خاص : دراسة بقلم – د. مالك خوري :
د – تطور دور البحث السينمائي وموقع المثقف العضوي الثوري
على الرغم من أن الكثير من المساهمات النقدية “المغايرة” نجحت في الاستفادة من استعمال تقنيات التواصل الجديدة واستطاعت مشاركة أفكارها وأبحاثها مع أوساط سينيفيلية وسياسية أوسع، فإن المظاهر المعبّرة عن التغيرات النظرية المفصلية في أولويات دراسات وأبحاث السينما على الصعيد الأكاديمي لم تتمكن بعد من أن تُحقق أي تغير يُذكر في فرز تيار بديل قادر على فرض وجوده وهويته المستقلة إلى جانب الأطر المهيمنة التي تحكم وتُحدد خطاب التعاطي مع السينما والأعمال السينمائية في وسائل التواصل الإعلامي والاجتماعي، وحكمًا ليس ضمن تلك التي تُهيمن على الخطاب والممارسات داخل الفعاليات والمؤسسات الرئيسة للثقافة السينمائية (مهرجانات، منصات، ورشات). وبخلاف بعض المتغيرات التفصيلية والمبعثرة ضمن ظروف معينة، بقيت منهجيات التعاطي مع السينما في وسائل التواصل الجماهيري السائدة محصورة، إلى حدٍ بعيد، في التركيز على تقييم ديناميات القصة والثيمة والتصوير والقطع والصوت والتقديم والمؤثرات التقنية وما شابه، وذلك بالإضافة إلى إعادة تدوير مقاربة دور المخرج والنوع السينمائي كأهم عناصر ومرجعيات قراءة العمل السينمائي وتقييمه. وعلى الرغم من أن قوة هيمنة هذه المنهجيات تتمايز آنيًا وتبعًا لبعض التغييرات والسياقات الوضعية الطارئة من وقتٍ لوقت، لكنها تبقي في النهاية المحور الأكثر تأثيرًا على المقاربة الجمعية السائدة للسينما كممارسة ثقافية شعبية معاصرة.
كما قلنا سابقًا، إن كل عمل فني، بما في ذلك الأعمال السينمائية أو الدرامية، هو ابن اللحظة التاريخية التي يولد ويقارب العالم من خلالها. فلا وجود للعمل السينمائي بمعزل عن الواقع المادي لتلك اللحظة التي يخرج من أحشائها إلى النور ويبدأ من خلالها رحلة تفاعله مع الحيز الاجتماعي الأوسع الذي يُحيط به والذي يُصبح هو أيضًا جزءًا عضويًا منه. وتستمد هذه اللحظة حياتها وقوتها داخل العمل من خلال محتوى وقضايا ولغة وخطاب ومشاعر يتناولها ذلك العمل بالعلاقة مع أزمنة وأمكنة محددة تشمل، في ما تشمل، أفكارًا هي وليدة لبيئة زمنية ومكانية معينة، أو ظروف إنتاج، أو مساهمات فردية وجماعية، أو أشكال تسويق، أو أطر مشاهدة وتلقٍّ وتفاعل ضمن بيئات تاريخية وجغرافية معينة، مشتركة ومتباينة في آن معًا.
بالتالي، فإن محاولة قراءة أي عمل ثقافي من دون الأخذ بالاعتبار مكونات هذه اللحظة التاريخية وأشكال تفاعلها، يختزل عملية النقد في تحليلات مجتزأة تقدم انطباعات خاصة عن حيثيات العمل، سواء بالنسبة للمضمون أو الشكل أو الأسلوب أو الأداء التمثيلي أو الحرفية أو التقنية وما شابه. مثل هذه التوجهات اعتدنا رؤيتها في الأعمال النقدية لمعظم من اصطلحنا على وصفهم تقليديًا “بالنقاد”، ونجدها تُهيمن في الصحافة والإعلام ومعظم مواقع السينما العربية والعالمية.
فماذا عن دور الباحث والناقد الثوري (بمعنى المشتبك علميًا وسياسيًا مع ما هو سائد إيديولوجيًا) ضمن هذه المعادلة، وما الذي يُحدد مكونات هذا الدور ؟ وهل أن عملَ مثل هؤلاء البحاثة والنقاد المعنيين بالتواصل العضوي الأوسع (بمعنى التواصل الذي يطال ويتجاوز حدود الأكاديميا والتخصص) بإمكانه تخطي المعادلة التي تُفضي إلى نقض الهيمنة الإيديولوجية في القراءة “الشعبية” للسينما ؟ بالطبع لا. فنحن نبقى في النهاية “تابعين” ومكونات عضوية لهذا “الكل” المفعم بطبيعته بالتناقضات الثانوية والمركزية. وهذا محكوم في النهاية بالتغيرات الأوسع في البنية الطبقية العامة للاقتصاد والمجتمع.
وهل يعني هذا، إذاً، أنه من غير الممكن التعاطي مع السينما (كما غيرها من مواضيع البحث الاجتماعية والاقتصادية) بما يُفضي إلى استنتاجات معرفية “علمية” تجاهها، ومشاركة ذلك على مستوى شعبي واسع بما يعنيه هذا من مقارعة مباشرة مع خطاب الإيديولوجيا السائدة في ما يتعلق بالسينما وما تُمثله اليوم ؟ أيضًا لا.
إن العمل لفتح بعض الآفاق المستقلة نسبيًا لحركتنا ولتقييمنا لواقع الهيمنة الإيديولوجية يغتني ويتطور مع النضوج الدائم لقدرتنا على رصد وتمييز ما هو أقل أو أكثر تأثرًا بإفرازات الشحن الإيديولوجي السائد. وفقط ضمن هذا السياق يُصبح الحديث عن النظرة أو التقييم “الموضوعي” لأي ظاهرة اجتماعية تاريخية (بالمعنى العلمي للتعبير وليس بمعنى “الحيادية”) ممكنًا.
وبغض النظر عن ارتهاننا العام إيديولوجيًا بواقع البنى الطبقية المهيمنة على وسائل وعلاقات الإنتاج الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكذلك بما يصفه الفيلسوف الماركسي الفرنسي “لوي آلتوسير”: “بجهاز الدولة الإيديولوجي”، فإن أشكال تعاطينا مع الإيديولوجيا المهيمنة ودرجة “تناغمنا” معها تتباين وتتبلور تبعًا لعوامل عديدة منها الفردي ومنها الجماعي. ومن بين هذه التباينات تلك التي تُحدد شكل ومحتوى رؤيتنا وتقييمنا وكيفية تعاملنا مع هذه الهيمنة. وبالتالي، فإن الاستقلالية الفكرية النسبية لتعاملنا مع هذه الهيمنة تكمن في قدرتنا على التمايز النسبي مع واقعنا “كتابع” (فسجين الرأي، مثلاً، يبقى مستقلاً نسبيًا في فكره وذلك على الرغم من الهيمنة المادية الأشمل للسجان فوق جسده ومصيره).
إن مهمة الناقد أو الباحث السينمائي الثوري لا تكمن في تقديم تقرير “محايد” كما يزعم العديد من “النقاد” أو الباحثين (عمّا نتابعه على شاشات السينما ونرصده في واقع الثقافة السينمائية حولنا. فالتوجهات التي تزعم “الحياد” تجعل الناقد في كثير من الأحيان يُصبح أسيرًا للسرد القصصي لحكايات الأفلام و/أو المشاركة الانطباعية لمشاعره تجاه شكل وأسلوب الأعمال التي يتناولها، وعلى مستوى أوسع، تجاه ما يحدث ضمن الأوساط السينمائية. وهذا يُكرس من ناحية هيمنة القراءات السينمائية التقليدية “الانتقائية”) بمعنى غير المنهجية (ويُسهم من ناحية أخرى في تهميش إضافي لدور القاريء والمشاهد العادي أو المهتم الجدي بالسينما. بدوره، يُكرس هذا حصر القاريء/المشاهد في موقعه الإيديولوجي كمتلقٍّ “تابع” (Subject)، عوضًا عن أن يكون متفاعلاً مع ما يحصل في هذا الحيز الثقافي الفائق الأهمية في حياتنا المعاصرة.
وأخذًا بالاعتبار أن تفاعلنا ودخولنا الوضعي إلى عالم السينما يلونه ويُحدد شكله حجم عمق تأثرنا بكل الأثقال الإيديولوجية التي ترافق مسيرات حيواتنا، فإن الأساس في أي ممارسة نقدية أو بحثية علمية ثورية في السينما لا بد وأن يُساهم بشكل أو بآخر في التعزيز النسبي لقدرتنا كما لقدرة المشاهد على تقصي وفرز مكونات الهيمنة الإيديولوجية للطبقة السائدة في الممارسة السينمائية بكافة أشكالها وبمعانيها الأوسع (إنتاج، تمويل، لغة، توزيع، دعاية، إعادة تدوير، تلقٍّ). وبالإضافة إلى أن الممارسة النقدية والبحثية غير المحايدة تعزز من القدرة على فهم واستيعاب المكونات والمفاعيل الإيديولوجية للعمل السينمائي، تُعزز هذه الممارسة أيضًا عملية الإضاءة على مكامن وأطر إبداعية محتملة أو جديدة ولممارسات سينمائية فكرية وسياسية بديلة و”مستقلة” نسبيًا عن ديناميات الهيمنة الإيديولوجية للطبقات الرأسمالية الحاكمة… وكما يشهد تاريخ السينما نفسه (وامتدادًا، تاريخ الدراسات والنقد السينمائي)، فعلى كل مفرق تطور مفصلي كانت تكمن محاولة لدفع السينما وعلاقتنا بها باتجاهات جديدة ونحو أفق غير مسبوق. وكانت تُعبر عن هذه الحالات محاولاتٌ لسينمائيين ثوريين (سواء كجهد واعٍ أو غير واعٍ)، لفرز أو لإبداع تعابير أكثر استقلالية (نسبيًا) عما هو سائد سينمائيًا، سواء على مستوى المضمون، الأسلوب والشكل، الصناعة، التسويق، أو على صعيد التعامل مع تحديات التقنية والتلقي والمشاهدة.
