وكالات – كتابات :
منعت “الصين” تصدير بعض منتجاتها إلى “تايوان”؛ وضمنها الرمال الطبيعية المستخدمة في صناعة الرقائق الإلكترونية، فما أهمية هذه الرمال، وهل بدأ الحصار الصيني لـ”تايوان”، وكيف سيؤثر ذلك على اقتصاد العالم ؟
وأُوقفت “الصين” بعض مناحي التجارة مع “تايوان”، في خطوة انتقامية ردًا على زيارة رئيسة “مجلس النواب” الأميركي؛ “نانسي بيلوسي”، المُثيرة للجدل، مطلع الشهر للجزيرة المنشقة عن “الصين”، فيما تدعي “الولايات المتحدة” إنها جزءًا من “الصين الواحدة”، ولكن لا تعترف بسيادة “الحزب الشيوعي” الحاكم في “بكين” عليها.
وتشمل القيود تعليق بعض واردات الفاكهة والأسماك من “تايوان”، وتصدير الرمال الطبيعية إلى الجزيرة والتي تُستّخدم في صناعة الرقائق الإلكترونية بـ”تايوان”.
موجة التضخم الحالية سببها “تايوان”..
وكان نقص إنتاج الرقائق الإلكترونية في “تايوان”؛ بسبب جائحة (كورونا)، قد تسبب في أزمة بسلاسل التوريد، أدت إلى نقص في العديد من المنتجات، خاصةً السيارات وبصورة أقلَّ الهواتف المحمولة، وكانت سببًا رئيسًاً في موجة نقص السلع والتضخم التي أصابت العالم، بشكل غير مسبوق منذ عقود.
وتُعد “الصين” أكبر شريك تجاري لـ”تايوان”، حيث بلغت قيمة التجارة الثنائية: 273 مليار دولار في العام الماضي، وهو ما يُمثل: 33% من إجمالي تجارة الجزيرة مع بقية العالم، وفقًا للحكومة التايوانية.
يشعر الخبراء، بالقلق أيضًا من التأثير المحتمل للتوترات المتصاعدة بين “تايبيه” و”بكين”؛ على صناعة أشباه الموصلات في “تايوان”.
حيث تُعد الجزيرة ذاتية الحكم، التي يبلغ عدد سكانها: 24 مليون نسمة، هي الرائدة عالميًا في مجال تصنيع وتوريد رقائق أشباه الموصلات، التي تُعد مكونًا حيويًا لجميع الأجهزة الإلكترونية الحديثة تقريبًا، من السيارات إلى الثلاجات إلى الهواتف المحمولة.
وتحتكر “تايوان” تقريبًا هذا المُنتج المرتبط بالأمن والاقتصاد، فهي تُنتج: 63% من حصة سوق أشباه الموصلات العالمية؛ وما يقرب من: 90% من الرقائق الأكثر تقدمًا، حيث بلغت قيمة إنتاجها من هذه الصناعة؛ في عام 2020، 107.53 مليار دولار أميركي.
و”شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات”؛ (TSMC)، العملاقة أكبر مصنع تعاقُد للرقائق في العالم، وتلعب دورًا مهمًا في تشغيل المنتجات المصممة من قِبل شركات التكنولوجيا مثل: (Apple) و(Qualcomm) و(Nvidia).
والشركة التايوانية (TSMC)؛ واحدة من أكثر الشركات قيمة في “آسيا”، وتُمثل: 90% من الرقائق فائقة التطور في العالم.
وفقًا لتقديرات “جمعية صناعة أشباه الموصلات” الأميركية، فإن حدوث خلل كامل في سلسلة توريد أشباه الموصلات العالمية، من شأنه أن يتسبب في خسارة سنويةٍ قدرها: 490 مليار دولار أميركي في الإيرادات لمُنتّجي الأجهزة الإلكترونية العالميين بجميع أنحاء العالم.
وتسعى القوتان العظميان، “الولايات المتحدة” و”الصين”، يائستين للحاق بركب بطل التكنولوجيا الفائقة في “تايوان”؛ أي شركة (TSMC)، فيما تمتلك (TSMC) استثمارات في “الصين” وتدرس في الوقت ذاته توسيع خططها الحالية لضخ مليارات الدولارات في مصانع بولاية “آريزونا” الأميركية.
هل يؤدي تعليق تصدير الرمال إلى أزمة في صناعة الرقائق العالمية ؟
أوقفت “وزارة التجارة” الصينية صادرات الرمال الطبيعية إلى “تايوان”، وهي مُكّون رئيس لإنتاج رقائق أشباه الموصلات.
رقائق الكمبيوتر تُصنع من “السيليكون” المستخرج من الرمال، ولكن ليس أي نوع من الرمال، فرمال الشاطيء العادية غير صالحة لتصنيع رقائق الكمبيوتر غالبًا. إذ تتطلب صناعة أشباه الموصلات رمالاً تحتوي على نسبة عالية جدًا من “الكوارتز” من صخرة تُسمى “الكوارتزيت”، تتشكل هذه الأنواع من الصخور من الرمال التي تم ضغطها معًا بمرور الوقت وتم تسخينها في أعماق الأرض، بحيث اختفت جميع العناصر الأخرى تقريبًا من الصخور.
يمكّن “الكوارتز” عالي النقاء أجزاء من أشباه الموصلات من تحمُّل درجات الحرارة القصوى لمعالجة الرقائق. ويؤدي الاستخدام المتزايد لرقائق الجيل الجديد في أشباه الموصلات إلى زيادة الطلب على “الكوارتز” عالي النقاء.
ولذا كان تعليق “الصين”؛ لصادرات الرمال الطبيعية، التي تُستخدم في صناعة أشباه الموصلات التايوانية، هو ما أثار قلقًا عالميًا، وليس صادرات الفاكهة أو الأسماك.
فأي أزمة جديدة في صناعة أشباه الموصلات التايوانية ستكون لها آثار فادحة على العالم، الذي يُعاني أصلاً من أزمة سلاسل التوريد الحالية.
كما أن الأمر سيكون كارثيًا بالنسبة لـ”تايوان”، فبعد سنوات من الطلب الهائل، تُشكل أشباه الموصلات الآن ما يقرب من: 40% من الصادرات التايوانية؛ ونحو: 15% من الناتج المحلي الإجمالي.
“صناعة أشباه الموصلات مهمة أيضًا لأمن تايوان، لأنها ترفع أهمية تايوان الإستراتيجية للبلدان الأخرى، خاصةً الولايات المتحدة وأوروبا الغربية”.
وردًا على قرار “الصين”، قال مسؤولون في “تايوان” إن تعليق “بكين” حظر تصدير الرمال؛ سيكون له تأثير: “محدود”، لأن الرمال الصينية تُمثل: “أقل من: 1%” من إجمالي احتياجات “تايبيه”.
هل بدأ الحصار الصيني لـ”تايوان” ؟
وتأتي القيود الصينية على التجارة مع “تايوان”، في وقت قال فيه الجيش الصيني؛ عشية زيارة “بيلوسي”، إنه سيشن سلسلة من: “العمليات العسكرية المستهدفة؛ لمواجهة الوضع”. وبالفعل عقب زيارة “بيلوسي” نفذ الجيش الصيني مناورات بحرية وجوية وصاروخية أحاطت بالجزيرة من كل جوانبها، وأفضت إلى ما يُشبه الحصار الصيني لـ”تايوان” بشكلٍ فعلي لعدة أيام، حيث أثر على حركة الملاحة الجوية والبحرية.
وتأتي زيارة “بيلوسي” في لحظة متوترة بالنسبة لـ”الصين”. حيث سيخضع “الحزب الشيوعي” لتعديل وزاري في مؤتمر الحزب العشرين هذا الخريف. ومن المتوقع أن يسعى الرئيس الصيني؛ “شي جين بينغ”، خلال الاجتماع، إلى ولاية ثالثة بالسلطة، حسبما ورد في تقرير لموقع شبكة (سي. إن. إن) الأميركية.
كما بدأت الآلة الدعائية الأميركية في تكثيف حملاتها الإعلامية المعتادة للتشويه واستهداف “الحرب النفسية” ضد “الصين، مدعية أن التوترات المحلية عالية في “الصين”، كما تزعم تقارير إعلامية غربية، مدعية انزلاق اقتصاد البلاد إلى أدنى معدل نمو منذ أكثر من عامين، وسط عمليات إغلاق صارمة لمواجهة فيروس (كورونا)، وتراجع سوق العقارات. بالإضافة إلى الزعم بارتفاع نسبة بطالة الشباب إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق. والإدعاء بتصاعد الاحتجاجات الاجتماعية بسبب أزمة الرهن العقاري على مستوى البلاد، وسلسلة فضائح البنوك الريفية.
كيف ستؤثر الأزمة على سلاسل التوريد العالمية ؟
يشعر التجار والمحللون بالقلق من تصاعد التوترات بين “الصين” و”تايوان” وتأثيرها على سلسلة التوريد العالمية وتوقعات التضخم.
تراجعت الأسواق العالمية عشية المناورات الصينية حول “تايوان”، حيث أغلقت مؤشرات الأسهم الرئيسة في المنطقة الحمراء.
وقال “إدوارد مويا”، كبير محللي السوق في مؤسسة (Oanda) الأميركية: “ردُّ الصين على رحلة بيلوسي إلى تايوان؛ يمكن أن يكون له تأثير على سلاسل التوريد والطلب، مما قد يُبقي الضغوط التضخمية قوية”.
لقد أهتزت سلاسل التوريد العالمية بالفعل بسبب وباء (كورونا) والحرب في “أوكرانيا”. وقال “البنك الدولي” مؤخرًا، إن العديد من البلدان تُعاني تضخمًا في خانة العشرات.
أي نزاع في “تايوان” يمكن أن يؤدي إلى تفاقم النقص العالمي في الرقائق؛ والذي أدى بالفعل إلى إجهاد صناعة السيارات العالمية. كما يُعد “مضيق تايوان” أيضًا ممرًا مهمًا لشحن السفن التي تنقل البضائع بين “آسيا” والغرب.
في مقابلة مع (سي. إن. إن)، قال رئيس “شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات”؛ (TSMC)، “مارك ليو”، إن الحرب بين “الصين” و”تايوان” ستجعل الجميع يخسرون. وأضاف: “إذا حدثت حرب، فسوف يكون مصنع (TSMC) غير صالح للعمل”.
ورغم أن المناورات الصينية حول “الصين” مرت بسلام، فإنها كانت عرضًا صادمًا للقوة بالنسبة لـ”تايبيه” و”واشنطن” على السواء، ويخشى المراقبون من أن “الصين” قد تكشف عن مزيد من الردود في الأيام والأسابيع وحتى الأشهر المقبلة، مع اقتراب المؤتمر العشرين للحزب.
لماذا لم تستهدف “الصين صناعة أشباه الموصلات التايوانية ؟
بصرف النظر عن الخطوة الرمزية بمنع تصدير الرمال الطبيعية؛ التي تُستخدم في صناعة أشباه الموصلات، والتي لا تُمثل سوى جزء يسير من احتياجات “تايوان”، فإنه من الواضح أن عقوبات “الصين” لم تمس صناعة أشباه الموصلات التايوانية العملاقة بشكل فعلي.
هذا على الأرجح، لأن “الصين” تعتمد على صادرات “تايوان” من المكونات الحيوية بقدر ما تعتمد الجزيرة على هذه الصادرات.
بالنسبة لـ”بكين”، فإن استهداف صناعة أشباه الموصلات في “تايوان”؛ سيكون بمثابة انتحار؛ كما تصور الآلة الدعائية الأميركية والتابعة لها من وسائل إعلام غربية وعربية.
فبقدر ما تعتمد “تايوان” على صناعة أشباه الموصلات كمصدر رئيس للدخل، فإن “الصين” تعتمد عليها في صناعة التكنولوجيا العملاقة لديها.
يُمثل الطلب الصيني نحو: 60% من الطلب العالمي على أشباه الموصلات، وفقًا لما يدعيه تقرير خدمة أبحاث “الكونغرس” لعام 2020.
أكثر من: 90% من هذا الطلب تتم تلبيته عن طريق الواردات والشركات الأجنبية التي لديها إنتاج في البلاد، وفقًا لمزاعم التقرير نفسه.
“بكين” وصناعة الرقائق..
وعلى الرغم من ضخ مليارات الدولارات في تطوير صناعتها، تدعي التقارير الصحافية الغربية بأن “بكين” تسيطر على أقل من: 10% فقط من السوق، بقيادة شركة (SMIC) الصينية؛ ومقرها “شنغهاي”.
“تعتمد الصين على تايوان، لأنه على الرغم من أن الشركات الصينية يمكنها تصميم أشباه الموصلات، فإن لديها قدرة محدودة على تصنيعها، خاصة في الرقائق الأكثر تقدمًا”، حسبما يزعم “جيمس لي”، زميل باحث مساعد بأكاديمية “سينيكا” في “تايوان”، لموقع (الجزيرة) القطري للنسخة الإنكليزية.
“كانت هناك تقارير مؤخرًا تُفيد بأن (SMIC) قد طورت القدرة على تصنيع رقائق 07 نانومتر، ولكن هذا لا يزال في مراحله الأولى، وهو متأخر جدًا عن شركتي (TSMC) التايوانية و(Samsung) الكورية”.
يعني هذا أن صناعة أشباه الموصلات التايوانية يعتمد عليها العالم كله بفضل حاجة “الصين” إليها، ولكن إلى متى تستمر هذه الحاجة ؟
وصف الرئيس الصيني، “شي جين بينغ”، الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية بأنه: “أكبر خطر خفيٍّ” يواجه البلاد، وتعهد بزيادة الإكتفاء الذاتي.
في إطار مبادرة: “صُنع في الصين”، تعهدت “بكين” باستثمار: 1.4 تريليون دولار بين عامي: 2020 و2025 في صناعات عالية التقنية، من ضمنها أشباه الموصلات.
في عام 2020 وحده، تلقت شركات أشباه الموصلات الصينية: 227.6 مليار يوان؛ (33.7 مليار دولار)، من الاستثمار، بزيادة أربعة أضعاف عن العام السابق، وفقًا لبحث أجرته (TechNode).
في العام الماضي، زاد إنتاج “الصين” من الدوائر المتكاملة إلى: 359.4 مليار وحدة، بزيادة: 33.3% عن العام السابق، وفقًا لبيانات حكومية رسمية.
لم تكن محاولة “الصين” لتحقيق الإكتفاء الذاتي سلسة تمامًا. أشارت شخصيات بارزة مثل مؤسِّس (SMIC)، “ريتشارد تشانغ روغين”، إلى النقص المزمن في المواهب الذي يعوق الصناعة المحلية؛ كما يدعي تقرير (الجزيرة).
سياسات أميركية قد تدفع الصين لتصرُّف متهور..
بسبب الأهمية البالغة لصناعة أشباه الموصلات التايوانية لـ”أميركا” و”الصين” على السواء، تحُاول “الولايات المتحدة”؛ جذب (TSMC) إلى أراضيها؛ لزيادة قدرة إنتاج الرقائق داخل “الولايات المتحدة”.
في عام 2021، وبدعم من إدارة “بايدن”، اشترت الشركة موقعًا في ولاية “آريزونا” لبناء مسبك أميركي. ومن المقرر أن يكتمل هذا في عام 2024، وذلك تحسبًا لغزو صيني لـ”تايوان” أو على الأقل لتجنب مخاطر حدوث شكل من أشكال الحصار الصيني لـ”تايوان”.
وأقر “الكونغرس” الأميركي “قانون الرقائق والعلوم”، الذي يوفر: 52 مليار دولار أميركي كدعم لتصنيع أشباه الموصلات في “الولايات المتحدة”. لكن الشركات لن تتلقى تمويلاً أميركيًا وفقًا لهذا القانون إلا إذا وافقت على عدم تصنيع أشباه موصلات متقدمة للشركات الصينية.
وفي ظل الرقابة على الصادرات الأميركية للحد من وصول “بكين” إلى تكنولوجيا أشباه الموصلات، فإن إنشاء مصانع في “الولايات المتحدة” يعني أن شركة (TSMC) ستحتاج إلى وقف تصدير منتجاتها أو على الأقل المنتجات الأكثر تطورًا إلى “الصين”، مما يؤدي إلى خسارة: 20% من الإيرادات السنوية لشركة (TSMC).
وإذا أصرت “أميركا) على المُضي قدمًا في ضغوطها على شركة (TSMC) التايوانية لدرجة وقفٍ حرجٍ لتصدير الرقائق الإلكترونية بشكل يُهدد صناعة التكنولوجيا التي تلعب دورًا مهمًا في الاقتصاد الصيني، فإن ذلك قد يدفع “بكين” إلى الانتقام من “تايوان”، سواء بفرض حصار بحري أو هجوم عسكري أو فرض حظر تجاري كامل على الجزيرة التي يعتمد ثُلث تجارتها الخارجية على التبادل التجاري مع “بكين”.
فإمدادات أشباه الموصلات التايوانية لـ”بكين” بمثابة الضمانة الرئيسة لحماية الجزيرة من أي انتقام صيني مُدمر.