خاص: إعداد- سماح عادل
مازالت الكاتبة تعاني ليس فقط حين تنتوي كتابة الغزل، وإنما من الرغبة في الكتابة بشكل عام وعرض نصوصها على الناس، حتى كأن الكتابة تعد تهمة تحاول تخفيف وطأتها أو المحاربة لأجل التعبير عن ذاتها بحرية.
هذا التحقيق عن (الغزل في كتابات النساء) وقد جمعنا الآراء من كاتبات وكتاب وقراء من مختلف بلدان العالم العربي. وقد وجهنا للكاتبات الأسئلة التالية:
- ما رأيك في الغزل وهل تكتبينه، وما رأيك في الجرأة في كتابة الغزل؟
- هل قرأت الغزل لدى الشاعرات في الزمن القديم؟
- هل اطلعت على غزل كتبته كاتبات نساء في الوقت الحاضر سواء في الشعر أو القصص القصيرة أو الرواية وما رأيك فيه؟
- وهل يختلف الغزل في كتابات النساء عن الغزل الذي يكتبه الرجال؟
- ماذا تريد أن تقول الكاتبة حين تكتب الغزل هل تحاول إثبات حقها في المساواة، أم تعبر عن ذاتها ومشاعرها، أم تحاول أخذ دور الشريك الفاعل في علاقة الحب؟
الغزل يضيف العزلة والأقفال..
تقول الكاتبة الفلسطينية “شوقية عروق منصور”: ” لقد كتبت الكثير من قصائد الغزل، فقد كان لي عدة زوايا في الصحف أذكر في صحيفة “الصنارة” تصدر في مدينة الناصرة – فلسطين، كانت لي زاوية أسبوعية بعنوان “تقاسيم” تدور حول القضايا الاجتماعية والسياسية، واستمرت من عام 1984 حتى عام 1992، وكنت أكتب في نهاية الزاوية قصيدة غزلية تحت عنوان “آخر الكلام”.
ومن عام 1993 وحتى 2008 انتقلت للكتابة في صحيفة “كل العرب- فلسطين” وكان لي زاوية تحت عنوان “نصف القمر” وكنت في نهاية الزاوية أكتب أيضاً قصيدة غزلية تحت عنوان “رشفة عسل”. وقد أصدرت ديوان “شمس حضورك أسطورة” عام 1995 و ديوان “اسمك تهليلة زمرد” 2004 .
وقصائد الغزل التي كتبتها كانت تجسد المرأة العاشقة التي تريد الهرب من العيون ومن رقابة الأهل، الهرب من عالم السؤال الخشن الذي يريد تمزيق حرير اللهفة والانتظار والليل الذي يحمل نبض الكلمات الخافتة التي تلهب أسلاك الهاتف. كانت المشاعر والأحاسيس تتمزق مثل الأوراق وتطير ثم تحط فوق أعشاش الحروف وتبيض عصافير الدموع والاشتياق وتستحم في محطات الانتظار، لعل الحبيب يطل ويحطم الجدران، لتزهر الشرفات والنوافذ وتطلق الموسيقى لكي يسمع العالم ويغرق معي في الغيوم البنفسجية والأمطار الملونة.
كتابة الغزل بحاجة إلى جرأة وأن ترتدي المرأة الشاعرة أو الكاتبة حزاماً في بطولة الرد والإقحام وأن تعالج النفوس المريضة التي تحاول مد الشرايين إلى ساحات الشرف ورفض العلاج، إما بالسجن وشحذ السكاكين القبيلة. ليست كل امرأة تستطيع حشو القنابل بالورود، وتكسير أعمدة الشنق وتحوليها إلى سلم للموسيقى؟ ليست كل امرأة تطالع صورة الحبيب وتحولها إلى قارب نجاة إلا المرأة المتحدية التي صنعت من الأقنعة منطاداً وقامت بالطيران فوق ناطحات سحاب التحدي، وجعلت من صوتها نوراً وناراً أضاء الصفحات”.
وعن الغزل في الزمن القديم تقول: “نعم قرأت الكثير الكثير، في المدرسة الثانوية كان حب قيس وليلى من خلال مسرحية “مجنون ليلى” للشاعر أحمد شوقي، حيث كان قيس يملأ الصحراء والجبال بعذوبة ألفاظه وكلماته ونيران دموعه، وكنا نختلس الكلمات ونحفظها غيباً ونلعن المجتمع. وجميع المعلقات في الشعر الجاهلي بدأت في الغزل ولم يقف ويتجمد في العصر الإسلامي، كان الشعر الغزلي من أصدق العبارات لأنه يخرج من شغاف القلب.
بعد المرحلة الثانوية بدأت في اصطياد الأسماء التي عشقت وماتت في سبيل الحب، جميل وبثينة، قيس ولبنى، عنتر بن شداد وعبلة، وقد كنت أردد قصيدة عنترة، ومازلت أقول أن أجمل ما قيل في وصف ابتسامة المرأة.. قول عنترة:
(ولقد ذكرتك والرماح نواهلُ مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوفِ لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم)
وقد تأثرت جداً بحياة وجرأة الأميرة الشاعرة “ولادة بنت المستكفي”، ابنة الخليفة “محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله” الشهير بالمستكفي بالله، تلك الأميرة الأندلسية الجريئة التي كانت تخالط الشعراء والأدباء، وكانت أول امرأة تجعل بيتها مركزاً أدبياً يلتقي فيه الشعراء، وقد أحبها الشاعر “ابن زيدون” الذي اهداها “نونيته الشهيرة” التي مطلعها:
(أضحى التنائي بديلاً من تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا)
ألم تقم الشاعرة “ولادة بنت المستكفي” بجرأة تحسدها عليها جميع النساء عندما كتبت على رداءها بخيوط من ذهب في ذلك الوقت
: أنا والله أصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيهاً
أمكن عاشقي من صحن خدّي وأعطي قُبلتي من يشتهيها
الذاكرة مليئة بالأسماء، وذاتي أشبه بالأرض إذا حرثتها سيخرج من باطنها عشرات القصائد والأسماء، ولكن حسب رأيي سيبقى الغزل يركض فوق الصفحات الأدبية حتى نهاية البشر، لأن “الحب لو لم نجده لاخترعناه” حسب قول الشاعر “نزار قباني”
وعن غزل كتبته نساء في الوقت الحاضر تقول: “أكيد اطلعت على الكثير من أدب وقصص قصيرة وروايات وشعر لشاعرات وكاتبات عربيات، فقد حمل هذا العصر لنا صوت المرأة وصدى كلماتها في فضاء الدول العربية، ففي العراق قرأت قصائد الشاعرة نازك الملائكة والشاعرة لميعة عباس عمارة وكتابات ديزي الأمير وغيرهن، وفي مصر روايات وقصص التحدي والمواجهة من الكاتبة أمينة السعيد إلى الكاتبة نوال السعداوي إلى الكاتبة أهداف سويف إلى الكاتبة زينب صادق والكاتبة إقبال بركة إلى الكاتبة زينب العسال إلى الكاتبة سكينة فؤاد إلى الكاتبة لطيفة الزيات إلى الكاتبة منى حلمي وغيرهن.
أما في سوريا فقد اطلعت على أدب وشعر الكاتبة غادة السمان التي حملت الجرأة وبسطتها على جميع الجهات في القصة والمقالة والشعر والرواية، وكذلك الكاتبة كوليت خوري المرأة كتبت في سنوات الستينات روايتها الشهيرة “أيام معه” فأقامت الدنيا ولم تقعدها ثم روايتها “ليلة واحدة” و ديوان شعر”رعشة ” . في لبنان كانت الكاتبة حنان بعلبكي التي وصلت جرأتها إلى المحاكم من خلال روايتها “سفينة حنان إلى القمر” ورواية “أنا أحيا” و الكاتبة “حنان الشيخ” في روايتها “حكايتي شرح يطول” فقد وصلت جرأة هذه الكاتبة في الكتابة عن والدتها وعشقها لرجل آخر غير والدها، وكذلك في رواية “حكاية زهرة “.
في فلسطين كانت قصائد “فدوى طوقان” غزل محاط بالخوف والتردد، أما الكاتبة سحر خليفة فقد كانت جرأتها في رواياتها ممزوجة بقضايا الوطن والاحتلال. في جميع من ذكرتهن من كاتبات وغيرهن كان هناك التفاوت في قدرة الكاتبة أو الشاعرة على المضي في طرق الأبواب والصراخ والمواجهة والانكسار. كان توقيت كتابة الغزل ومواعيد النشر والجرأة والصفحات المفتوحة تتفاوت بين المنطقة والكاتبة، بين السند لها وبين هروب السند، ولكن لا ننسى أن المشاكل والقضايا الاجتماعية والظروف الاقتصادية والسياسية كانت وما زالت تأكل حيوية وقدرة الشاعرة والكاتبة وتشعر أن الكلمات في هذا الزمن اغتيالاً للذين يسعون للحصول على كسرة خبز وزجاجة ماء، أحياناً الغزل يساوي الرفاهية “.
وعن الاختلاف بين الغزل في كتابات النساء عن الغزل الذي يكتبه الرجال تقول: أكيد الرجل يكتب ويتكلم ويفاوض الكلمات من موقع الذكورية والقوة، الأوراق تصبح أمامه واسعة وشاسعة وبوسعه أن يضيف إليها كل أحاسيسه وموسيقاه التي عزفها للنساء أو يحكي للورق عن أحلامه التي هربت منه وما زال ينتظر عودتها. غزل المرأة يسري ويذوب تحت الجلد وإذا ضبط خارج الدورة الروحية، قد تتحول المرأة إلى متهمة بالعبث بالأعراف والقوانين وبشوارب زعيم القبيلة ومسحت الأرض ببصمات وعضلات قبضايات العائلة.
غزل الرجل شموخ وعجرفة وتكبر ومباهاة.. !! غزل المرأة خوف وتنقية الكلمات وضبطها في ميزان المجتمع قبل نشرها. غزل الرجل يضيف لرصيد الرجل العيون والآهات والإعجاب. غزل المرأة يضيف لها العزلة والأقفال ومحاكم التفتيش والنوم في أكياس الحرمان”.
وعن ماذا تريد أن تقول الكاتبة حين تكتب الغزل تقول: “بالنسبة لي أعبر عن ذاتي، عن صدقي، عن فرحي بهذه المشاعر الجديدة، أعبر عن خروجي من دائرة الفصول المملة إلى دائرة الصدق مع نفسي، حيث لا أمارس الخداع وأكون شفافة، واضحة أقترب من حقيقتي كامرأة عليها أن تأخذ إلى عالمها الجديد قارات الاشتياق وشلالات الوفاء وجزر الوجوه التي تحضن هذه المشاعر، فليس كل وجه يستطيع أن يغرس في ترابك زهرة القبول وعدم تنبيهك لثرثرة عجائز المجتمع، وليس كل من حمل شمعة لك أضاء نفق الرضا ويطلب منك السير في طريقك، هناك امتحانات يسقط فيها الذين حولك وتصبح وحدك على الجبهة.
الغزل قضية شائكة إذا لم تكن صادقاً، وإذا قالوا أعذب الشعر أكذبه، فأنا أقول أجمل الغزل أصدقه، وليس كل ما قيل في الغزل كان صادقاً بعضه كان للاستهلاك الكلامي وفضفضة شاعر وكاتب”.
مضطرّة إمّا للخوض في حروب لحماية نصّها..
تقول الشاعرة اللبنانية “أماني غيث”: “إذا ما بحثنا عن تعريف للغزل فسنتفاجأ، بأنّ معظمها تفسّره على أنّه نوع أو فنّ شعريّ يعبّر فيه الشّاعر عن شوقه، أو مشاعره للحبيبة أو المعشوقة من خلال وصفه لمفاتنها ومحاسنها..
تعريفٌ حتمًا مستفزّ وصادم، بما فيه من ذكوريّة وإقصاء لحرّيّة المرأة الكاتبة في قول ما تحسّه، وفي تعبيرها عن الحبّ وكتابتها في الحبيب. فنتساءل: ما دامت المرأة كائنًا يفيض بالمشاعر والأحاسيس، بالحبّ والحزن والغضب والشّوق، فكيف لا تترجم حالات قلبها ولغته وكيف لا تكتب عمّا أو عمّن تهوى؟ أم أنّ الموضوعات المسموح لها بها قليلة جدًّا تقتصر على الشّكوى من ظلمٍ ما، في حين يبوح الرّجل بحبّه ويعبّر بكلّ صراحة عن إعجابه ويتغزّل بجسد المرأة بكلّ تفاصيله وأحيانًا بجرأة قد تصل إلى الابتذال”.
وتواصل: “إلّا أنّ تاريخ الأدب العربيّ يقول العكس، فالشّاعرات العربيّات كتبنَ الغزل منذ القدم أكان عذريًّا أم جريئًا. فها هي الأميرة العبّاسيّة الشّاعرة والعازفة عُليّة بنت المهدي الّتي عُرف عنها حبّها للتّراسل بالشّعر والتّغزّل بمن يعجبها من خدم، تكتب لخادمٍ لها يدعى طل، بعد أن وقعت في غرامه:
“سلّم على ذاك الغزال الأغيد الحسن الدّلال
سلّم عليه وقل له يا غل ألباب الرّجال”
وعلى غرار أخت “هارون الرّشيد” (عليّة بنت المهدي)، فعلت بنت المأمون خديجة، فقد كانت تتغنّى بمن يعجبها صراحةً:
“تالله قولوا لي لمن ذا الرّشا المثقل الردف الهضيم الحشا
أظرف ما كان إذا ما صحا وأملح النّاس إذا ما انتشى
وقد بنى برج حمامٍ له أرسل فيه طائرًا مرعشًا
يا ليتني كنتُ حمامًا له أو باشقًا يفعل بي ما يشا
لو لبس القوهيّ من رقّة أوجعه القوهيّ أو خدشا”
ومَن منّا لا يحفظ هذين البيتين الجريئين ل”ولّادة بنت المستكفي” الأميرة الأندلسيّة الّتي عُرف عنها التّغزّل بجمالها والتّفاخر به:
“أنا والله أصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيها
أمكّن عاشقي من صحن خدّي وأعطي قبلتي مَن يشتهيها”
وعن الغزل في الأدب الحديث وفي الشّعر المعاصر: في هذا العصر حيث نشهد تزايد للحرّيّات ووصول المرأة بل هيمنتها في كافّة المجالات وتغلّبها على الكثير من القيود والعقبات، حيث أصبحت المرأة تشارك الرجل في كلّ شيء بل تسبقه حتّى. كيف انعكس ذلك على ورقها وتعبيرها عن الرّجل؟
أسيل سقلاوي كتبت:
سأكتب عن سماركَ نصف بيتٍ
ونصفًا عن حنينٍ لا يُحدُّ
وتدري أنّني من بيت شعرٍ
أعدّ بأحر فيما لا يُعدُّ
جنونكَ ..
واشتعالكَ…
.. واشتهائي
وحسنًا ما له في الحسن ضدُّ
في حين نقرأ للشّاعرة “حنان فرفور”:
“وسلالي الجوعى تئنّ، فبيننا
ألف انتظارٍ، يشتهي أن نقطفه!
والدّاليات على قميصي، فكرةٌ
فافتحْ عراوي ليلنا لنثقّفه..
وافردْ صداك، وعلّمِ الأوتار
تبكي فوق، لا
تحت الجفون المدنفه!
لا يستوي في الحبّ
مَن دلف الحياة بشمعتين
ومَنْ ..عماهُ غلّفه!
الحبُّ ماء العارفين، وهائمٌ
في الغيب دار بِهائمٍ.. ليكثّفه
فاسكبْ لنا..واسكب بنا
كأس الهوى
ذابت يدي..هاتِ الشفاهَ لنغرفَه!”
أمّا بالنّسبة إليّ، “أماني غيث”، فالغزل هو أقلّ الموضوعات الّتي أكتبُ عنها أو الّتي تجذبني، نظرًا لكثرة ما يمكن أن نعبّر عنه في بلدٍ مليء بالأزمات والمآسي، وفي مجتمعٍ طافح بالعلل والظّواهر الّتي تستدعي الكتابة. وفي حال كتبته، أراني أميل للعذريّ منه، غير الصّريح، كوني كاتبةً تهوى المسافات وتحبّ للحبّ والحبيب السّموّ والرّفعة. فيما يلي مقاطع من كتابي “فلترجموها بوردة”:
“لا أعرف ضرورةً شعريّةً
غيركْ،
لذا، أكتبك في كلّ سطر، كي لا ينكسر البيت،
فمن دونك أنت، لا توزن القصائد.”
” أفكِّر في نسخِك
في الحصول على عددٍ كبيرٍ منك
في أن أكرّرك
في كلّ سطر
وفي كلّ أغنية
عند كلّ مزاج
و موعدٍ جديدٍ لي مع الوحدة
…
بحاجة ليديك مليون إصبع
تمدّها لي فتطعم خيالي
من الشعر المكتوب
نمشاً أسود
فوق جلدِك
أحتاجك بِنهم
فكن كثيراً
وكن شعراً
وموسيقا
وتعال إليّ كقبيلة
قد أكتفي بقبيلة كلّ أفرادها أنت”
“تفضّل هذه فضيحة أخرى
قلبي يسرقك
قلبي ينتحل صفتك
سمعته يتقمّص صوتك
رأيته يقلّد حركاتك
يزوّر إمضاءك
ويكتب اسمكَ أسفل قصائد…”
وتؤكد: “ويبقى السّؤال في مجتمعٍ يبرّر للرّجال الكثير ويدين المرأة على أقلّ شيء: هل تجد الكاتبة نفسها مرتاحةً في كتابة ما تريد، فيما تتراشق عليها التّهم والأسئلة: مَن تقصدين؟ وعمّن كتبتِ في هذا النّصّ؟ أم تراها مضطرّة إمّا للخوض في حروب لحماية نصّها أو شخوصها وأفكارها وعباراتها وإمّا مجبرةً على المحو والتّرميز وإخفاء بعض كتاباتها الغزليّة هربًا من محكمة القارئ الّذي نتفاجأ به أحيانًا يرفض تصديق أنّ الكاتبة تستدعي خيالها وأنّ ليس كلّ ما تكتبه قد يكون بالضّرورة وليد الواقع والحقيقة؟!”.