وكما نعلم، فمن ضمن مثل هذا الحيز الإبداعي المبني على تلمس أطر خارجة عن هذه الهيمنة الإيديولوجية (في الشكل والمضمون وديناميات المشاهدة) والمشتبكة معها، تمكن سينمائيون مثل آيزنستاين، فيرتوف، رينوار، آيفينز، ويلز، دي سيكا، غودار، فيسكونتي، كوراساوا، بونويل، بازوليني، برتولوتشي، سولاناس، كوبولا وعشرات غيرهم (كل بطريقته الخاصة وضمن خصوصية اهتماماته) من تطوير معالم إبداع جديدة للسينما على مدى تاريخها. ومن خلال هذه الآفاق الإبداعية التي كانت تتفتح وتتفاعل أو تطرح بشكل أو بآخر خرقًا لأحد مظاهر ومسلمات ما هو سائد إيديولوجيًا (فكريًا، أخلاقيًا، بنية وأسلوبًا، إنتاجًا، أو تلقّيًا)، استطاع هؤلاء وغيرهم المساهمة في توسيع قدرات وآفاق السينما على التفاعل مع الإنسان ليس بمحدودية واقع سلبية “تبعيته” الإيديولوجية العامة، ولكن أيضًا كمتفاعل وفاعل إيجابي (بنسب متفاوتة) ضمن جدلية الصراع التي تطبع هذه التبعية.
إن تهميش التاريخ والإيديولوجيا في القراءات النقدية الصحافية والإعلامية السائدة، جرى ويجري في مقابل التوسع الواضح والمستمر في اتجاهات التحليل الإيديولوجي في أوساط البحث السينمائي الأكثر جدية، وضمنه الأبحاث الأكاديمية. وأخذًا بالاعتبار أن رؤيتنا وتفاعلنا مع عالم الأفلام لا مناص من أن يلونها واقعُ تأثّرنا بالأثقال الإيديولوجية السائدة التي ترفد مسيرات حيواتنا وتفاعلنا مع المحيط الثقافي الذي نعيش ضمنه، فإن أي ممارسة نقدية علمية جدية تجاه السينما لا بد لها أن تُسهم بشكل أو بآخر في تعزيز القدرة النسبية للمتابع، بما في ذلك المتابع غير المتخصص، على تقصي إفرازات الهيمنة الطبقية السائدة داخل الممارسة السينمائية (إنتاج، تمويل، تقنيات، توزيع، دعاية، إعادة تدوير، تلقي…)، وامتدادًا لذلك عبر تجليات تلك الهيمنة وأشكالها الإيديولوجية.
هذا التوجه يؤسس لأرضية أقوى لدراسة المكونات التفصيلية للممارسة السينمائية ليس كبدائل لبعضها البعض، بل باعتبارها امتدادات للبنية الأوسع للتفاعل الثقافي والإيديولوجي لواقعنا المعاصر. فما نطرحه لجهة واقع الوحدة النظرية الجدلية لمكونات البحث العلمي لا تفرض تناقضًا منهجيًا مع الفصل البحثي المؤقت لمواضيع أو مكونات محددة ضمن الإطار العام للبحوث السينمائية بهدف البحث المتخصص والأكثر تفصيلاً، أو تحديد أولويات معينة لتلك البحوث. بل على العكس، فإنه يتكامل معها ويزيد من قدرتنا على تعميق فهمنا واستيعابنا لها.
على المستوى المنهجي، فإن تناول الناقد للعمل السينمائي من زاوية محددة تعني ربطه للعمل من خلال أطر محددة لتفاعل بنيته الأوسع (مضمونا أو شكلا أو تلقيا) مع ما هو سائد أيديولوجياً في مرحلة معينة. أشكال هذا الربط تتمايز بتمايز الأعمال (وحتى داخلها أحيانا)، ويمكن للناقد التركيز عليها تبعا لثلاثة تعريفات عامة نستوحيها هنا مما أوجزه ستيوارت هول في إطار تحديده للأطر للعامة لقراءة الأعمال الثقافية: أولا، يمكن للناقد دراسة مكامن تناغم العمل وتكامله مع ما هو سائد أيديولوجياً (Dominant Reading) ومع ما يمثله من تكامل أو إعادة تدوير لما يشكل في مراحل معينة “تفكيراً طبيعياً ومقبولاً من الأكثرية” (التعبير الذي يستعمله غرامشي هو Common Sense).
ثانيا، مقاربة العمل لناحية انفتاحه أمام تفسيرات أيديولوجية مغايرة تسمح بقراءته ضمن روحية “تفاوضية” أو مقايضة (Negotiated Reading) مما يكشف تناقضات داخلية في بنية العمل قد لا تجعله متطابقا بالضرورة وبشكل ثابت ما هو مهيمن أيديولوجياً. وثالثا، يمكن للعمل أن يتضمن مكونات تجعله يفتح في المجال وبشكل واضح أمام القراءة والتفاعل السلبي تجاه البنية الأيديولوجية السائدة، وبالتالي يقوم الناقد برصد تلك المكونات التي تجعل من اشتباكه مع الأيديولوجيا السائدة أكثر وضوحا وصدامية (Oppositional Reading). كل هذا يفتح في المجال لسبر غور نماذج لأعمال سينمائية شديدة التباين أو التشابه في معالمها، لكن كل منها يكتسب وقعا خاصا في معالم تفاعله الأيديولوجي مع المسار الثقافي للسينما (وبطبيعة الحال، مع واقع المجتمع والعالم في لحظات تاريخية معينة).
لكن، هل يعني هذا أنّ على الناقد السينمائي بالضرورة مقاربة كل حيثيات وتفاعلات العمل لرصد تقاطعاتها مع تجلياتها الأيديولوجية الداخلية (ديناميات مضمون وشكل العمل) والخارجية )أطر إنتاج وعرض وتسويق وتلقي العمل)؟ ليس بالضرورة. فالناقد بإمكانه التركيز على معاينة زاوية أو عدة زوايا داخلية أو خارجية محددة في تناوله للعمل السينمائي في تقاطعها مع لحظة تاريخية محددة (كلحظة إصدار العمل، أو لحظة عرضه بعد سنين في مكان لم يعرض فيه من قبل، أو ما شابه).
تجسد اللحظة التاريخية نفسها وتبلور حضورها وقوتها في أي عمل ثقافي (سواء بشكل مباشر أو غير مباشر)، من خلال المحتوى والقضايا واللغة والخطاب والمشاعر والطروحات التي يتناولها العمل السينمائي بالعلاقة مع أزمنة وأمكنة محددة تشمل في ما تشمل أفكارا ورؤى وتوصيفات لها امتداداتها ومفاعيلها الأيديولوجية. وبغض النظر عن طبيعة وشكل علاقة العمل السينمائي بالبنية الفكرية والاجتماعية السائدة، فإن ما يفرزه العمل ذاتيا وعبر تلقفه الاجتماعي يبقى في النهاية جزءاً من بنية أيديولوجية مرتبطة ببيئة زمنية ومكانية، وظروف إنتاج، ومساهمات فردية وجماعية، وأشكال تسويق، وأطر مشاهدة وتلقٍّ وتفاعل مشتركة ومتباينة في آن واحد. بالتالي، فإن أي قراءة لعمل سينمائي لا تأخذ بالاعتبار مكونات اللحظة (أو اللحظات) التاريخية الخاصة بها وبطبيعتها ومفاعيلها الأيديولوجية، تتحول إلى قراءات انتقائية غير مترابطة لحيثيات تفصيلية منعزلة تتناول المضمون أو الشكل أو الأسلوب أو الأداء التمثيلي أو الحِرفية أو التقنية وما شابه، وتقتصر على تحليلات وأبحاث انطباعية مبعثرة لا قيمة علمية لها.
ضمن الربط النظري للقراءة النقدية بالأيديولوجيا، يمكن تقديم نماذج لتوجهات معرفية تؤسس لفهم أعمق وأكثر انفتاحا للسينما كواحدة من أهم وأخطر الممارسات الثقافية في عصرنا. وضمن هكذا قراءة يفتح الناقد الثوري الطريق أمام الآخرين، ليس فقط لدعم قدرتهم على قراءة وتحليل جوانب عديدة للترابط العضوي المتنوع والواسع بين الممارسة السينمائية والبنية التاريخية الأيديولوجية للمجتمع، بل أيضا بما يساهم في تطوير الفهم الاجتماعي والسياسي العلمي للديناميات المعقدة للهيمنة الأيديولوجية وتوسيع استيعاب المجتمع للطبيعة الطبقية للثقافة السائدة وسبل مجابهتها ثوريا وتقويض فعاليتها على أرض الواقع.