16 نوفمبر، 2024 11:38 م
Search
Close this search box.

العلامات.. قصة قصيرة

العلامات.. قصة قصيرة

 

كتب: أمين الساطي

بدأت القصة معي منذ حوالي شهرين، عندما كنت جالساً على المقعد بجانب سائق التاكسي، حينما لفتت انتباهي الأرقام الموجودة على لوحة الباص الذي أمامي، لقد اكتشفت بالمصادفة، بأن اللوحة تبدأ برقم خمسة ثم واحد، وهذا الرقم واحد وخمسون، يصادف بأنه السنة الميلادية التي ولدت فيها، بعدها جاء الرقم صفر، تلاه رقم ثلاثة، ثم واحد، فأصبحت محصلة مجموع هذه الأرقام الأخيرة أربعة، فسَّرتها على أنها إشارة ضمنية إلى شهر نيسان الذي ولدت فيه، من تطابق هذه الأرقام، تأكدت أنها إشارات خاصة، أخذت تخاطبني بها القوى الخفية الموجودة في هذا الكون، مستغلةً بعض العلامات التي تستعمل فيها لغة الأرقام، وعلى الرغم من علاقتي العضوية بالرقم أربعة، فأنا أكره هذا الرقم السحري، لأنه رقم مشؤوم عند الصينيين. فهو يلفظ بلغتهم بشكل سيئ، وهو يماثل لفظ كلمة الموت، ما دفعني إلى الشعور بالخوف والقلق منه. بالنهاية لم أجد بداً، من أن أحاول أن أستفيد من هذه العلامات، لحل مشاكلي التي لا تنتهي.

إلا أن حقيقة الأمر، هي أني أعمل مدرساً للرياضيات في مدرسة ثانوية، وراتبي بالكاد يكفيني حتى نهاية الشهر، فأكثر من نصفه يذهب لدفع أجرة غرفة الغسيل التي أسكنها على سطح البناء، التي حولتها صاحبتها الأرملة إلى غرفة سكن مفروشة، وزاد من جشعها، بأنها ضاعفت أجرتها في هذه السنة بحجة غلاء المعيشة، ما زاد من معاناتي في هذه الظروف الصعبة التي أعيشها.

والآن بدأت أبحث عن الأرقام، وأحاول أن أربط بعضها ببعض، لكي أتمكن من فك الشيفرة التي ترسلها لي هذه القوى المجهولة، فالأرقام ليست مجرد أشكال هندسية، إنما هي مخلوقات حية مثلنا، تعيش بيننا، وتتفاعل معنا، ولها مفاهيمها ومعانيها المدهشة، ولها انعكاسات على حياتنا، وعلى مجرى الأحداث التي نعيشها.

فأصبحت أمشي في الطرقات، وأقرأ أرقام السيارات محاولاً ربطها بالأمور التي تجري من حولي، حتى إنني في الأسبوع الفائت، ذهبت إلى السينما، واخترت مقعداً رقمه واحد في الصف الخامس، وهي سنة تاريخ ميلادي نفسه، وكان هدفي أن أعيش تجربة هذا الرقم من جديد، وأتقرب منه، عسى أن يساعدني على حل مشاكلي المادية، لكن لسوء الحظ ، فلقد حضر رجل وزوجته يحملان بطاقتين، إحداهما تحمل رقم الكرسي نفسه الذي أجلس عليه، طلب مني بلطافة أن أنتقل من هذا المقعد، فرفضت ذلك بشدة، واحمرت عيناي من الغضب، وخطر لي أن أصفعه على وجهه أمام زوجته، لتعرف قيمته الحقيقية.

خاف من تعابير وجهي، فابتعد مع زوجته عني، وذهب وشكاني إلى الموظف الذي يعمل مرشداً في السينما، فجاء الرجل، وطلب تذكرتي، وبعد أن فحصها أشار عليَّ بأن أغير مكاني، وأجلس في المقعد المسجل على تذكرتي، فقدت في لحظتها السيطرة على أعصابي، وتصورت بأنها مؤامرة ضدي، فلكمته على صدره، ورفضت تغيير مقعدي، فانسحب بهدوء، وعاد بعد قليل ومعه شرطي، اصطحباني بالقوة إلى مخفر للشرطة قريب من موقع السينما، ثم جاء شاب برتبة ملازم أول، وفتح محضر تحقيق بالقضية.

سألني عن عملي، وفيما إذا كنت أتعاطى المخدرات، وبعد أن تأكد من السجلات الموجودة على الكومبيوتر، بأنني لست من أصحاب السوابق، انتابه نوع من الشفقة، لمنظري المضطرب وعصبيتي الزائدة وسلوكي العدواني، وأحس بمشاكلي النفسية، فأقنع مرشد السينما بأن يتنازل عن حقه الشخصي، وطلب مني بالمقابل أن أعتذر منه، وتمّ إطلاق سراحي بعد أن تعهدت خطياً بأنني لن ألجأ إلى  استخدام العنف مرة ثانية.

وبينما أنا أهم بمغادرة المخفر، همس الملازم في أذني، بأنه من الأفضل وأنا أمر بهذه الظروف الصعبة، أن أراجع طبيباً نفسانياً، ليساعدني على تخطيها، فوعدته بذلك، لكنني في أعماق نفسي، اعتبرت هذه الحادثة بأنها علامة من السماء، تؤكد لي بأنني أسير على الطريق الصحيح.

إن أكثر الأشخاص الذين أراهم من حولي لا يفهمون الرياضيات، ولا يعرفون قيمة الأرقام، ولقد حفظت عن ظهر قلب مقولة لأنشتاين: “إذا لم يشك شخص واحد أسبوعياً بأنك مجنون، فأنت لا تحدث تأثيراً حقيقياً في العالم”. ولطالما اعتبرت أنشتاين مثلي الأعلى في الحياة، وكنت خلال دراستي بالجامعة، دائماً أحلم بأن أكون مثله، لكن الذي بدأ يزعجني بالفترة الأخيرة أنني أصبحت أسمع طنيناً مستمراً في أذني اليمنى، ما جعله يحرمني من النوم المستمر بالليل، فاضطررت لزيارة الطبيب، فأعطاني بعض المهدئات والفيتامينات، وطلب مني أن أراجعه بعد أسبوعين، إذا لم تتحسن حالتي.

مضت عدة أيام، ولم تخف شدة الطنين في أذني، ما أثر في نمط نومي خلال الليل، وجعله متقطعاً، فزاد من شعوري بالتوتر والإجهاد، أصبحت أتمشى في الطرقات، وأنا مركز على أرقام لوحات السيارات التي تمر أمامي، محاولاً أن أجد منها إشارة تفسر ما يحدث معي، فجأة خطر لي أن سبب هذه المشكلة، ربما قد يكون مرتبطاً بأرقام وتواريخ ولادة صاحبة الغرفة التي استأجرتها، فعدت فوراً إلى غرفتي وراجعت عقد الإيجار، فوجدت أن اسمها الأول نوال، يتكون من أربعة أحرف، أما اسم كنيتها نوري، فيتكون لسوء الحظ أيضاً من أربعة أحرف، وهذا الرقم في اللغة الصينية يعني الموت، فتأكدت من دون أدنى شك، بان اسمها سبب لكل هذه المشاكل التي أمر بها.

حاولت أن أقمع هذه الأفكار والمخاوف غير المنطقية، التي بدأت تسيطر على تفكيري، جربت أن أتجاهلها، لكنها تخيلات عنيدة غير إرادية، ترفض أن تتركني لحالي، استمرت هذه الوساوس بإزعاجي، ولم أتمكن طوال ليلة البارحة من النوم ولو لدقيقة واحدة، ما أفقدني توازني، عندما طلع الصباح، كنت على وشك الانهيار، فكان لابد لي من التصرف للتخلص من هذه الوساوس.

قرعت الجرس عدة مرات، حتى فتحت الأرملة الشمطاء الباب، كان يبدو من شكلها أنها كانت نائمة، وأنها استيقظت على صوت دقات الجرس، لما شاهدتني، ارتبكت وظهر عليها الارتياب، ولعلها خافت من منظر تقاطيع وجهي وجسمي المرتعش، فحاولت أن تغلق الباب، فوضعت قدمي في شق فتحة الباب، ودفعته باتجاهها، فأخذت تصرخ لتلفت انتباه الجيران، وركضت باتجاه غرفة الجلوس، فأسرعت خلفها وجذبتها من شعرها، وألقيتها على الكنبة الموجودة بالغرفة، وجلست فوقها لتثبيتها، لكي أتمكن من وضع يدي على فمها لإسكاتها، حتى لا يتجمّع الجيران على صوتها، لم يكن في نيتي أن أقتلها، لكنني كنت أود أن أحذرها، لكي تتوقف عن إلقاء لعنة التعويذة العائدة للرقم أربعة، ولا أدري كيف أتتها القوة، فأخذت مزهرية البورسلين الموجود على الطاولة بجانب الكنبة، التي كنّا نتصارع عليها، وضربتني بها على رأسي.

لما فتحت عينيَّ، وجدت نفسي ممدداً على السرير، والضمادة على رأسي، وكانت أفكاري مشوّشة، ولم أستوعب في لحظتها، ما يدور من حولي، بعد فترة قصيرة، جاءت الممرضة مبتسمة: “لا تخف، أنت في مستشفى الأمراض العقلية، وإن شاء الله، بعد فترة قصيرة من العلاج، ستعود إلى حياتك الطبيعية”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة