يبدو ان الصعوبات هي قدرنا في الحياة. انها جرعة مفروضة علينا لتصنع ادراكنا ومستقبلنا. وكما تمر البشرية بسلسلة من الصعوبات لتنمو وتتكامل شخصيتها، نمر نحن بتلك السلسلة من الالم والسعادة، من الجوع والشبع، من العطش والارتواء، لنؤمن ان ايادي خفية تدير الامور. وبطل هذه القصة الحقيقية قد تجرع صعوبات كثيرة في بداية حياته، قد تكون سببا في صلابة مواقفه لاحقا تجاه الظلم والسلطة. احداث القصة في السبعينات، في البصرة.
🔘 كورنيش البصرة:
تختلف عن المدن الاخرى. او كانت مختلفة عن باقي محافظات العراق. ميناء يخص البواخر والوفود. يسكن فيها هنود واجانب، ويتوافد عليها اهل الخليج. الاختلاف واضح في الستينات والسبعينات، عن الثمانينات (زمن الحرب)..
قبل الحرب، خاصة عند الغروب، تنتعش بمنظر الشط، وانت تتمشى على الكورنيش، حيث المقاهي والزوارق والبواخر. تشاهد مجاميع من البحارة الروس او غيرهم بملابسهم الرسمية البيضاء. وقد يكون هذا سبباً لتشكيل شخصية خاصة، شاعرية او معاندة، اسمها [نادر]. له علاقة خاصة بشارع الكورنيش. لانه طريق المدرسة، طريقه الصعب.
🔘 مدرسة في الطويسة:
عام ١٩٦٨، ذهب نادر مع اخيه الى مدرسة عتبة بن غزوان في منطقة [الطوسية] خلف بيت الحزب، سابقاً، وبالقرب من ساحة العروس حالياً. حينها كان اهله يسكنون على بعد كيلو متر واحد من المدرسة، او اقل من هذا. عائلته فقيرة وهو من النوع الهاديء والمسالم، ويمتاز برقة مشاعره وكثرة مخاوفه من الحشرات والافاعي. فتى قلق وحالم.
بعد مرور ثلاثة اشهر انتقلت عائلة نادر من الطوسية الى منطقة [التنومة]. وصار سكنه يبعد اكثر من سته كيلو مترات. وهي مسافة تعادل البعد بين ساحة التحرير وساحة عنتر في بغداد. هذه المسافة بين مدرسته والسكن ليست متصلة، بل يقطعها شط العرب. ويبلغ عرضه اكثر من ٥٠٠ متر. ويتطلب عبور الشط، انتظار وسيلة نقل خاصة، اسمها الطبقة [الطبكة]. واعتقد سببب التسمية لانها تتأخر في الوقوف عند وصولها الى الجرف. ويأخذ سائقها وقتاً حتى يطبق [يطبك] على ضفة الكورنيش.
هذا الطريق الصعب، من البيت الى المدرسة يحتاج اكثر من ساعتين. حينها يخرج نادر مبكراً، دون فطور، ومعه عشرة فلوس، يضعها في جواربه، حفاظاً عليها.
🔘 بين التنومة والطويسة:
ينطلق بطلنا ماشياً من بيته قرب جامعة البصرة القديم، في التنومة، حتى يصل الى الضفة الشرقية لشط العرب، وينتظر وصول الطبكة، مع عشرات من المواطنين. الصعود فيها ليس سهلاً او آمناً، حصلت حوادث كثيرة معها. مثلاً انهيار جزء منها وسقوط عدد من الركاب، وفيهم نساء، وغرق بعض منهم.
بعد ان يصل نادر الى الضفة الاخرى، وهي كورنيش العشار، ينطلق ماشياً بموازاة شط العرب، ثم شط العشار، ويعبر جسر الامير، ثم يقطع الطريق مروراً بمنطقة الداكير او سوق [المغايز] حتى يعبر جسر الخندق ثم يستمر ماشياً عبر منطقة [ام الدجاج] حتى يصل ملعب الجنوب، ويستمر ماراً ببيت الحزب ثم يصل الى المدرسة.
لم يكن الانتقال من مدرسة الى مدرسة اخرى مسموحاً، الا في المرحلة القادمة. ولذلك اضطر نادر على ان يقطع هذا الطريق الصعب، مرتين يومياً، ذهاباً وإياباً. ستة ايام في الاسبوع، لان العطلة هي الجمعة فقط. والالتزام بالدوام، كان طبيعي تلك الايام. هذا يعني ان نادر قطع حوالي 2000 كيلومتر خلال 6 اشهر.
🔘 عصابات ام الدجاج:
بالرغم من وجود وضع آمن نسبيا، وقلة السيارات، وعدم وجود حركة دراجات، الا ان المخاطر موجودة. عبور شط العرب ليس امنا تماما. كذلك عند الفجر، تتواجد مجاميع من الكلاب في طريق نادر. وعندما يمر في منطقة ام الدجاج، وهي شعبية بامتياز، يتعرض له، احيانا، اطفال المنطقة ويطلقون على مجموعاتهم عصابات ام الدجاج. كانوا يمنعون الغرباء من المرور في منطقتهم. وقد امسكوا به مرة وصادروا قطعة مرطبات من فمه، وبلغوه بقرار المنع. وفعلا، اضطر المسكين ان يسلك طريقا اخر، ابعد واطول.
كذلك يعاني نادر من العطش والجوع خلال ثمان ساعات، هي الذهاب والدوام والرجوع الى البيت. واحيانا ينفجر بالبكاء عندما يصل البيت، ويركض الى حضن امه شاكيا.
🔘 قد يكون هذا الطريق هو الاصعب اثناء مسيرته الدراسية. لكن هناك صعوبات اخرى تنتظر نادر، اقساها مضايقات البعثيين الاغبياء، وتهديدات اتحاد الطلبة الحكومي الفاشي. هذا في الايام الاتية. وللحديث بقية.