في ظل الاحتراب الايديولوجي المتصاعد في المنطقة يجري توظيف الدين ورموزه وعناوينه كأدوات فاعلة في ترسانات المتحاربين ….فتخطى الخطاب والخطاب المضاد كل الخطوط الخضراء والحمراء ليرسم علامة تساؤل كبيرة : الى اين يمضي بنا الامر في خضم هذا العباب المتلاطم ؟ وهل نصنع خيرا لنا ولاجيالنا القادمة ، ام ان الامر لا يعدو كونه انتحارا ذاتيا كرمى لعيون ولخواطر الاخرين ؟
الهذيان المحموم حول ” الهلال الشيعي ” الضارب قوسه من ايران الى ساحل المتوسط مرورا بالعراق وسوريا ولبنان ، لم يكن نتيجة الحرب السورية ، فهو كان يدور همسا في اروقة دهاقنة السياسيين الاقليميين فيلاقي صدى في قلوب عرابيهم الغربيين ، فأفصح عنه ملك الاردن منذ عشر سنوات ونيّف باعتباره المتحدث الرسمي لما يجول في نفوس من يمثلهم من اميركيين واسرائيليين . وفي المقابل هناك هذيان موازي حول ” المثلثات السنية ” و “مثلثات الموت ” ، واخيرا طغت على الساحة سمفونية داعش واخواتها من نصرة وألوية اسلامية ….والساحة الرئيسة لهذا الصراع المحموم الذي لا يبقي ولا يذر صار العراق وسوريا …بل ان الحرب في سوريا هي النتيجة الحتمية لهذا التصعيد الذي تقوده من ناحية دول الخليج وحلفائها الغربيين والاسرائيليين ، ومن الجهة المقابلة تبرز ايران وحلفائها الاقليميين في العراق وسوريا ولبنان …مع بعض نقاط التوتر داخل دول الخليج نفسها …
. وبالطبع لم يكن في خلد ” جيمس هنري برستد ” الذي اطلق على هذه المنطقة في القرن التاسع عشر تسمية ” الهلال الخصيب ” ان مصطلحه الجيوبوليتيكي هذا سيتم تحريفه على السنة ملوك الرمال الى هلال شيعي …يدفعهم الحقد والكراهية على هذا الهلال لانهم بببساطة يفتقدون مقوماته الحضارية والتاريخية والثقافية والبشرية . فهذا المصطلح اريد منه الدلالة على الارض الخصبة التي تضم العراق وبلاد الشام ( ولم تكن ايران ضمنه طبعا ) التي احتضنت تاريخيا اهم حضارات العالم واعطت الكثير للبشرية وكانت الرافعة للدينين الكبيرين الاسلام والمسيحية في ثباتها وانتشارهاما في العالم ، قبل ان تأخذ صبغتها العربية الثابتة .
وكان المفكر المغدور ” أنطون سعادة ” قد طرح فكرة القومية الاجتماعية التي تدعو لوحدة الهلال الخصيب استنادا للروابط التاريخية والحضارية والجغرافية المشتركة التي تربط بين شعوبه على اساس من الانسانية والوحدة والتحرر والديمقراطية . وقد كرس المؤرخ الانكليزي الكبير ( ارنولد توينبي ) الكثير من جهده البحثي لحضارات هذا الهلال والعوامل التي جعلت منه قلب العالم القديم كما هو اليوم ….وفي ” قصة الحضارة ” خصص ( ول ديورانت ) فصول عديدة لهذا الهلال الذي قيّض له تغيير وجه البشرية …..وفي حديث كل هؤلاء وغيرهم لم يكن هذا الهلال لا شيعيا ولا سنيا وانما خصيبا حضاريا وعبقريا ..
من ناحية اخرى ما يدعى ” المثلثات السنية ” هي ايضا مصطلحات مستحدثة لا دلالة سياسية او جغرافية لها بقدر مالها من دلالات طائفية استخدمت لاغراض الشحن والتجييش الطائفي تصب في مصلحة سلطة واحزاب مفلسين سياسيا وفكريا فاستعاضوا بما هو اسهل لكسب النفوس….النفخ في الاتون الطائفي غير مبالين بالحروق التي يحدثونها طولا وعرضا وتصيبهم كما الاخرين.
أما داعش وأخواتها …فليس من المستغرب ان نقول انها صناعة محلية تم انتاجها وتعليبها باقبية المخابرات الاقليمية وتسويقها محليا على اساس انها المقابل المسلح لعصبة الهلال الشيعي …وان كانت قد خرجت بعض الشيء عن حجمها واهدافها فذلك لان المسخ المخلّق لا يمكن التحكم به تماما …فلا بأس ان شطّ قليلا ، الا ان حركته العامة متحكم بها ضمن اصول اللعبة الجهنمية المرسومة لدول المنطقة .
نسأل مرة اخرى ما الذي جرى ليتم فرز المنطقة الى هلال شيعي “شرير” لا يميز بين شيعي عربي واخر ايراني وبين تشيع عربي وتشيع فارسي ويضع الجميع في سلة واحدة ويجعلهم هدفا حلالا ” للدواعش ” واخواتها…ومن جهة اخرى محاصرة اهل السنة في مثلثات ومربعات ومستطيلات لحصرهم واقصائهم وتهميشهم والتعميم باعتبارهم حواضن لداعش والقاعدة والتكفيريين من قبل السلطات الرسمية وجيوشها وميليشياتها في اكثر من دولة عربية ؟ وما المغزى من ربط ايران جغرافيا وجيوبوليتيكيا بمنطقة كانت عربية خالصة ….وهل يختلف ذلك بشيء عن مصطلحات الشرق الاوسط الجديد الذي يجعل من اسرائيل وتركيا غير العربيتين فاعلين اساسيين في رسم مستقبل المنطقة ؟
حتما لم يتغير شيء في حقائق الجغرافيا ….لا البشر ولا الحجر ….الذي تغير هو فقط نوع العقلية المتسلطة ….فمن جهة هناك العقليةالقبلية المتحجرة التي تحكم ملوك وامراء الرمال والسائرين في غيهم….وهناك على الجانب عقليات ولا احلى مازالت تعيش في خرافات القرون المنقرضة وتريد تجسيدها وفرضها علينا كحقائق ونظام وعقائد في عصرنا الحالي ….فكلا الطرفين يسعى الى لي حقائق التاريخ والجغرافيا بعيدا عن معطيات الواقع في في انفصال مرتبك عن خط سير التاريخ والحياة المعاصرة التي تجمع الاضداد مع بعضها خلف مصالح مشتركة متجددة… لا تجزئة الموحّد وفقا لرؤى ظلامية متخلفة …لذا فهي غير قادرة على فهم متغيرات الامور وتحليلها بعمق للوصول الى مسبباتها الحقيقية …فتراها تتخبط يمنة ويسرة وتنحى نحو التطرف القاتل فتبتعد عن كل ماهو منطقي وعلمي …فيحرفها الغي عن الطريق القويم فتتحول طروحاتها الى معول هدم للمشتركات الاسلامية والعربية والتاريخية التي تربط المجتمعات ويجعلها تقترب اكثر واكثر الى مقاربات وطروحات اسرائيل التلمودية …لا بل وتفوقها عنصرية وغلا وحقدا فتوقع في الجسد العربي جراحا امضى وأمر من تلك التي سببتها دولة اسرائيل طيلة ستين سنة من وجودها الكارثة في خاصرة الهلال الخصيب .
كلا الطرفين يتوسل الدين غطاءا وحجة له في طروحاته المنحرفة …لكن يخطئ من يظن ان تاريخنا الاسلامي هو نتيجة للاسلام …فالتاريخ تصنعه عوامل عدة ( الجغرافيا وعوامل القوة وارادات الافراد والظروف السياسية ) وان تم الباس الحركات السياسية لبوس الدين …فالدين يبقى منظومة قيمية تؤطر الاساس الفكري والحضاري للمجموعات الانسانية . وعليه فمن الخطأ الجسيم أن نسقط الاسلام ومذاهبه على كل التداعيات التي تحدث في عالمنا العربي …حتى وأن تمظهرت بمظاهر اسلامية .. سنية كانت ام شيعية ، أو تحت اي مسمى اخر…فهذه التداعيات تحركها عوامل اخرى خارج هذا المفهوم وان ” تطييفها ” يزيدها تعقيدا واستعصاءا على الحل .
تريدون الدليل على هذا الكلام ؟ اليكم …” هل الهلال الشيعي ” اذا ما مضينا في هذه التسمية افتراضا – هو واقع جديد أم كان موجودا من مئات السنين ؟ولم النفخ فيه اليوم ؟ وهل كانت ايران في عهد القاجاريين والشاه السابق غير شيعية او ليست ذات اجندات توسع امبراطورية تتوسل المذهب كأداة لها ؟..وهل غفل الشيعة عن مظلوميتهم مئات السنين ليستفيقوا الان فقط ليصححوا المسار ..بّرد المظلومية على غيرهم ؟ واين كان السنة وأئمتهم الذين طالما كانوا وعاظا للسلاطين ليكتشفوا أن سلطان اليوم كافر وجب قتاله…وهل كانت دولة الخلافة دولة عدالة حتى في عز خلافتها الراشدية ليعلنوا اليوم الجهاد من اجل اعادة تلك الدولة للوجود التي ترخص امامها انهار الدماء المسفوكة من ” الروافض ” والمارقين والعلمانيين وكل من لا يتلائم فكره معهم ؟
اليست هذه الطروحات خارج نطاق التغطية الزمنية و”الحداثوية”…الا تبدو وكانها خارجة من ناس لا يعيشون معنا في عصرنا لا فكرا ولا اجسادا ؟…فهل دولة امامة جديدة بقيادة حسين جديد سترضي الفاسدين والسراق والمتسلطين والمتلطين خلف الشعارات المذهبية لاغراض في نفس يعقوب ؟ وهل سيسلم الحسين الجديد من غدر شمر جديد؟ …الحقيقة ان الناس جبلوا على الخبث واستسهال الحرام ، فمساحة الفساد وجاذبية الشرور قد ازدادت اضعافا عما كانت عليه في معركة الطف .
وهل دولة خلافة جديدة يحكمها أمثال ابو محمد الجولاني وابو بكر البغدادي وقاطعو الرؤوس واكلو الاكباد ستعيد بهرج عصر الراشدين وعدلهم ، فهؤلاء حكموا تاريخا انقضى ولن يعود مع ان عصرهم لم يخلو من الفساد والنزاعات …فالعدل المطلق موضع شك بالطبع .، فلم العبثية اللامعقولة في هكذا طروحات ؟ ولمصلحة من ؟ وهل استطعنا توحيد مجتمعاتنا ومناطقنا لننطلق خلف هدف اسطوري بوحدة العالم الاسلامي الذي تنخره الانقسامات والصراعات الداخلية والبينية ؟، فلم العبثية اللامعقولة في هكذا طروحات ؟ ولمصلحة من ؟.
أن النافخين في خلافات التاريخ والامامة والخلافة كضاربي التخت ، يراهنون على اشياء غير موجودة في عالم الواقع …فلم الاستكلاب اذن على التنازع وخراب الانفس والبلدان ؟
ليس هناك ملة افضل من غيرها …فالاقرب الى الله هو الاكثر تقوى وعملا صالحا …اليس كذلك هو الاسلام ؟ …وان اردتم الحقيقة …فليس بيد الاسلام وأي دين ، وليس بيد الشيعة او السنة وأي معتقد وايديولوجيا مفاتيح الخلاص…وكل ادعاء من هذا النمط لا يعبر الا عن تعصب أعمى وقفزعلى الحقائق الثابتة…وادخالنا في اي صراع ايديولوجي ليس له مخرج منطقي يقودنا الى مواجهات عبثية يضيع فيها المال وتزهق الارواح ونفقد فيها فرص المستقبل . الهلال الشيعي والمثلث السني وغيرها من التسميات التي يجري تسويقها بكل همة ونشاط من قبل ذوي المصالح الخاصة ومن يسير في ركابهم من الجهلة لن تقودنا الى حال ترتد بنا فيه الامور في متوالية زمنية الى الوراء..
ان من يدخلنا الى الفتنة الكبرى تحت خيمة الهلال الشيعي ، انما يريد نزع الثوب العربي عن شيعة العراق والعالم العربي وهم السباقون في الدعوة القومية الوحدوية وحشرهم مع ايران المختلفة عرقا وتاريخا وحضارة في زاوية واحدة …فيقدم خدمة مجانية لايران ولاعداء ايران لتصوير الامور على غير حقيقتها …وحرف الانظار عن الصراعات الاساسية في المنطقة والتأسيس الى صراع طائفي جديد يستنزفنا واجيالنا القادمة بشكل عبثي ولا منطقي دونما هدف او نتيجة مرجوة .
ومن يدخل السنة في مثلثات جغرافية ووصمهم بالدواعش بشكل عام ، يسعى متعمدا الى حشرهم قسرا مع قوى التطرف والتكفير من جهة ومع اعداء العرب من اسرائيليين واميركيينمن جهة اخرى بحجة ” وحدة النضال ” ضد “الشيطان “….فتدخل ايران باجنداتها الامبراطورية كشريك ستراتيجي للفريق الاول، في حين يكون الشيطان الاميركي والشيطان الاسرائيلي حليفا للفريق الثاني ….فهل هؤلاء حلفاء يرتجى منهم خيرا ؟
نعم ياسادة … ان الاعداء والطامعين يدخلون الينا من تسميات العزل الطائفي التي نستحدثها لانفسنا بارادة الشيطان بعلم او دون علم منا .. وهي التمهيد الى تفتينا واشعال الحروب العبثية البينية..لننقسم في النهاية الى كيانات عنصرية ومذهبية تتصارع وتتقاتل على كل شيء ويخطئ من يحلم ان الفدراليات والاقاليم هي الخلاص …فهذه لا تعدو الا الباب الى …الجحيم الذي ينتظر الجميع…فبدع الاقاليم والفدراليات ( والمحافظات الكارتونية الجديدة على اساس طائفي) هي المدخل الذي سيسلمنا صاغرين الى يد ابليس المتوثب ..
أن مايبني مستقبلنا ليس صراع الاهلّة والمثلثات والمستطيلا والمربعات الطائفية….بل بالعودة الى العقل الذي هو اساس الدين واستخدامه للتفكر والقياس لتدبير شؤوننا …فهذه هي الحقيقة الثابتة وما عداها ليست الا هرطقات ابليس ومن يوسوس له من سياسيي الفتن وعمائم السوء ومفتيي التكفير …..ولنعمل ياعقلاء ان يكون هلالنا ويبقى خصيبا لا شيعيا ولا سنيا …