17 نوفمبر، 2024 2:35 م
Search
Close this search box.

يوسف الصائغ.. كأن العالم قد فقد شهيته للشعر

يوسف الصائغ.. كأن العالم قد فقد شهيته للشعر

 

خاص: إعداد- سماح عادل

“يوسف نعوم داود الصائغ” شاعر وروائي وكاتب مسرحي عراقي شهير.

حياته..

ولد في الموصل في أسرة مسيحية سنة 1933 في مدينة الموصل. تخرج من دار المعلمين العالية، قسم اللغة العربية سنة 1955. وحصل على درجة الماجستير. ورسالته للماجستير كانت بعنوان “الشعر الحر في العراق”.

بعد ثورة عام 1963 دخل السجن لنشاطه السياسي، وبقي فيه حتى بداية السبعينات. عمل مدرّسًا ربع قرن من الزمن، ثم عيّن مديرًا عامًا لدائرة لسينما والمسرح. كما أنّه عمل في الصحافة مدة طويلة.

هاجر من العراق إلى سوريا وتحول إلى الإسلام. توفي كان عضوًا في اتحاد الكتاب والأدباء وجمعية الفنانين، ونقابة الصحفيين واللجنة اللعليا لمهرجان المربد، ومهرجان بابل في العراق.

من دواوينه الشعرية:

  1. قصائد غير صالحة للنشر، 1957.
  2. اعترافات مالك بن الريب، 1978.
  3. سيدة التفاحات الأربع، 1976.
  4. اعترافات، 1978.
  5. المعلم، 1985.
  6. قصائد يوسف الصائغ، مجموعة كاملة، 1993.

في الرواية:

  1. اللعبة، 1972.
  2. المسافة، 1974.

في المسرح:

  1. الباب 1986.
  2. العودة 1987.
  3. ديزايمونة 1989.

أعظم شاعر في العالم..

في حوار معه  أجرته “فيحاء الخفاجي” يقول “يوسف الصائغ” عن من هو أعظم شاعر في العالم: “أنا.. أليس هذا هو الجواب الذي تستحقينه وإلا فما معنى أعظم شاعر وما معنى أعظم شاعر في العالم، كأنما تسألين عن أطول إنسان أو اقصر إنسان أو أكثرهم سمنة. فيجدر بك أن تقنعي بإجابتي التي ستثير عند القارئ شيئا من السخرية لما فيها من ادعاء..! وكثيراً من الغضب عند أصحابي الشعراء.

وبالمناسبة لقد شهد تأريخ الشعر العربي، وحتى الأجنبي الكثير من الشعراء المغرورين، أو من ذوي الإعجاب بأنفسهم وشعرهم، وعلى رأسهم، البحتري، فقد كان إذا أنشد شعراً ولم يظهر السامعون إعجابهم به، يتوقف عن الإنشاد ويصيح بالحاضرين: ما بالكم لا تقولون أحسنت. إن هذا والله لا يقوله غيري، بل وحتى المتنبي. ألم يقل لسيف الدولة أن ما يقرأه الآخرون من شعر في مدحه ما هو إلا ترداد لما قاله هو من قبل. هذا بالإضافة إلى قوله:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صمم

أما يزال سؤالك قائماً. أما زلت تبحثين عن أعظم شاعر في العالم؟ سأقول لك: الأطفال هم أعظم الشعراء واحذري أنت لماذا وإذا شئت سأقول لك قبل أن تحذري”.

الفرح والشعر..

ويجيب عن سؤال ألا ترى أن شعرنا العربي قديما وحديثا يفتقد عنصر البحبحة والفرح: “إنه مزاج الشعر، والشعراء أساساً، فالتجربة الشعرية الحزينة أقرب إلى الشعر من التجارب المفرحة، ولعل أجدادنا الشعراء، بسبب ما عاشوه من ظروف، لم يتعرفوا على الفرح بشكل كافٍ ولهذا استقوا شعرهم من منبع معاناتهم، خذي الرثاء مثلا، بل حتى الهجاء إنه تعبير عن الحزن والغضب بطريق أحسبها شاذة”.

محنة الشعر..

وعن الشعر الآن يقول: “الشعر الآن في محنة يسمونها عادة أزمة، وهي محنة أو أزمة ليست جديدة. يبدو لي كأن العالم قد فقد شهيته للشعر، كأن الناس ما عادوا بحاجة إليه، ليس عندنا نحن العرب حسب، بل حتى على المستوى العالمي، لقد مرّ زمان كنا نعرف فيه على نطاق العالم شعراء ضخام. خذي مثلاً “سان جون بيرس، و ت . س. اليوت، والاكون، وبول ايلوار، وناظم حكمت، ووالت وايتمان” وسواهم، هذا في القرن الماضي فقط، وكان شعرهم يملأ الدنيا ويشغل الناس وكانت قصائدهم تحفظ وتترجم وتدرّس. فأين نحن من أولئك الآن، أو بمن بمستواهم الآن، وتتضح الصورة أكثر على المستوى العربي.

وإن أطرف ما يحضرني في هذا المجال أن يأتي مطرب وملحن فلا يجد قصيدة يغنيها سوى بضعة أبيات لنزار قباني كتبها منذ ما يقرب من نصف قرن. أن في ذلك مغزى بليغاً يفضح عمق الأزمة التي يواجهها الشعر على مستوى الجمهور والحياة العامة، أن ذلك يعني في تقديري: أن الشعر الحديث إن لم يجد له مكاناً يوظف نفسه فيه على مستوى التطور الفني التكنولوجي عبر الأعمال الفنية التلفزيونية، سواء في الغناء أو المسرح أو المسلسل أو بإقناع المبدعين بأن الشعر مادة يمكن أن تزيد نتاجهم أصالة وحيوية”.

المسرحية الشعرية..

وفي حوار ثان أجرته “فاتن عبد الجبار” يقول “يوسف الصائغ” عن المسرحية الشعرية ولما لم يكتبها رغم كتابته  المسرحيات النثرية الناجحة: “لم تستطع نماذج المسرح الشعري التي تعرفت عليها في المراحل الأولى من نشأتي، أن تجتذبني، وكنت أحس أنها تفتقر إلى السلاسة والإقناع من ذلك (مسرحية مجنون ليلى، وقيصر وكيلوبترا وبشكل خاص مسرحية الأسوار). ولئن كنت في مطلع اهتماماتي بالكتابة، قد تهيبت المغامرة في تجربة الكتابة المسرحية.

إن فكرة كتابة مسرحية شعرية، على المنوال نفسه، ما كانت تخطر لي على بال. ولقد كان لي في تفسير ذلك الكثير من الأسباب. لا يبدل من هذه الحقيقة، أنني أعجبت منذ مرحلة مبكرة ببعض ما ترجم من نماذج المسرح الشعري العالمي، والفرنسي بشكل خاص، من ذلك مثلا مسرحية (هوراس) لكورنيه التي جرى تقديمها في مدينة الموصل في أواسط الأربعينات. وقدر لي أن أواكب أعدادها وتمارينها، حتى لقد حفظت المسرحية بكاملها عن ظهر قلب. يضاف إلى ذلك ما أطلعت عليه من ترجمات لمسرحيات شكسبير سواء في الثانوية أم في دار المعلمين العالية.

وحين جربت الكتابة المسرحية في مرحلة متأخرة، كان واضحا في ذهني أنني لن أنجح في تحقيق الانسجام مع خبرتي ومزاجي لإنجاز نص، يكفيني ألا حين استعين بالقدر المناسب من طاقة الشعر، وحساسيته، من أجل أن أوفق في (شحن) المشاهد والشخصيات، وسائر مفردات الفعل المسرحي بالقدر المناسب من التأثير والحيوية. وهذا ما أحسبني نجحت فيه لدى كتابتي لـ (الباب) ثم ما أعقبها من مسرحيات.

صحيح.. لقد خطر لي مرات عديدة، أن الشعر الحر أي (شعر التفعيلة) قد يصلح لخوض مغامرة مسرحية وكان يغريني، أن اجرب تجربتي، اعتمادا على ما بدا لي أحيانا إنني حققته في عدد من القصائد الطويلة. التي تنطوي على بعض عناصر العمل المسرحي، من نوع قصيدة (خواطر بطل عادي جدا) و (بين جلدي و قلبي).. لولا إنني بقيت أتحفظ على ما يمكن أن تخلقه موسيقى الشعر. من مناخ، يجور على التنويع والعفوية. ويضع الكاتب في موضع (الالتزام) بما لا داعي لأن يلتزم به.”

وعن وجود تقنيات سينمائية واضحة في شعره، خاصة في القصائد الطوال يقول: “لابد من الانتباه إلى حقيقة إننا، أقصد نماذج الجيل الذي نشأت فيه، أو أنني كنت مقتنعا، بأن الحدود بين الفنون ولنقل بين مجالات الإبداع هي في الناتج الأخير حدود وهمية، نستطيع أن نتحسسها حين نشاء أو نتجاهلها حين نشاء. إن تجربة المسرح مجال عملي للبرهنة على ذلك.. فكيف بتجربة السينما.. والفيديو؟..

إن عصرنا يعمل جاهدا، مستعينا بالمذهل من التقنيات على هدم الحواجز، وإلغاء الأشكال والعناوين المستقيمة ومقترحا صيغا جديدة. لابد للشعر، أن هو لم يفد منها، أن يقود نفسه إلى العزلة. لامناص للشاعر في هذا العصر مثلا، من إن يقتنع، بأن الشعر، ليس مجرد (كلام جميل) بل هو (فعالية) أو (فعالية)، كما في الفن السينمائي. حيث يسود مفهوم (المنظر) أو (المشهد) ويحكم علاقات كل المفردات الأخرى من حوار وشخصيات وإضاءة وبالتالي لابد من (نمو).

ليس هذا حسب، إن تقنيات الإبداع المعاصرة، تقترح على المبدع ضمن ذلك كله مفاهيم ومعايير جديدة أو (بلاغية) متطورة إذا صح التعبير..تقوم غالبا على الاختزال والتكثيف والحذف. الاقتصاد في الحركة والصوت والضوء. وهكذا بحيث تأتي في ساعة يمكن النظر فيها إلى قصيدة من نوع (خمسة أشخاص في الباص) باعتبارها نتاجا إبداعيا في مجال الشعر، يختلف (بلاغيا) عن كل ما سبقه من نماذج وكذلك نموذج (شهداء عشرة/ نزلو يوم إجازتهم للبصرة).. حتى لكأنها لشاعر غير ذاك الذي كتب (اعترافات مالك بن الريب)”.

الأشكال في الشعر..

وعن مجموعة من الأشكال التي يتميز بها شعره وكيف ينظر إلى هذا التنوع يقول: “(الأشكال) هي مراحل تعبر عن (أزمات) مرت بها تجربتي في الحياة، ومن ثم تجربتي في التعبير. لقد شغلت تجربة (القصائد الطويلة) كثيرا من نتاجي. وكان لها (بتواضع) تأثيرها في تجارب كثيرين. إلى حد إنني ما عدت أطيقها لأنها صارت، مألوفة (سهلة) وغدت تثير في مزاجي إحساسا ثقيلا بالملل.

لاسيما حين فاجأتني الحياة بتجربة (ذاتية) يصح أن أصفها بأنها كانت (مذهلة). وكان طبيعيا أن تدفعني تلك التجربة إلى انتظار (شكل) جديد يشبه (معاناتي) فجاءت قصائد (سيدة التفاحات) لتكون (الضد) من قصائدي السابقة، في الكثير من الجوانب، إن لم يكن كلها، والسر في هذه التجربة هو أن ظاهرها يكشف اعتماد أسلوب (جديد) في كتابة الشعر، ظاهرة مجموعة قصائد (قصيرة) ذات مزايا خاصة… لكن حقيقة التجربة لابد أن تكشف للمتأمل أن هذه القصائد القصيرة في مجموعها، هي قصيدة (طويلة) يمكن تناولها داخل سياقها.

لتقدم عند ذاك مناخا شعريا، داخل مشهد متكامل. تطرحه العلاقة بين المحب والحبيبة. لكن داخل إطار الموت والحياة. حيث يتخذ الحب والجنس ملامح شخص ثالث يبدو أشبه بالغجري حينا. يتدخل بين المحب وحبيبته حاملا لقب الموت.

تجربة (سيدة التفاحات) فتحت أمام صاحبها، إغراءات القصيدة المختصرة. أقنعته بعجز اللغة، وقصور البلاغة. واجتذبته إلى قصيدة المشهد. من أجل اكتشاف ما يمكن اكتشافه من شذور الانسجام، ومن دعابة داخل المفارقة. وهو ما أمكن نقله إلى الرسم حينا. وإلى المشهد المسرحي أحيانا.

إنني لم اشغل نفسي إلا نادرا في اختيار الشكل الذي سترتديه تجربتي، ابتداء من حيث (النوع الفني شعرا أو رسما أو قصة أو مسرحا) وانتهاء بالأسلوب. وأرجو ألا أكون مغاليا، إنني قد أبدأ الكتابة أحيانا، وفي ذهني مثلا إنني سأكتب قصيدة (طويلة!) وإذا بي بعد كتابة بضعة سطور قد (اكتفيت) بقصيدة (جدا قصيرة!)، بل أستطيع أن أشير إلى قصائد بدأت في ذهني متخذة كل الأبعاد والخواص التي تتمتع بها (القصة القصيرة)، فإذا بي (أتورط) في إنتاج قصيدة أو(مشهد مسرحي). أو (سينمائي).

ليس هذا حسب. إن الشكل الذي تتلبسه القصيدة أحيانا يرتبط بالمناخ (الفني النفسي) الذي أكون منغمرا فيه كأن أكون في مزاج الرسم أو المسرح أو أكون فرحا أو حزينا أو (متأزما).

لكن من المؤكد إنني في المرحلة الأخيرة، ماعدت، أطيق (الغنائية) و (السرد والإيضاح والثرثرة واللعب بالاستعارات) وباختصار، لم أعد اطمئن إلى شكل معين أحسبه صالحا لتجربتي. حتى ليخيل لي أحيانا إنني أبحث حقا عن شكل جديد. وفي قرارة نفسي، بالعجز عن كتابة ما اصطلحنا على أن نسميه شعرا”.

وفاته..

في 12 ديسمبر 2005 في دمشق توفى “يوسف الصائغ”.

قصيدة المعلم..

ل”يوسف الصائغ”

هي سبّورةٌ

عرضُها العمرُ

تمتدُّ دوني..

وصفٌّ صغيرٌ

بمدرسةٍ عندَ (باب المعظّمِ)

والوقتُ..

بين الصباحِ

وبين الضّحى

لَكَأنّ المعلمَ يأتي إلى الصفِّ

محتمياً، خلفَ نظارتيْهِ،

ويكتبُ فوقَ طفولتِنا بالطباشيرِ،

 

بيتاً من الشعرِ:

– من يقرأُ البيت؟

قلتُ:

ـ أنا..

واعترتْني، من الزهوِ،

في نبرتي رعْدةٌ

ونهضتُ..

– على مَهَلٍ

قالَ لي:

– تهجّأْ على مَهَلٍ..

إنها كِلْمةٌ…

ليسَ يُخطِئُها القلبُ

يا ولدي..

ففتحتُ فمِي..

وتنفسّتُ..

ثم تهجّأتُها، دفعةً واحدةْ

– وطني

وأجابَ الصّدى:

(وطني.. وطني)

فمِن أينَ تأتي القصيدةُ

والوزنُ مختلِفٌ

والزمانُ، قديمْ؟

كان صوتُ المعلمِ، يسبِقُنا:

– وطني لو شُغِلتُ..

ونحن نردّدُ:

– بالخلدِ عنْهُ

فيصغي إلينا

ويمسحُ دمعتَهُ، بارتباكٍ

فنضحكُ

الله..

يبكي.. ونضحكُ

حتى يضيقَ بنا.. فيهمسُ

– ما بالكم تضحكون

أيها الأشقياءُ الصّغار

سيأتي زمانٌ..

وأُشغَلُ عنه

وأنتم ستبكونَ..

وزنانِ مختلفانِ..

وقلبٌ،

تقاسمَهُ جدولانْ

جدولُ الضربِ.. والحبِّ،

ماتَ المعلّمُ،

منذ سنين،

وسرتُ وراءَ جنازتِهِ..

وكان معي،

(وطنٌ لو شُغِلتُ)

وكان يراقبني الناسُ

(بالخلدِ عنهُ..)

ومرّتْ سنونٌ..

ولم يبقَ في الصفِّ

غيرَ الغلامِ الذي كنتُهُ

بين عشرين، في الأولِ المتوسّطِ..

قال المعلم:

– من يقرأُ البيتَ؟

قلتُ:

– أنا اقرأُ البيتَ، يا سيّدي

ونهضتُ..

ولكنّني،

لفرْطِ المحبّةِ، أخطأتُ في النّحوِ..

فاسودّ لونُ الطباشيرِ،

واحمرّ لونُ المعلّمِ،

وامتلأَتْ وجنتايَ

بحبّ الشباب..

المحبّةٌ دَيْنٌ..

فيا سيّدي:

أعطِنا ندماً

بقدرِ محبتِنا

وخذْ قلمَ الفحمِ

وارسمْ لنا شاربيْنِ،

وزوّرْ رجولَتنا..

وقدْنا معاً،

لمظاهرةٍ، عند بابِ المعظّمِ

نحملْ وراءكَ سبّورةً من قماشٍ قديمٍ

وبيتاً من الشعرِ

لا يُخطِئُ القلبُ فيه..

…………………..

خرجنا من الصفِّ

كانتْ براءَتُنا،

مُخبّأةً في كتابِ الحسابِ

وحين وصلنا إلى البابِ

راح المعلّمُ يسبقنا،

أشعثَ الشعرِ

يلهثُ منْ غَيْرةٍ

ونحنُ،

وراءَ لهاثِ المعلّمِ

نبكي ونضحكُ

مختلطِينَ

بصوتِ الهتافاتِ والطلقاتِ

فمِنْ أينَ تأتي القصيدةُ،

والمخبرونَ،

يسدّونَ كلّ الشوارعِ

أوقفني عندَ “عقدِ النّصارى” المحقّقُ

كنتُ أقولُ لهُ:

– وطني..

فيشتمُني

فأصرخُ

بالخلدِ عنهُ..

ويضربُني

فأهتفُ

– بالسّجنِ

صاحَ:

– خذوهُ إلى السجنِ

فاقتادني المخبرونَ

وعن كثبٍ

كان شعرُ المعلّمِ،

يبيضّ من ألَمٍ..

وصوتُ التلاميذِ

يشحُبُ،

بين الصّباحِ

وبين الضّحى..

…………….

خرجتُ من السّجنِ..

متّسِخاً..

مثلَ سبّورةٍ،

كتبَ السجناءُ عليها شتائِمَهمْ..

كنتُ ممتلئاً بالعناوينِ،

أحملُ تاريخَ كلِّ المساجينِ،

في بيتِ شعرٍ،

سيبقى يلاحِقُني..

( وطني لو شُغِلتُ بالخلدِ عنهُ

نازعتْنِي إليهِ……………… )

عراقيّةٌ

تتقِنُ الموتَ والحبَّ..

وزْنانِ مختلِفانِ

وعينانِ واسعتانِ

وحِجْلٌ ثقيلُ..

وكحْلٌ

وأسئلةٌ

وفضولُ..

ذهبنا إلى الكاتبِ العدلِ،

والكاتِبُ العدلُ

أرسلَ أوراقَنا للمحقّقِ،

قالَ المحقّقُ،

وهو يُحدِّقُ

ما بين عينيّ:

– والآنْ..

من يقرأُ البيت؟

صاحتْ:

أنا أقرأُ البيتَ..

والتَمَعَتْ،

مثلَ ياقوتةٍ،

تحتَ شمسِ ضَرَاوَتِها..

وخُيّلَ لي،

أنّ هذا المحقّقَ

يمضي بها، إلى غرفةٍ

على شارعِ النهرِ

وهي تقولُ له:

– وطني..

فيشتمُها..

فتصرُخُ غاضبَةً

– لو شُغلتُ..

فيبصقُ في وجهِها

فتهْتِفُ:

– بالخلْدِ عنهُ..

فيضرِبُها..

فتصيحُ،

وقدْ أوجَعتْها كرامتُها:

– نازعتْنِي إليْه..

في الموتِ..

………………….

كانتْ عراقيّةً..

وكانتْ، إذا أقبلَ الحبُّ

أوْ أقبلَ الموتُ

ينتابُها شغَفٌ

مثلَ قِدِّيسَةٍ..

فتُطفئُ شمعتَها.. وتموتْ.

……………………….

سُكُوتْ.

لمْ يعُدْ ثَمَّ،

مَنْ يتجرّأُ..

أنْ يتهجّأَ بيتاً مَن الشعرِ

أوْ يتذكّرُ،

في السّرِّ،

عنوانَ بيتِ حبيبتِهِ..

فالمعلمُ ماتْ

ولمْ يبقَ،

غيرُ غبارِ الطباشيرِ

والكلماتْ..

فكيفَ، تتِمُّ القصيدةُ؟

إنّي لفرْطِ المحبّةِ، والحزنِ

أخطأْتُ في الوزنِ،

فانقطّعَ البثُّ..

………………………….

ثمّ ابتدا البثُّ..

قالَ المذيعُ:

– إذاعةُ بغدادَ

طِبْتمْ صباحاً

فطِبْنا.. وطابَ الصباحُ..

وأحسَسْتُ

أنّ شذىً،

يتصاعدُ منْ رحِمِ الأرضِ..

فيه مزاجٌ من الماءِ والطينِ،

والقمحِ،

قبلَ اختمارِ العجينِ..

وخُيّلَ لي،

أنّها شاشةٌ، عرْضُها العمرُ،

تمْتدُّ دوني..

لكأنّي بذاك المعلمِ،

يظهرُ، متّقداً بالحنينِ

ويقراُ للناسِ بيتاً من الشعرِ..

قالَ المُعلّمُ:

– من يحرسُ البيتَ؟

قلتُ لهُ:

– أنتَ مَنْ يحرسُ البيتَ يا سيدي..

واعترتْني من الزّهوِ،

في نبرتْي رعْدةٌ..

فأفَقْتُ.

رأيتُ شموعاً،

ببابِ المُعَظّمِ مُوقَدَةً،

وهلالاً يسيرُ على الماءِ،

يتْبعُهُ موْكبانِ،

من الحبّ والكبريَاءِ..

فأينَ خِتامُ القصيدةِ؟

إنّ المعلمَ يسبِقُنا..

ونحنُ وراءَ المعلمِ،

نلهثُ..

كنتُ أقولُ لهُ:

– وطني..

فيعانقُني..

وأهمسُ مضطرباً:

– لو شُغِلتُ..

فيسألُني:

– بماذا شُغِلتَ..

ويُومِي، إلى موكبِ الشّهَداءِ..

لكَ الله يا سيّدي..

لكَ اللهُ يا سيّدَ الشعراءِ..

أنا غيْرتي نازعَتْني..

وعَيّرَني،

لحظةَ الشعْرِ صَمْتي..

( رأيتُ المواكبَ تزحفُ دوني..

صرختُ خذوني..

فلمْ يسْمَعِ الرّكبُ،

صوتي..

تعرّقَ للحربِ قلبي

كما الأمُّ عندَ المخاضِ،

وقدْ سَجَرَ الناسُ للخبزِ،

قلتُ:

– العوافي لكمْ

كلّ ما تسجُرُونَ

وصُبُّوا على النارِ زيتِي.. ).

أنا رجلٌ ما يزالُ يُجرّبُ

أنْ يمزجَ الماءَ بالزّيتِ

والزيتَ بالدمِ..

والدّمَ بالدّمعِ..

ملتبسٌ

أبداً

بين وجهينِ

وجهٍ بريءٍ..

ووجهٍ مرائي.

ذهبتُ إلى الكاتبِ العدلِ،

والكاتبُ العدلُ

أرسلني للمحقّقِ..

قلتُ لهُ

– ما ترى؟

إنّهُ آخرُ العمرِ،

ما عادَ متّسعٌ،

لأُتِمَّ القصيدةَ..

خذني إلى الحربِ

يا سيّدِي..

لعلّي هنالِكَ،

أختمُها بدمائي..

23/11/1985

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة