خاص : بقلم – هيفاء أحمد الجندي :
أولاً: لا أُخفي القاريء سرًا، أن الكتابة عن “سمير أمين” تحدٍّ يطال مستويات عدَّة. المستوى الأول: أن تُلمّ بمختلف جوانب مشروعه الفكري القديم ـ الجديد، وأن تكون قادرًا على محاورته، مجادلته والاختلاف معه رغمًا عن التوحُّد الفكري الذي يجمعك به، وألا يمنعك هذا بعد معرفة ولو متواضعة بفكره؛ أن تبقى لذَّة الحب حاضرة عند تناول كتبه وكأنك تقرأه وتحتضن كتابه للمرة الأولى، إنها دهشة دائمة.
هو مفكَّرٌ متطلِّب، بمعنى أنه يدفع قارئه إلى إعمال العقل والتفكير والتزوُّد بمعارف متعددة، وهذا ليس بغريب عن مفكر يستحق وبجدارة لقب الماركسي النقدي المُجّدد والتجديدي.
إنَّ استحضاره، والكتابة عن فكره، هذه الأيام، أكثر من ضرورة وهامة لأن صحفنا ومجلاتنا لم تحتفل وتحتفي به كما يجب، سيما وأنه كُفِّر سابقًا، من قبل “كهنوت” اليسار الجامد وبعض شخصياته القيادية واللامعة، لأنه لم يرَ بالتجربة السوفييتية أكثر من (رأسمالية دولة) وإدارة دولتية للمجتمع، وستصل ذات يوم حدودها التاريخية، وتنقلب إلى رأسمالية برأسماليين.. وهو يُدان أيضًا من قبل جماعات “اليسار الجديد” لأنه ما يزال يتمسَّك بحلمه الاشتراكي كبديل عالمي، إنساني يحمل الخلاص للشعوب في الشمال كما في الجنوب.
جديّته، كمفكِّر نقدي، وكمغاير عن السائد من المفكرين والمثقفين، أنه لم يتعامل مع النص الماركسي بعقل فقهي، ميتافيزيقي وانتهازي، إنما اعتبر الماركسية بناءً غير مكتمل فرأى أن المطلوب اتخاذ موقف نقدي إزاء الأطروحات التي افترضتها الماركسية وذلك على ضوء المنهج الماركسي عينه، وما علينا إلاَّ التحرر من الدوغمائية التي جمَّدت الأطروحات وحوَّلتها إلى حقائق مطلقة ونهائية بسبب الكسل الذهني الذي يُحلُّ التجمُّد الفكري في قراءة النصوص محل المجهود المستمر لتطوير النظرية، ولا يمكن تعميم ما توصَّل إليه “ماركس” على كل زمان ومكان وإنما كل مرحلة تاريخية لها خصوصيَّتها وتفرز تناقضاتها وصراعاتها وتحوُّلات قواها.
عن أطروحته حول: “نمط الإنتاج الخراجي”
هذا الرأي الجريء، أغضب بعض الذين كانوا وما زالوا يتعاملون مع النظرية بصنمية وقدسية مما دفع البعض إلى أن ينقلب مع الانقلابات ويتحوَّل عند التحولات، على العكس من تماسك “سمير أمين” الفكري ونقديَّته المستمدة من وفائه للمنهج المادي ـ الجدلي و”خيانته” للنص هذه الخيانة وهذا الوفاء، جعلاه يُطلق على جميع أشكال الإنتاج في المجتمعات الطبقية السابقة على الرأسمالية ما سًمِّي (بنمط الإنتاج الخراجي)، حيث المستوى الإيديولوجي هو المهيمن في هذه المجتمعات واستخراج الفائض خاضع لهيمنة البنية الفوقية حيث السلطة هي التي تتحكَّم بالثروة على عكس المجتمعات الرأسمالية حيث الثروة هي التي تتحكم بالسلطة.
والإيديولوحيا المهيمنة في هذه المجتعمات هي الميتافيزيقيا التي تُعطي شرعية لهذا الوضع من خلال اعتمادها على احترام المقدس، وهذا ما يُفسِّر الشفافية في مجالات عدم التكافؤ في توزيع الثروة والسلطة. لم يكتفِ “سمير أمين” فيما بعد بمفهوم (نمط الإنتاج الخراجي)؛ الذي ينقض من خلاله الأطروحة الثقافوية الأوروبية التمركز، والتي ترى أن هناك تعارضًا بين التتابع (عبودية ـ إقطاع ـ رأسمالية) الخاص بالغرب، والمنفتح على التقدم اللاحق، ودوران نمط الإنتاج الآسيوي الذي سدَّ باب التقدم، بل قدَّم نظريته المعروفة حول (النمو والتطور اللامتكافيء) حيث أن مرحلة معيَّنة من التطور تبدأ عادة من أطراف النظام “الأطراف المتخلِّفة” بالمقارنة مع المراكز المتطورة، لأن الأطراف تتمتع بمرونة يُندر أن تتواجد في المراكز المتقدمة والمتجمدة. وحتى الإيديولوجيا الخراجية تتخذ أيضًا شكلاً مكتملاً في المراكز وغير مكتمل في الأطراف مثل الصين حيث المجتمع الخراجي المكتمل تجمد وتخلَّف بينما الياباني الطرفي، المتأخر والأقل نموًا أنجز القفزة إلى الرأسمالية.
التطور اللامتكافيء يُفسّر ظاهرتين إثنتين وهما:
أ ـ ظاهرة إنجاز القفزة الكيفية من النظام السابق إلى الرأسمالية في الأطراف الأوروبية الإقطاعية.
ب ـ ظاهرة الثورة ضد مقتضيات التوسع الرأسمالي التي فتحت مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية والتي بدأت من أطراف المنظومة الرأسمالية.
هذا التطور لا يقتصر على مجال دراسة أشكال نمط الإنتاج ومميزات البناء التحتي بل يشمل تأملات حول البناء الفوقي، ولذلك توقف المجتمع العربي في تطوره عن المجتمع الأوروبي، وهذا لا يعود إلى سمات خاصة بالعقائد الدينية، على الرغم من إقرار “أمين” بمرونة بعض الأديان، وقابليَّتها للتكيُّف والتطور، إنما هذه المجتمعات بحاجة إلى النضال من أجل تقدم الأوضاع الاجتماعية من جانب، وإلى التحدي على جبهة الفكر والتي تزداد تعقيدًا بتنامي المدّ السلفي والصحوة الإسلامية التي تغزو العالم العربي، وهؤلاء يصرّون على خطابهم الثقافوي الذي يتلاقى ولا يتعارض مع نظرية الثقافة الأوروبيّة التمركز القائمة على التباين (غرب/شرق) وأن كل مجتمع له خصوصياته الثابتة ! وهذا يُذكَّرنا بالمستشرقين الذين اعتبروا أن تفوُّق الغرب هو ناتج خصوصياته الأصلية.
ويُعتبر “إدوار سعيد” واحدًا من المفكرين الذين قدَّموا نقدًا لنظرية الثقافة الأوروبية. لكنه لم يطرح بديلاً عالمي الطابع ليحلَّ محل الرؤية الأوروبية، بل اكتفى بإبراز عناصر التشوه على أنه سمة دائمة في الثقافة الغربية. مما دفع “سمير أمين” ومعه “صادق جلال العظم” لمحاورته والاختلاف معه وليعلنا أنها وحدها الماركسية اكتشفت طبيعة النظام الحقيقية وفكَّت رموز الرأسمالية.
في نقد بيروقراطية الدولة السوفياتية
أولى ملاحظات “سمير أمين” النقدية التي وجهها للماركسية التاريخية “المبتذلة” – على حد تعبيره – “أنها تواطأت ووقعت في فخ التفسير الأوروبي التمركز (عبودية/ إقطاع/ رأسمالية) والطريق الآسيوي الذي جمد التطور” وهذا التواطؤ من قبل الماركسية التاريخية كان نتاجًا للتحولات التي طالت الدولة السوفييتية البيروقراطية التي مهَّدت الطريق للديكتاتورية التعسفيّة باسم البروليتاريا ولانفراط التحالف الشعبي العمالي ـ الفلاحي، وأصبحت الدولة غير ديمقراطية مما شجَّع تبلور الطبقة الجديدة “البيروتكنوقراطية”؛ التي انفردت في صنع القرار، وقتها قام النظام بترويج صورة مبتذلة للماركسية مفادها أن الدولة السوفياتية أنجزت فعلاً أهداف الاشتراكية في الوقت الذي يجري فيه استغلال الفلاحين ضمن إطار التعاونيات التي تديرها الدولة.
ولذلك فإن الأحزاب الشيوعية آنذاك، والتي كانت تعيش حالة من التبعية المطلقة والذيلية للأم الحنون “الدولة السوفياتية”، هاجمت “سمير أمين” على كشفه وجرأته وتحليله للنموذج السوفياتي.. ولن نقول أن التاريخ أثبت صحة وجهة نظره وإنما أثبت فهمه العميق للمرجعية الفكرية وتألُّق منهجه الماركسي (المادي ـ الجدلي) اللذان أوصلاه إلى هذه الاستنتاجات الهامّة والعميقة في سياق عرض مكامن التجديد في فكر “سمير أمين” وملاحظاته النقدية على الماركسية التاريخية والأحزاب الشيوعية.
في هذا السياق لا يمكن أن نتخطَّى ونتجاوز ما ابتدعه “مهدي عامل” بخصوص (نمط الإنتاج الكولونيالي). إذ لم يمنعه التزامه الحزبي وإعلائه من شأن الفكر ونصوصيَّته الناتجة عن صرامة منظومته الفكرية، أن يغفل التناقضات ويُدير ظهره لخصوصية التركيبة اللبنانية والبناء الاقتصادي ـ الاجتماعي لها، وذلك في معرض تحدُّثه عن الشروط التاريخية لتكوُّن الرأسمالية في لبنان بمعنى أن الشروط التاريخية التي تحقَّقت فيها عملية تكوُّن الرأسمالية في لبنان (طور التكوُّن) هي الشروط التي دخلت فيها الرأسمالية كنظام عالمي وكنمط مسيطر في طور أزمتها. والمأساة في لبنان أن الرأسمالية فيه لم تعرف الطور الصاعد بل عرفت طورًا واحدًا وهو طور أزمتها بدخولها في طور تكوينها، فكان هذا الطور هو طور الأزمة وبُنيتها أزموية وتطورها ملجومًا، ولذلك كانت (رأسمالية كولونيالية).
في تحولات ظاهرة “الاستقطاب”
وبالعودة إلى موضوعات الدكتور “أمين” التجديدية والتي تجلَّت بتحليله وتناوله لظاهرة (الاستقطاب)، والتي تُعتبر من أهم تناقضات الرأسمالية الملازمة لها منذ اكتمال شكلها وتتمظهر بالفجوة بين البلدان الرأسمالية وبلدان العالم الثالث، وتزايدت هذه الفجوة بعد انهيار المنظومة المسمّاة اشتراكية وتراجع وتآكل دول الرفاه مما ساهم في تفاقم التفاوت على صعيد إنتاجية العمل ومستويات المعيشة، فكانت الفوضى المطلقة واتخاذ (الاستقطاب) أشكالاً جديدة. السؤال الذي يطرح نفسه: كيف تناول “سمير أمين” ظاهرة (الاستقطاب) التي ميزت طرحه عن “طروحات” الماركسية التاريخية ؟
يعتبر الدكتور “أمين” أن الاستقطاب ناتج عن ممارسة “قانون القيمة” على الصعيد العالمي، ولكن أي قانون للقيمة ؟.. هنا يُمّيز “أمين” بين (قانون القيمة) المجرد والعام والذي يُحدد الرأسمالية كأسلوب إنتاج و(قانون القيمة المعولم) الذي يُعطي للرأسمالية شكلها الملموس والمترافق مع انتشارها العالمي. والفرق بين الإثنين: الأول، أي المجرَّد، يقوم على اندماج السوق بكل أبعاده (سوق منتجات العمل الاجتماعي، وسوق الرساميل، وسوق العمل) أما (المعولم) فهو مبتور ومجتزأ في السوق العالمية لأنه يستبعد (قوة العمل) وبالتالي يلجأ (قانون القيمة المعولم) إلى تفتيت نظام الإنتاج في الأطراف وتعزيز التبعية وإعادة إنتاج الأشكال المشوهة والقديمة والخاضعة لمنطق التراكم. ويُعتبر هذا القانون تعبيرًا مكثفًا عن هذه الشروط التي تُعطِّل تصنيع الأطراف وتُبخس العمل المشيَّأ في منتوجاتها، في حين أنها تُبالغ في تثمين القيمة المضافة المرتبطة بنشاطات الاحتكارات الجديدة لمصلحة المراكز، فهي تُنتج تراتبية جديدة في توزيع الدخل على المستوى العالمي الأكثر تفاوتًا من الماضي وتُخضع صناعات الأطراف وتحولها إلى نشاطات من الدرجة الثانية.
والمعروف أن أجر العامل يتساوى عند تساوي الإنتاجية. أما (قانون القيمة المعولم) فهو يُحقِّق أجورًا غير متساوية عند تساوي الإنتاجية، في حين أن أسعار المنتجات وربح رأس المال يتجها نحو التساوي على المستوى العالمي ونتيجة لهذه الأوضاع يُنتج (الاستقطاب).
لم تتوقف اجتهادات “سمير أمين” هنا، بل كان له الفضل والريادة في التمييز بين الرأسمالية القائمة بالفعل والرأسمالية الخيالية التي تتحكَّم فيها قوانين اقتصادية محضة مثل: (السوق ذاتي التضبيط والأسواق الغير مقننة، السوق يُدير نفسه بنفسه ويُحقق التوازن الدائم). أما الرأسمالية القائمة بالفعل، فلا يمكن الفصل بين صراع الطبقات (السياسة ـ الدولة) ومنطق التراكم الرأسمالي، لأنَّ الرأسمالية نظام تتكرر فيه حالات الاختلال بسبب المواجهات الاجتماعية السياسية التي تكمن فيما وراء السوق، وحتى التنافس بين رؤوس الأموال فهو يلغي إمكانية تحقيق توازن عام. إذاً، لا يمكن قيام الرأسمالية خارج إطار صراع الطبقات أو الصراع بين الدول، وما يُبرهن على ذلك، الأزمة المالية التي عصفت بالعالم والتي دفعت بالدول إلى التدخل لإدارة الأزمة واستلهام “كينز” دون “سميث”، و”كينز” المعروف بنقده للرأسمالية دون الاهتمام بطبيعتها ولا بالاستقطاب والاستلاب الاقتصادي اللذان تولداه، إنما كان اهتمامه منصبًا على إدارة النظام لتجاوز الأزمات وإحدى مخارجه لإدارة الأزمة: دفع الدول للإتفاق العام كحلِ لفيض الإنتاج عدا عن اقتراحه تضبيط الأسواق.
بعد اكتشاف “أمين” لقانون القيمة المعولم المولِّد للاستقطاب، تعود الماركسية التاريخية وتعاود مطباتها النظرية، وتحديدًا عندما فسَّرت انتشار الرأسمالية كمرادف لتوسُّع أسلوب الإنتاج الرأسمالي ومغفلة دور قانون القيمة المعولم المولِّد للاستقطاب والذي يتم تفسيره بقوانين التراكم الرأسمالي وليس بمقاومة الواقع السياسي والثقافي لهذا التراكم، وبذلك تكون، أي الماركسية التاريخية، وقد قبلت الفكرة وفسٍّرتها بفرضية منافية لما هو اقتصادي ليأتي الأمر وكأنه انتصار لمقاومة ما هو سياسي أو ثقافي.
وبما أن التراكم عن طريق النهب، يتطلَّب حروبًا دائمة لإخضاع شعوب التخوم والتي بدأت، ولن تنتهي، بالاحتلال الأميركي للعراق، وتزامنًا مع هذا الحدث، انبرى بعض الليبراليين العرب الذين غادروا مواقعهم الماركسية، لأنهم ناطقون بالماركسية وبالليبرالية زورًا وبهتانًا، ويتطابق ذلك مع الوعي الزائف، الانتهازي المهووس بالوصول، حينها بدأوا يُمطروننا بشتى النظريات والوصفات السحرية والكلية القدرة لإخراج المجتمعات العربية من تخلُّفها ومواتها التاريخي، وأهم هذه الوصفات أن الليبرالية السياسية رفيقة درب الليبرالية الاقتصادية، أما الديمقراطية فلا تعدو كونها مسألة سياسوية لمقارعة الاستبداد. والبعض الآخر وتحت مُسمى التجديد والاجتهاد، بدأ يستلهم من قيم الثورة الفرنسية والحداثة الأوروبية، وهذا ما يفسر إعلائهم لقيمة الحرية دون المساواة وهم يدركون أن الحداثة مرتبطة بصعود الرأسمالية في الغرب، وإنها قامت في البداية على الفصل بين المجال السياسي والاقتصادي. ولوقت ليس بالبعيد، كان الاقتراع حكرًا على الذين ينعمون بملكة العقل أي الأغنياء دون الفقراء والرجال دون النساء.
وسط هذه الفوضى من الآراء والطروحات الأقرب إلى التعميم والاختزال من جانب، والضبابية الفكرية من جانب آخر، كان لـ”سمير أمين” رأي واجتهاد بما يخص الديمقراطية ميَّزته عن رفاقه النيو نقديين والنيوتجديديين، ومن موقعه النقدي هذا ابتدع ما اسماه: (الديمقراطية المنخفضة التوتر). وتعني هذه المقولة أن المرء يقترع لمن يشاء والجميع متساوون أمام صندوق الاقتراع ! ولكن ضمن ظروف السوق الناشئة يبدأ التفاوت لأن الديمقراطية خاضعة لمتطلبات الرأسمالية المتوحشة والليبرالية الاقتصادية التي هي عدو الديمقراطية، وعندما تُطرح ببعدها السياسي تُفرغ من مضمونها الحقيقي إذ لا منجزات ديمقراطية، ولا ديمقراطية سياسية دون تقدم اجتماعي، وعندما تطرح ببُعدها السياسوي أيضًا تُقدم أكبر خدمة لقوى ثلاث: (النيولبراليون ـ المستبدون ـ والسلفيون) لأن عددهم واحد وهو: الطبقات الشعبية.
إذاً، الديمقراطية الحقيقية وغير الزائفة، تبدأ بالاعتراف بحقوق الطبقات الشعبية والمضطهدة.. وأن التنكر لمصالح الشعوب، كما اسلفنا، ليس حكرًا على أميركا وإنما تُشاركها في هذا التنكر الأنظمة الكومبرادورية والتي تقتصر وظيفتها على إدارة السوق، وتحديدًا في ظل تعميق العولمة الاقتصادية والتي تتزامن وتترافق مع تفتيت الدول والدول ـ الوكالات إلى أشكال ما قبل دولتية، لأن الممارسات التفتيتية والإحساس بالتضامن الإثني ـ القبلي يُفرغ الديمقراطية ويجعلها عاجزة أمام آليات السوق. بهذا الخصوص، فإنَّ “سمير أمين” لا يقف موقف الضد والرافض للحداثة وهو الذي اعتبرها انقلابًا فكريًا وسياسيًا وإيديولوجيًا، وجعلت من الإنسان صانع تاريخه، ولكنه يقترح تطويرها كي تُساهم الشعوب وتُشارك في صياغتها وصياغة قيم عالمية ـ إنسانية مرتبطة حتمًا بتجاوز الهيمنة الرأسمالية.
وأمام انسداد الآفاق وقتامة الواقع يستعين “سمير أمين” بالإرادة المتفائلة للماركسي الإيطالي “غرامشي”، ولكن ما الذي يمكن أن تُبثّه هذه الإرادة المتفائلة أمام تحالف رأس المال المعولم والممثل بالهيمنة الأميركية ومن ورائها المراكز الرأسمالية والأنظمة الكومبرادورية والإسلام السياسي متشابكة مع بعضها البعض. وبالرغم من تبايناتها وتناقضاتها الثانوية يبقى هدفها واحدًا ووحيدًا وهو خنق وحصار قوى التغيير الحقيقية: “البديل الوطني التقدمي” الذي يمكن أن يُساهم، إن وجد، في تعديل ميزان القوى ليفرض خياراته.