18 ديسمبر، 2024 11:14 م

ايام لاتنسى.. من قصص الحرب.. ج. الاول

ايام لاتنسى.. من قصص الحرب.. ج. الاول

((ايام لا تنسى)) من قصص الحرب..
معارك شرق البصرة
الجزء الاول
كانت الساعة تشير الى الحادية عشر مساء وكانت الاجواء مظلمه والهدوء يسود المنطقة مع حذر وترقب شديد لان المعلومات تقول ان هناك تعرض على هذا القاطع من قبل الجانب الاخر…
لم تمرُ سوى نصف ساعه حتى بدا القصف المدفعي ثم اخذ يشتد اكثر معلناً بداية معركة جديدة لا نعرف نهايتها.. استمر القصف المدفعي تقريباً لمدة ساعة او اكثر وبدانا نسمع صراخ الجنود في الطرف الاخر وهم يتقدمون على القاطع الذي يقع تحت مسؤوليه وحدتنا العسكرية..
كان الجنود والضباط قد اخذوا مواقعهم الثابتة ورغم كثافه القصف والطيران الا ان الجميع كانوا صامدون في تلك اللحظات هنا بدأت الاصابات بين مقاتلينا نتيجة القصف المكثف… وكانت حالات الاصابات منها الشديد ومنها المتوسط… في هذه الاثناء سمعت الملازم حيدر امر الفصيل وهو من اهالي العاصمة بغداد ينادي بأعلى صوته وربما كان يبعد عني عشره امتار تقريبا وكانت كلماته انقذني انقذني فقد اصبت في رجلي وظهري.. ارسلت له في حينها نائب عريف عبد العباس من اهالي مدينة الشعلة لينقذ الملازم حيدر ولا اعرف اصابته لان الموضع الذي كنا فيه كان في العمق من الساتر والسلاح الموجود يعتبر من ضمن اسلحه الاسناد في صنف المشاة وكانت مقاومتنا شديدة جداً في هذا القاطع الذي يقع في منطقة شرق البصرة وكانت امامنا حقول من الالغام مع نهر تم حفره من قبل الهندسة العسكرية محاطاً باسلاك شائكة لعرقلة تقدم العدو.. وكان اجتياز هذه الحقول ليس في الامر السهل وخاصه انها مليئة في الالغام المضادة للمشاة وللدبابات وكنا نسمع انفجار الالغام ونرى الدخان الكثيف التي يخرج منها عندما كان افراد قطعات العدو يحاولون اجتيازها ورغم انهم كانوا يتقدمون بسرعه ولكننا كنا نملك خطوط صد نارية قوية تعيق حركة تقدم العدو… ومع هذا اصبحنا نسمع صياح الجنود في الطرف الثاني ولكن القصف المكثف من كتائب المدفعية المتواجدة خلف مقر الفوج الذي يبعد عنا تقريبا 2000 متر ومعها صواريخ الراجمات التي ترمي اربعين او ثمانين صاروخ في لحظات معدودة وكنا نسمع اصوات انفجارها في جهة العدو ونراه في العين المجردة وكنا نرى الجنود من جيش العدو يتساقطون قبل ان يصلوا الى حقول الالغام نتيجة قصف المدفعية والراجمات…..وصل العدو الى مسافة قريبة واصبح تحت المدى المقرر لأسلحتنا الخفيفة والمتوسطة وبدأ اطلاق النار من الجميع وتحول ظلام الليل الى ضياء وبدأ العدو بتكثيف القصف على الساتر الامامي الذي نتواجد به… وفي هذه اللحظات حصل لدينا بعض الخسائر من اصدقائي الموجودين معي في نفس السرية فخرجت بسرعة خاطفة داخل الشق الموجود في الساتر الامامي حتى ارى الاوضاع في سريتنا فوجدت الملازم حيدر وهو احد امراء فصائل السرية الرابعة الفوج الثالث وقد قطعت احد ارجله واصابته بليغة جدا في ظهره ولكنه مازال لم يفقد وعيه فأشار لي بان احتفظ بالحقيبة الخاصة به وفهمت منه ذلك لأننا كنا بالأمس نجلس سويةً في مقر فصيله وفي حينها وصلته رسائل من اهله وكان فيها رسالة مميزة من خطيبته التي كانت طالبة في المعهد الطبي قسم الصيدلة وهي تخصه بصلة قربى وكانت كلمات الرسالة التي بعثتها له فيها تعبير من شخص مثقف مدرك للوضع الموجود في البلد وخاصة فيما يتعلق بالحرب حيث انه اطلعني عليها للثقة المتبادلة بيننا وقد كتبت في احد اسطر الرسالة (( حبيبي حيدر اتمنى من الله ان يحفظك وان نلتقي في اقرب اجازة ممكنة لأنني وبصراحه لا اريد ان اتكلم عن موضوع الزواج لان قلبي غير مطمئن للوضع الذي انت فيه ولا اعرف ماذا تضم لنا الاقدار)) اخذت الحقيبة الخاصة من موضع الملازم حيدر وانا اركض داخل الشق الموجود في الساتر واوصلتها الى الملجأ الذي انا فيه ووضعتها هناك كان في هذه اللحظات من غير الممكن اخلاء الجرحى لان القصف المدفعي كثيف جدا..
انها المعارك التي تحصد الارواح بسرعة مثلها مثل النار في الهشيم.. في هذه الاثناء كان ثلاثة من الموجودين معي في القاطع قد لقوا مصرعهم واستشهدوا نتيجة سقوط قذيفة مدفعية على ملجأهم وكانت المعركة مازالت مستمرة..
كان الرمي كثيف من الطرفان ولا يمكن لنا ان نفهم في تلك اللحظة سوى لغة المدفع والطائرة والراجمات والاسلحة المتوسطة والخفيفة معارك لا يمكن نسيانها لأننا وصلنا فيها الى مرحله لا نعرف في اي لحظه نفارق هذه الحياة.. جاءني يهرول داخل الساتر احد اصدقائي الجنود المقاتلين وقال لي ان امر السرية النقيب عمران ومن معه في قلم السرية قد تعرضوا الى قصف مدفعي شديد واستشهدوا جميعا وان اغلب افراد السرية بين مصاب وشهيد واثناء حديثه سمعنا صوت قذيفة قادمة الينا وقعت بالقرب من مواضعنا استشهد نتيجتها اثنان من الذين معي واصبت انا في شظية في يدي اليمنى وشعرت ان هناك اصابة اخرى في رجلي اليسرى ولكنني كنت املك ضماد المعركة الموجود لدينا منذ مدة وقمت بتضميد يدي به عسى ان تنتهي المعركة ويتم اخلائنا الى الخلف…ولكن النزيف في رجلي اصبح يتدفق كثيرا وقمت بنزع الفانيلة التي البسها وتضميد الجرح فيها….
استمرت المعركة حتى بزوغ الضياء الاول وهدأ القصف تدريجياً وعند انقطاعه شاهدنا العشرات من جنود العدو وقد علقوا بحقول الالغام واغلبهم مصابين ويستنجدون بنا لإخلائهم وهنا جاءت قوة من لواء آخر ومعهم كتيبة هندسة وقاموا بإخلائهم باعتبارهم اسرى حرب..
اما جنودنا الشهداء منهم والمصابون فسيارات الاسعاف قد قامت بنقلهم الى وحدات الميدان الطبية القريبة من مقر اللواء ومن ثم يتم تحديد جهة الارسال كلا حسب اصابته…
وكنت انا من ضمن الذين تم اخلائهم حيث كان النزيف مستمر كل الساعات الماضية وعندما وصلت مقر اللواء شاهدت الجثث لأغلب اصدقائي الذين كنت معهم قبل ساعات ونحن نتكلم عن اقرب اجازة اعتيادية نذهب بها لزيارة اهلنا وكل واحد فيهم لديه طموح اوعمل يقضيه في الاجازة ولكنها الاقدار قد سبقتهم الى عالم آخر…
اما نحن المصابون فكانوا يرسلوننا الى مستشفى البصرة العسكري وكنت انا من ضمنهم وعند وصولنا الى المستشفى قام الكادر الطبي بإجراء عمليات جراحية مستعجلة للجميع…. بالنسبة لي كانت اصابتي بشظيه كبيره اخترقت يدي اليمنى وشظية متوسطة اخرى اخترقت الساق في الرجل اليسرى واجري لي اللازم عن طريق عملية جراحية مستعجلة وبقيت في مستشفى البصرة العسكري لمدة يومان عندها قاموا بمنحي اجازة مرضية لمدة 30 يوما على ان اراجع من خلالها وبعدها اقرب مستشفى عسكري لعنوان السكن الذي انا فيه…. وكانت هناك سيارات كبيرة تقوم بنقلنا من محافظة البصرة الى محافظة بغداد مستشفى الرشيد العسكري..