16 نوفمبر، 2024 3:20 ص
Search
Close this search box.

“سمير أمين” .. المنتج للتمرد ! (2)

“سمير أمين” .. المنتج للتمرد ! (2)

خاص : بقلم – هيفاء أحمد الجندي :

ثانيًا: تناول القسم الأول من هذا المقال جوانب من مفاهيم “سمير أمين” حول “نمط الإنتاج الخراجي وظاهرة “الاستقطاب” في النظام الرأسمالي، وكشفه تشوُّهات “الماركسية المبتذلة” التي تُبرر بيروقراطية “الدولة السوفياتية”، وتطلّعه إلى تكوُّن “البديل الوطني التقدمي” ـ هنا القسم الأخير من المقال: رؤية نقدية لمفهوم: “البديل الوطني التقدمي”.

إنَّ التفاؤل المفرط عند “سمير أمين”، بما يخص “البديل الوطني التقدمي” يوقعه في الرغبوية والإرادوية، وهذه الإرادوية ناتجة عن إيمانه العميق، النبيل والأصيل، بالشعوب والطبقات الشعبية. وهنا نجدها فرصة لعرض اجتهادات وقراءات “سمير أمين”، وكذلك للخوض في عرض نقائص وأخطاء الأشكال والمشاريع السابقة التي صاغها، حيث نرى أن “سمير أمين” سيُحاور “سمير أمين” من المنطق ذاته، ولا يُعتبر هذا هربًا من إدعاء اختلاق الاختلاف معه وإنما لكشف بعض التناقضات.

وحول مسألة الانتقال الطويل إلى الاشتراكية العالمية والإستراتيجيات البديلة للقرن الحادي والعشرين يقترح “أمين” التالي:

أ – تتمازج خلال هذه المرحلة منظومات اجتماعية ـ اقتصادية ـ سياسية ناتجة عن الصراعات الاجتماعية لعناصر إعادة إنتاج المجتمع الرأسمالي وعناصر تطور اشتراكية ـ منطقتان متنازعتان ـ في مزيج وتناقض دائمين.

ب – الإنجازات على هذا الطريق ممكنة وضرورية في كل مناطق النظام الرأسمالي العالمي في مراكزه الإمبريالية كما في أطرافه.

ج – هناك قوى اجتماعية ـ إيديولوجية ـ سياسية تُعبِّر من خلالها المصالح الشعبية عن نفسها ولو في حالة من الغموض، بدأت تفعل في هذه الاتجاهات، إلاَّ أنَّ هذه الحركات تقطّر خيارات مختلفة بعضها تقدمي وأخرى حاملة أوهام رجعيّة مثل الإجابات شبه الفاشية على التحديات.

د – تشكل ضحايا التوسع الرأسمالي أكثرية في كل مناطق العالم، وعلى الاشتراكية أن تكون قادرة على تجنيد هذه الفرصة التاريخية وهي لا تستطيع ذلك إلاَّ إذا أخذت في الاعتبار التحولات الناتجة عن الثورات التكنولوجية التي غيَّرت في العمق هندسة البنى الاجتماعية. ويجب على الشيوعية ألاَّ تظلّ علم الطبقة العاملة الصناعية بالمعنى القديم للكلمة لأنها تستطيع أن تُصبح راية المستقبل لأكثريات واسعة من العاملين من يتمتع منهم بوضعية مستقرة في النظام ومن هم مستبعدون، وهذا يُشكل تحديًا رئيسيًا للفكر الإبداعي للتجديد الشيوعي.

وللخروج من المأزق نحو نظرية للثقافة عالمية الآفاق ومن الاستقطاب ومن التشوّه الأوروبيِّ التمركز وإيديولوجيات الرفض باسم الخصوصية، لا بد من التفكير بالاشتراكية التي تستند إلى التحرر من الاستلاب الاقتصادي ومطورة للديمقراطية وذلك عبر التصدي لتحديات ثلاث:

أ – تحدي السوق عبر تأطيره ووضعه في خدمة إعادة إنتاج اجتماعي يؤمن بالتقدم الاجتماعي ويتم تحقيق أكبر قدر من المساواة.

ب – تحدي الديمقراطية وهذا لا يعني رفض الديمقراطية الحديثة واستبدالها بشعبوية سلطوية؛ بل يتعلق الأمر بتعزيز ديمقراطية سياسية وتطوير الحقوق الاجتماعية وتحكُّم الطبقات الشعبية في إدارة الاقتصاد.

ج – تحدي الاقتصاد المعولم عبر القدرة على تحديد مساحة الهامش لإنماء سياسات مستقلة ذاتيًا للتنمية الوطنية ـ الشعبية وقلب علاقة الداخل / الخارج لصالح الداخل.

ولكن: من يبني الاشتراكية ؟

من الواضح وبعد عرض أهم قراءات “أمين”، يمكننا الاستنتاج بأنه يرسم إستراتيجيات للانتقال دون تحديد فعلي وواقعي للقوى الاجتماعية القادرة والمعنية ببناء الاشتراكية، هذا من جانب؛ ومن جانب آخر فإنَّ “أمين” يرسم إستراتيجياته وكأنَّ الاشتراكية قد تمَّ إنجازها وتحقُّقها واقعيًا، في الوقت الذي تُجابه فيه بعقبات أشد فتكًا وضراوةً. فليبدأ الحوار مع ذاته ومع تعليقات لنا على فكرة هنا أو فكرة هنا.

خلال هذه المرحلة ستكون الغلبة لعناصر إعادة إنتاج المجتمع الرأسمالي، وهذا بديهي بالنسبة لـ”سمير أمين”، وبالنسبة لنا أيضًا، في ظل غياب القوى الاجتماعية أي قوى التغيير ممثلة بالقوى التقدمية الديمقراطية، لأسباب تتعلق بالهيمنة الأميركية وذيليّة البلدان الأوروبية للمشروع الأميركي ولديهم طبعًا المؤسسات والهيئات المجندة لخدمتهم ومراكز الفكر التي تخترع الموضات، والهدف هو ضمان استمرار النهب خدمة للتراكم وضرب أي محاولة لتنمية مستقلة عدا عن التحالف مع الطبقات القائدة في العالم الثالث، وهذه قادرة على احتواء وقمع الانفجارات الشعبية المحتملة؛ لأن مصلحة هذه الأنظمة تكمن بصداقتها وتحالفها مع الرأسمالية المسيطرة عالميًا بالرغم من الخطاب العروبي والقومي الذي نسمعه من هنا وهناك، ولكنها جميعها تعمل على إلحاق شعوبها وليس لديها الاتساق “الاجتماعي ـالإيديولوجي” ولا الثبات السياسي الكافي ولا القدرة “الاقتصاديةـالسياسية” التي تؤهلها لمواجهة هذه الإستراتيجية بإستراتيجية لها طابع الاستقلالية الخاصة. تبلور قوى تغيير حقيقية مرتبطة بفك الارتباط مع الرأسمالية أي مرتبطة بالتناقض الأساس. ولكن ما نشهده هو التعمق في الاندماج العالمي وبالتالي اشتداد التبعية، وما يُبرهن على ذلك هو البدء بتطبيق السياسات الاقتصادية الليبرالية وتحرير الأسواق، وبذلك تُقدم أكبر خدمة للجماهير الشعبية المعنية بالتحرير والتغيير والمقاومة عبر تحريرها اقتصاديًا. والميل الوطني لبعض الأنطمة بما يتعلق بتحسين وضعها وتعديل شروط تنميتها وقواعد التوزيع العالمي للعمل في صالحها.

ومن بين العقبات التي تقف حائلاً بوجه تبلور بديل معني بالتغيير؛ هو تنامي تيار الإسلام السياسي الذي يتواطأ مع الاستعمار الجديد “النيوكولونيالية” ويُسهِّل مهماته ويُعطيه الحجج والذرائع، لأن الإثنان ينقلان الصراع إلى سماوات الأوهام الثقافوية وهذا يُفيد إستراتيجيًا الاستعمار عدا عن التهميش المتزايد ـ الإفقار ـ القمع ـ فشل التنمية وانعدام الحرية والديمقراطية وغياب الدولة الوطنية، هذه الأسباب مجتمعة، دفعت بالحركات الإسلامية إلى الظهور بقوة وأثبتت قدراتها على استقطاب جمهور المهمَّشين الجدد أكثر من قوى اليسار؛ التي يُطالبها “سمير أمين” باستثمار هذه الفرصة التاريخية، أي استقطاب ضحايا التوسع الرأسمالي، ولكن ضعف اليسار وتراجعه والفراغ الذي أحدثه فتح الطريق أمام الإسلام السياسي، وبالمناسبة قلَّما نجد تحليلاً منهجيًا يطال أسباب تنامي هذه الظاهرة، وأغلب كتَّاب الفكر السياسي يقعون في فخ التوصيف والوصفات الفكرية المعلَّبة وتلتبس عليهم التناقضات ليُصبح العدو الأوحد والأكبر هو الحركات السلفية والحل لمواجهة هذه الحركات هو ببناء دولة مدنية علمانية، وبذلك تُبرّأ الأنظمة العربية وتحديدًا أنظمة الريع العربي والبترودولار، والإمبريالية الأميركية، اللتان تعملان على دعم هذه الحركات، لحصار قوى اليسار التي تُقرن التحرير السياسي بالتغيير الاجتماعي. وبالمحصلة فإنَّ الحركات الإسلامية، لا تعدو كونها ردّ فعل رجعي وحل طوباوي لا أكثر، لأنها تُدير ظهرها للمطالب الشعبية ولا تملك برنامجًا وإجابات للمشاكل “الاقتصاديةـالاجتماعية”، برنامجها الدائم والوحيد هو: “الإسلام هو الحل”، في الوقت الذي تمتنع فيه عن نقد الوضع الكومبرادوري للاقتصاد وتعوِّض عن نقصها بطرح “بديل حقيقي” بالخطاب الأخلاقي العام والمائع، وبخطاب ثقافوي يُبالغ في الحديث عن الهوية وفلكلور العودة إلى الاهتمام باللغة العربية وما هو تقليدي في التراث، وما إلى ذلك.

وفي رأينا أن القوى القادرة على صياغة وطرح مشروع مجتمعي ينشد التغيير لصالح الطبقات الشعبية هي: قوى اليسار. ولكن أي دور يمكن أن يلعبه اليسار هذه الأيام وفي هذه الظروف ؟.. وهل هو قادر على جذب جموع المهمَّشين ووصل ما انقطع مع الجمهور، مستفيدًا من أخطاء الماضي ؟!

عن اليسار ودور اليسار بين التشاؤم وتفاؤل الإرادة

أعتقد أن الكلام عن اليسار ودور اليسار وهمومه؛ ما يدعو إلى كثير من التشاؤم وليس إلى التفاؤل، على طريقة مفكِّرنا “سمير أمين” !. هذا اليسار الذي يُعيد تحالفات الأمس ببقائه جناحًا للأنظمة العربية، مما يُذكِّرنا بالملاحظات النقدية التي وجَّهها “سمير أمين” للأحزاب الشيوعية فترة حكم الأنظمة الشعبوية الوطنية، هذه الأحزاب التي لم تخرج آنذاك عن الإطار الأساس للمشروع القومي الشعبوي، متجاهلة أنَّ هذا المشروع يندرج ضمن رأسمالية صرفة، إضافة إلى جهل هذه الأحزاب بالطبقات الشعبية التي كانت مدعوة للدفاع عن مصالحها.. ولم تقترح هذه الأحزاب بديلاً يتجاوز هذه الشعبوية القومية !. فما أن بلغت الأنظمة القومية حدودها التاريخية حتى فقد الشيوعيون مصداقيَّتهم. وهذا يُحيلنا إلى الوضع الراهن لليسار حيث يزداد سوءًا ويُعاني من الأمراض التاريخية نفسها، ويُعيد إنتاج التحالفات نفسها، متواطئًا بين الحين والآخر، مع الخطاب الرسمي العربي، إضافة إلى التهتك الذي ينخر بُنّيته والترهُّل والعجز عن إنتاج ما هو جديد، في الرؤى والمواقف، على مختلف الأصعدة.

الصين الرأسمالية والابتعاد عن الاشتراكية

وبمثابة جسر وصول لبناء عالم متعدد الأقطاب يُفضي إلى الاشتراكية فيما بعد، يعقد “أمين” آماله على التقارب “الروسي ـ الصيني ـ الآسيوي”، لتعديل موازين القوى كمقدمة لإلحاق الهزيمة بالمشروع الإمبريالي الأميركي.. وقتها تتوفَّر الإمكانية لتبلور بديل “تقدمي ـ يساري ـ شعبي”، تحديدًا في أوروبا، مرتكزًا على مقولته الرائجة: إما أن تكون أوروبا يسارية أو لا تكون.

سنبدأ بالصين، سيَّما وأننا لا نملك معلومات موثقة إلاَّ من خلال قراءة “سمير أمين” لها، هذه القراءة إما أن تدبّ التفاؤل فينا أو تجعلنا نتحفَّظ، وهو الأدرى بتحولاتها الاقتصادية والسياسية.

فبعد دراسة مطوَّلة له عن الصين، وعرضه نقاط الضعف والقوة، يخلص “أمين” إلى أنها تتجه نحو الرأسمالية، وبذلك تكون اشتراكية الصين مجرد طريق مختصر نحو بناء الهياكل الأساسية للرأسمالية ومؤسساتها في ظلّ التحالفات التي تجمع سلطة الدولة والطبقة الجديدة من كبار الرأسماليين من القطاع الخاص، والفلاحين الذين زاد ثراؤهم، والطبقات الوسطى المزدهرة، على الرغم من أن (الحزب ـ الدولة)، ما زال يحتفظ باسم “الحزب الشيوعي”: فالذين يُديرون الشؤون الاقتصادية يتَّجهون نحو اليمين، والذين يُمارسون السلطة السياسية يعتبرون أميركا العدو الأكبر !…

إذاً، فالاختيار الرأسمالي للصين بدأت معالمه تتضح بقبول الحزب إحلال الملكية الخاصة محل الملكية الجماعية، على الرغم من أن الرأسمالية غير قادرة على حلّ المشكلة الزراعية لأن توسُّع رأس المال في الزراعة هو تدمير لمجتمعات بكاملها، وحلّ المشكلة الزراعية يقتضي بالتأكيد تجاوز الرأسمالية. ويؤكِّد “أمين” أنَّ البرجوازية الصينية لا تقلّ ابتذالاً عن البرجوازية العربية على الرغم من أن الثورة نقلت الصين إلى الحداثة. إنَّ تفاؤل “أمين” بما يخص الصين ناتج عن ثقته بالطبقات الشعبية التي تتمسَّك بقيم الاشتراكية وقيم الثورة، لأنها تعرف كيف تناضل لانتزاع حقوقها. ولكن: هل الطبقات الشعبية قادرة أن تفرض على الطبقات الحاكمة الصينية تنازلات تجعل (اشتراكية السوق) مرحلة نحو الاشتراكية، في الوقت الذي يزداد اندماج هذه الطبقات الحاكمة في النظام الرأسمالي العالمي، وما يترتَّب عن هذا الاندماج من تنازلات في غير صالح الطبقات الشعبية ؟.. الإجابة برسم مفاعيل الصراعات والتناقضات داخل المجتمع الصيني نفسه !

إفراط بالتفاؤل بصدد: أوروبا.. يسارية !

يُتابع “سمير أمين” نبله الماركسي وتألُّق منهجه، مع جرعة زائدة من التفاؤل، عندما يُقدِّم قراءته لأوروبا التي إما أن تكون يسارية أو لا تكون !.. يستمد “أمين” رؤيته حول إمكانية يسارية المشروع الأوروبي من ان الطبقات الحاكمة تُدافع عن النيوليبرالية المعولمة في حين أن الشعوب لديها رؤية مختلفة. وهناك قوى في أوروبا تؤيد بشكلٍ واضح رؤية أوروبا مختلفة، حيث يتبلور بديل يساري يسمح لرأس المال الأوروبي بخوض المنافسة الاقتصادية في ميدان خالٍ من الألغام وتفرض على الطبقات الحاكمة أن تستثمر أموالها أو فوائض أموالها، التي دأبت على استثمارها في الولايات المتحدة، لتموِّل من خلالها المشروعات الاجتماعية، وهذا بحد ذاته سيؤدي إلى تدهور الاقتصاد الأميركي الطفيلي. وبعدها يتساءل “أمين”: إلى متى ستبقى الأحزاب اليسارية سجينة الرؤية اليمينية ؟.. ومتى تتمكَّن من طرح بديل “سياسي ـ اجتماعي ـ مندمج” ؟!

أما من جهة الحركات الاجتماعية المتواضعة فيرى فيها بذرة لتأسيس مجتمع مدني عالمي يُساهم بالتغيير وتُصبح هذه الحركات الفاعل الحاسم في إنتاج مشروعات مجتمعية خلاَّقة وفاعلة. أعتقد أنه يبالغ في قدرة هذه الحركات، على أهميتها، وهو يُقرّ بذلك أيضًا، ولكن ما ينقصها هو وعي سياسي بالتغيير، والأحزاب التي تصنع السياسة. ولكن هذه الحركات يمكن أن تُشكِّل رديفًا هامًا للأحزاب. وعلى الأحزاب أن تستثمر هذه الحركات لأن تطلعاتها تبقى إصلاحية ولا تربط الظواهر بأسبابها العميقة والحقيقية لأن الرأسمالية قادرة على تفتيت وتمييع هذه الحركات. التسييس يخلق وعي التغيير ووعي التغيير يُفرَض على أرضية الصراع ضد الرأسمالية.

ونصل إلى النقطة الحاسمة والأكثر أهمية وهي تعقيدات الأوضاع في الأطراف، والمعروف أنَّ التراكم عن طريق النهب وقوى الاحتكار وإدارة الأزمات يتطلب حروبًا دائمة وتدخلات دائمة وغالبًا ما تتحمل شعوب الأطراف، وتحديدًا الشرائح الدُنيا، وزر هذه الأزمات. ومن هنا يعقد “أمين” آماله على أن التغيير والثورة والتحول الاشتراكي سيبدأ من الأطراف ويؤجل في المراكز على الأقل لأن التنمية في المراكز خلقت ظروفًا جعلت من الممكن تبلور لنوع من الإجماع والاجتماع وتوزيع فوائد التنمية الاقتصادية على مختلف طبقات الأمة؛ ولو أن الأزمة المالية القائمة على خصخصة الأرباح وتأميم الخسائر برهنت عكس ذلك.

عن اشتراكية الأطراف وحالات “موت الأحزاب”

السؤال المركزي والجوهري: إلى أي مدى التحول الاشتراكي ممكن التحقيق في الأطراف في ظل العقبات الآنفة الذكر ؟.. أعتقد أنَّ هذا التساؤل لا يعدو كونه طوباوي ومسألة التحول ليست مؤجلة بقدر ما هي مستحيلة وتحديدًا في الأطراف، ولكن “أمين” يقترح كمرحلة انتقالية (تحالف وطني ـ شعبي ـ ديمقراطي)، للإنتقال الطويل إلى الاشتراكية وتتصارع خلال هذه المرحلة قوى متعددة تُساهم في تبلور سياسات مناهضة للكومبرادورية.

لا أدري إلى أي مدى تسمح الظروف الواقعية والموضوعية بتبلور قوى قادرة على مناهضة الكومبرادورية وتُلزمها بفك الارتباط في ظل موت السياسة والأحزاب في العالم الثالث.

موت الأحزاب القادرة على تنظيم الطبقات الشعبية للدفاع عن مصالحها وممارسة نضالاتها من أجل تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية التي لا تُمنح وإنما تُنتزع انتزاعًا وتكسب من القاعدة عبر النضال وتكوين وعي اجتماعي مسيَّس وفعَّال. لأنَّ الأحزاب تصنع السياسة ولكن أين الأحزاب التي تنشد التغيير والقادرة على احتواء غضب وتنظيم الطبقات الشعبية واحتضان المثقفين النقديين والمتصالحة مع الأنتلجنسيا المسؤولة وحدها، وعبر الأحزاب، عن نهضة الوعي الشعبي وارتقاءه إلى مستوى الفاعل في التاريخ، لأن طبيعة البنيان والتركيب “الاجتماعي ـ الاقتصادي” المتعدد والمتداخل يفترض وجود هذه الكتلة التاريخية النهضوية لتنتج مشروعها المجتمعي القادر على فرض التغيير. إلاَّ أنَّ موت الأحزاب (ونقصد هنا بموت الأحزاب اختيارها أن تكون جناحًا للأنظمة الكومبرادورية ومحافظتها على التراتبية الهرمية والبنى التنظيمية المترهلة والغير الديمقراطية). وهذا لا يسمح لها أن تتصالح مع العقل النقدي، وحتى المثقفين يتحمَّلون مسؤولية ويُساهمون في تردي الأوضاع إذا أداروا ظهرهم للفكر النقدي وهمّ التغيير.

عن التفاعل الضروري .. مع رؤى “غرامشي”

وهنا الاستعانة بالمفكر الماركسي الإيطالي “غرامشي” تجد مبرِّرها التاريخي وتحديدًا عند كلامه عن “المثقف العضوي”، وأن كل طبقة أساسية تفرز مثقفيها، ويبدو أن البرجوازية الطفيلية لا تتوقف عن تفريخ وفرز مثقفيها المقاولين والمتلبيرلين في ظل انحسار المثقف النقيض، أي المثقف “النقدي ـ الثوري” الطامح للتغيير لعدم تبلور الطبقة النقيض أصلاً، ما أراه مُلحًا هذه الأيام أن تُعيد أحزابنا ارتباطها بـ”غرامشي” أساسًا وتستلهمه كمرشد ودليل عمل هذا الحالم الكبير الذي أكَّد على الصلة واللُّحمة بين المثقفين والبسطاء، واعتبر هذه الوحدة هي ذات الوحدة بين النظرية والممارسة، وعلى المثقفين أن يصوغوا المباديء والقضايا التي تُثيرها الجماهير في نشاطها العملي صياغةً محكمة، وبهذا يُشكلون كتلة ثقافية واجتماعية وتقع على عاتق المثقف أيضًا مهمة الارتقاء بوعي الجماهير عبر صياغةٍ أرقى من الحس المشترك والاتصال بالناس يجعل الفلسفة تاريخية، لذلك يجب على المثقفين ألاَّ يتمايزوا عن البسطاء، و”غرامشي” بهذا المعنى قام بتأميم الماركسية عبر المثقفين، لذلك أصبحت رؤاه ضرورة تاريخية لمجتمعات الأطراف أكثر من أي زمنٍ مضى.

الإنهيارات وقتامة الواقع تدفع فقط المفكرين الحقيقيين والأصيلين إلى الحلم والطوباوبة؛ كما تدفع الزائفين إلى الإنكفاء والتحوُّل. فتحيَّةً لـ”سمير أمين” عندما يستعين بإرادة “غرامشي” المتفائلة وإن دلَّ على شيء إنما يدل على رغبته وإيمانه العميق بالتغيير، والتغيير عند المفاصل الهامة في التاريخ بحاجة إلى حالمين كبار، ولكن ما أرجوه هو أن تستمد الأحلام مشروعيتها من تحقُّقها واقعيًا لتجد تفاؤلية “سمير أمين” وإرادة “غرامشي” مبررهما التاريخي.

فما علينا إلاَّ العمل والبدء وطرد الانتظار.

مراجـع :

ـ سمير أمين : «اشتراكية القرن» ـ 2008 (مركز البحوث العربية والإفريقية).

ـ سمير أمين : «الفيروس الليبرالي» ـ 2003 (دار الفارابي).

ـ سمير أمين : «ما بعد الرأسمالية المتهالكة» ـ 2003 (دار الفارابي)

ـ سمير أمين : «مناخ العصر» ـ 1999 (مؤسسة الانتشار العربي).

ـ سمير أمين : «نحو نظرية للثقافة» ـ 1989 (معهد الإنماء العربي).

ـ سمير أمين : «بعض قضايا المستقبل» ـ 1990 (دار الفارابي).

ـ سمير أمين : «إمبراطورية الفوضى» ـ 1991 (دار الفارابي).

ـ أنطون غرامشي : «دفاتر السجن».

ـ مهدي عامل : «الدولة الطائفية» ـ 1986 (دار الفارابي).

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة