخطأ الطبيب أو أساء العمل كان عليه أن يؤدي للمريض تعويضاً. لقد بلغ الأمر في بعض الحالات التي يكون فيها الخطأ شنيعاً أن تقطع أصابع الطبيب كما سبق القول، حتى لا يمارس صناعته عقب هذا الخطأ مباشرة”.

السحر..

ويكمل الكتاب: “ولكن هذا العلم الذي تحرر من سلطان الدين تحرراً يكاد يكون تاماً كان عاجزاً بسبب حرص الشعب على التشخيص القائم على الخرافات والأوهام، وعلى العلاج بالأساليب السحرية. ومن أجل هذا كان السحرة والعرافون أحب إلى الشعب من الأطباء؛ وقد فرضوا على الناس، بفضل نفوذهم عندهم، طرقاً للعلاج أبعد ما تكون عن العقل. فكان منشأ المرض في رأيهم تقمص الشيطان جسم المريض لذنب ارتكبه، وكان أكثر ما يعالج به لهذا السبب تلاوة العزائم وأعمال السحر والصلوات. فإذا ما استخدمت العقاقير الطبية، فإنها لم تكن تستخدم لتطهير جسم المريض، بل كان استخدامها لإرهاب الشيطان وإخراجه من الجسم. وكان أكثر الأدوية شيوعاً عقاراً مكوناً من خليط من العناصر التي تعافها النفس اختيرت لهذا السبب عن قصد، ولعلهم كانوا يفترضون أن معدة المريض أقوى من معدة الشيطان الذي يتقمصه. وكانت العناصر المألوفة لديهم هي اللحم الني، ولحم الثعابين، ونشارة الخشب الممزوجة بالنبيذ والزيت؛ أو الطعام الفاسد، ومسحوق العظام، أو الشحم والأقذار، ممزوجة ببول الحيوان أو الإنسان أو برازه

. وفي بعض الحالات كان يستبدل بهذا العلاج بالأقذار لبن وعسل وزبد وأعشاب عطرة يحاولون بها استرضاء الشيطان فإذا لم يفلح مع المريض كل علاج، ُحمل في بعض الحالات إلى السوق لكي يتمكن جيرانه من أن يشبعوا رغبتهم القديمة فيصفوا له العلاج الفعال الذي لا يخطئ”.

الطب..

وعن عدم وصول كل ما يتعلق بالطب لدى البابليين يذكر الكتاب: “على أن من واجبنا أن نقول أن الثمانمائة لوح التي بقيت لدينا لتحدثنا عن طب البابليين لا تحتوي على كل ما كان لديهم منه ولعلنا نظلمهم إذا حكمنا عليهم بما نجده فيها وحدها. ذلك أن استعادة الكل الضائع من جزء صغير عثر عليه منه من أشد الأعمال خطورة في التاريخ، وليست كتابة التاريخ إلا إعادة الكل من جزئه. وليس ببعيد أن لا يكون العلاج بالسحر إلا استخداما لقوة الإيحاء استخداماً ينطوي على كثير من الدقة؛ ولعل هذه المركبات الكريهة كان يقصد بها أن تكون مقيئات. ولعل البابليين حين يقولون إن المرض ينشأ من غزو الشياطين جسم المريض عقاباً له على ما يرتكبه من الذنوب، لا يقصدون بقولهم هذا شيئا أبعد عن المعقول من قولنا نحن أن المرض ينشأ من غزو البكتريا لجسم المريض بسبب إهماله الإجرامي أو عدم نظافته أو نهمه. وقصارى القول أن من واجبنا أن لا نكون واثقين كل الثقة من جهل أسلافنا”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة