12 أغسطس، 2025 11:12 ص

مأزق دعائي كبير .. الجيش الأميركي يعاني حاليًا أزمة لتسويق نفسه غير معتادة تاريخيًا !

مأزق دعائي كبير .. الجيش الأميركي يعاني حاليًا أزمة لتسويق نفسه غير معتادة تاريخيًا !

وكالات – كتابات :

نشرت مجلة (ناشيونال إنترست) مقالًا؛ لـ”جو بوتشينو”، العقيد بالجيش الأميركي، والذي شغل سابقًا منصب المتحدث باسم وزير الدفاع، يتحدث فيه عن نشأة فكرة تسويق الجيش الأميركي، وواقعه الحالي.

ويستهل الكاتب مقاله أنَّه في أواخر عام 2019، أعلن الجيش الأميركي عن شاغر وظيفي جديدٍ يُركز على تسويق الجيش بوصفه قوة قتالية حديثة، ملائمة لوقت الحرب والسلم، ومهيئة للمستقبل، ولا يعدُّ هذا النوع من الترويج جديدًا، فعلى مدار العقود، روج الجيش نفسه بوصفه فرصة لخريجي الثانوية الطموحين، الراغبين بتحقيق شيء في حياتهم من خلال تعلم مهارات جديدة، ومواكبة أحدث التقنيات.

ويذكر الكاتب أنَّ الجيش روجَ لنفسه بعبارات وشعارات مختلفة، كمؤسسة حديثة وفعَّالة في المجتمع الأميركي، فمن شعار: “الجيش الجديد” المُكّون من القوات المتطوعة التي تُركز على الابتكار أكثر من الأحذية اللامعة وقصَّات الشعر، إلى العبارة التقليدية: “جيش اليوم يُريد منك الانضمام إليه”، إلى عبارات مثل: “كن كل ما تستطيع” و”جيش واحد”، إلى العبارة المشؤومة: “جيش قوي”.

وبهذا الترويج، أصبح الجيش أكثر من أداة حكومية أو قوة برية، بل مؤسسة أميركية عظيمة، تفعل الخير للشباب والشابات، وتُعلمهم الانضباط، والمهارات الوظيفية، وتصعد بهم إلى الأعلى لتحقيق الأهداف الكبيرة.

ويذكر الكاتب أنَّ تسويق الجيش وُلِد من رَحِم الضرورة، وسط تساؤلات حول الحاجة المستمرة لجيشٍ بريٍّ كبيرٍ، وضمن خلفية كارثة ذرية محتملة، وتخلت الجهود التسويقية الأولية عن القوات البرية، مع التركيز على التكنولوجيا الناشئة.

“الرؤية الجديدة”: صعود القوة الجوية..

قبل “الحرب الباردة”، أصيب الجيش الأميركي بالقلق بعض الشيء على صورته واسمه، مما دفعه لجعل التجنيد فقط عند الحاجة. وأدى الاختبار الناجح للأسلحة النووية السوفياتية؛ عام 1949، إلى نوعٍ جديدٍ من حرب القوى العظمى، تكون للقوة الجوية، والقنابل الذرية، الأسبقية على القوة البرية.

ودفعت إستراتيجية الاحتواء العالمية؛ “أميركا”، إلى تجنب الكارثة النووية، وهزيمة الشيوعية، وأدى ذلك إلى صياغة إستراتيجية كبرى بدءًا من سنوات الرئيس الأميركي؛ “هاري ترومان”، وعُبَّر عن إستراتيجية الاحتواء، لأول مرةٍ عام 1946؛ ببرقية إلى “وزارة الخارجية”، كتبها “جورج كينان”؛ القائم بأعمال “أميركا” في “موسكو”، حين دعا إلى استخدام جميع أدوات القوة الوطنية، لمنع انتشار الشيوعية في العالم دون الاشتباك في حربٍ فعلية.

ولإنهاء المنافسة العالمية، إلتزمت “أميركا”؛ بـ”مبدأ ترومان” التالي: ستُساعد “أميركا” أي دولة تُحارب الشيوعية، وستطور ترسانة نووية تستطيع القضاء على “الاتحاد السوفياتي”.

ويذكر الكاتب أنَّه عندما تولى “دوايت أيزنهاور” الرئاسة؛ عام 1953، تبنى أسسًا فلسفيةً للأمن القومي الأميركي، بوثيقته المعروفة باسم: (إن. سي. أس-68 – NSC-68) للاحتواء، وتركزت سياسته الشاملة حول: “الرؤية الجديدة”؛ على هدفين مزدوجين: الأول الحفاظ على اقتصاد محلي قوي قادر على الصمود أمام “الإمبراطورية السوفياتية”، والثاني بناء قدرة ذرية مدمرة تمنع “الاتحاد السوفياتي” من استخدام أسلحته الذرية، وسهَّل صُنّاع الأسلحة الأميركية كلا الهدفين بضخهم للأموال والوظائف، وتقليص ميزانية الدفاع الفيدرالية، وتطوير أحدث التقنيات النووية.

كانت “القيادة الجوية الإستراتيجية”؛ (وهي قيادة رئيسة في القوات الجوية)، المؤسسة الأمثل لتجسيد الرؤية الجديدة، وكان يُمكنها توجيه ضربة نووية، ومثلت قوة الردع للسوفيات، وفي عامها الثامن، أصبحت “القوات الجوية” فجأةً تُعبر عن مستقبل الحروب، بينما مثَّل الجيش الذي كان متعثرًا في “كوريا”، طريقةً لحربٍ عفا عليها الزمن، وكان الطيار الحربي يُجسد التكنولوجيا المتقدمة، والقوة الإستراتيجية، وكان يُصور جندي الجيش وكأنَّه من صفحات التاريخ.

يُضيف الكاتب أنَّ سياسة إعادة توزيع الموارد عكسَت هذه الديناميكية، فبحلول عام 1956، بلغت ميزانية “القوات الجوية” تقريبًا ضعف ميزانية القوات الأخرى، وانخفضت ميزانيات الجيش المُشّكل من: 20 فرقة مكونة من مليون ونصف المليون جندي؛ عام 1953، إلى: 14 فرقة مكونة من: 859 ألف جندي بحلول فترة مغادرة “أيزنهاور” من منصبه؛ عام 1961.

كان الهدف من الجيش يشوبه الغموض بعض الشيء، خاصةً مع وجود فرق عديدة دُربت على استيلاء المناطق، وتأمين الموارد المحدودة، والمياه والطاقة في ساحة معركة مدمَّرة نوويًا، وفي معظم الخطط الحربية، كان القتال الفعلي يبلغ ذورته بحلول الوقت الذي تصل فيه وحدات الجيش.

ومع تعرض الجيش لضربات متكررة في مكانته وتمويله وصورته، كان المتطوعون ينضمون للخدمة لدخول “القوات الجوية”، والتهرب من الخدمة في الجيش، وكان من تبقى في الجيش مستنزفًا معنويًا من العاطلين الذين يُريدون الخروج بمجرد إنتهاء خدمتهم الإلزامية التي تستمر عامين.

ومن دون مهمةٍ واضحةٍ ضمن هذه الرؤية الجديدة، كان الجيش يُقاتل في البرية بحثًا عن المكانة، وانخفضت فيه الانضباط والروح المعنوية، وترك معظم المجندين الخدمة بعد دورتهم الأولى، وسعى المراهقون المغامرون لتكليفهم في القوات الجوية بدلًا من الجيش.

وكان لصورة الرقيب المتلعثم وغير الجاد؛ “إرنست جي بيلكو”، في المسلسل الهزلي: (فيل سيلفر شو-Phil Silver Show)؛ المعروض من قِبل شبكة (سي. بي. إس)، صدى لدى الجمهور الأميركي، وليستمر بقاؤه كان على الجيش استخدام أساليب التسويق الجماعي الجديدة، مستجيبًا للنزعة الاستهلاكية بعد الحرب العالمية الثانية.

تسويق الجيش بوصفه قوةً حديثةً..

يذكر الكاتب أنَّه ابتداءً من عام 1956 حتى نهاية العقد، بدأ الجيش تسويق نفسه بوصفه قوة مستقبلية حاسمة في العهد الذري، وباستخدام حملة علاقات عامة، وإعلانات في شارع “ماديسون” الشهير؛ في “نيويورك”، والظهور على شاشات التلفاز، والأفلام، والمجلات، استطاع الجيش الوصول إلى المواطنين وجلبهم للخدمة.

وكان مكتب رئيس المعلومات في الجيش؛ (يُعرف اليوم باسم مكتب رئيس الشؤون العامة)، عنصرًا محوريًّا في شنِّ الحملة الترويجية، وبذل المكتب جهدًا كبيرًا، في تطوير أغنية خاصة للجيش، وتصميم زيٍّ جديدٍ، وإنتاج إعلانات تلفزيونية، وكتيبات، ومقاطع أفلام، وبرامج تلفزيونية تُروج لخبرات جديدة وفرص وظيفية.

وبهذا المجهود الدعائي، أصبحت حياة الجندي لا تصور وكأنَّها حياة لتعلم المهارات المهمة وفقط، بل أيضًا مرحة، وممتعة، وكان الجندي الأميركي أواخر الخمسينيات يُصّور وكأنَّه من رواد التكنولوجيا، تمامًا مثل حملة الجيش اليوم التي يُطلق عليها: (What is Your Warrior)، وضمن هذه الحملة، جالت فرق الجيش في المدن الأميركية، وشجع المؤثرون والقادة المجتمعيون للمشاركة في برنامج (Hometown Release)، الذي يرُسل معلوماتٍ مهمةٍ إخباريةٍ عن أحوال القوات إلى مسقط رأسهم، وتواصل “مكتب رئيس المعلومات” بالجيش مع (هوليوود) للتأثير في طريقة تصوير الجيش في الأفلام القادمة.

يُضيف الكاتب عنصرًا آخر لحملة العلاقات العامة؛ وهي تدريب الجيش؛ ففي أواخر الخمسينيات طوَّر الجيش تدريبات مكلفة لرفع مستوى الفرق، وكانت التدريبات بمثابة مسرحية أكثر من حربٍ فعلية، ودُعي المراقبون، وقادة المجتمع، والصحافة المحلية، لمشاهدة العمليات التي تُشارك فيها طائرات الهيلكوبتر، والمناورات، وقاذفات الصواريخ الحديثة، ومَنَعت هذه التدريبات الوحدات للاستعداد الفعلي للقتال، واستهلكت قدرًا هائلًا من الوقت والموارد ولم تعكس ظروف القتال الواقعية.

وتتوافق مثل هذه التدريبات مع حملة الترويج التي يعمل عليها الجيش، فخلال الحرب العالمية الثانية، كانت صورة الجيش وكأنَّه يخوض مشاجرة، وصورة الجندي على أنَّه قذر، وفظ، يُثير المشكلات في الحانات، ويزحف عبر الأوحال لقتل النازيين بيديه، وعلى النقيض أصبحت صورة الجندي الجديد أقل جرأة وأكثر بريقًا وتنمقًا.

استجابة مرنة..

يذكر الكاتب أنّه بعد ثماني سنوات؛ في 20 كانون ثان/يناير عام 1961، غادر “أيزنهاور” الرئاسة وعمره سبعون عامًا، وغادرت معه الرؤية الجديدة القائمة على الثأر الكبير من الحرب النووية، وانتهى بنهاية عهده إيمان (البنتاغون) الأعمى بالردع، مع وصول الرئيس الأميركي؛ “جون كينيدي”، البالغ من العمر: (43 عامًا)، والذي يشعر أنَّ نهج “أيزنهاور” كان سطحيًّا ومضحكًا، وغير رادع للعدو، أو حاسم للصراع النووي العالم.

والأهم من ذلك، قناعة “كينيدي” أن إستراتيجية؛ “آيك الكبرى”، وتهميش الجيش، تركا الأمة بلا خيار معقول غير القوة النووية أو الهزيمة الكارثية؛ (كانت العبارة المنتشرة حينها هي عبارة هنري كيسنغر: “انتحار أو استسلام”).

وكانت سياسة: “الرد المرن”، التي أتبعها “كينيدي” تستلزم جيشًا قادرًا على الانتصار في كل أشكال النزاع المسلح؛ ومن هنا، بدأ الجيش تشكيل نفسه، ليُصبح قادرًا على خوض “حروب العصابات”، و”مكافحة التمرد”، و”دعم جيوش الدول”، للمواجهة التقليدية مع السوفيات.

وفي محاولة إضفاء البهجة على “القوات البرية”، على الرغم من وجود اعتراضات داخلية، وافق “كينيدي” على إرتداء القوات الخاصة للجيش القبعات الخضراء في وقت مبكر من إدارته، وهي خطوة كان “آيك” رفضها منذ وقتٍ طويلٍ.

تسويق الجيش على مر السنين..

منذ سنوات “أيزنهاور” يسوِّق الجيش لنفسه بنجاح، وتتنوع حملاته وشعاراته، لكن الرسالة الوحيدة الباقية إلى حدٍّ كبيرٍ: الجيش أكثر من مجرد ضامن للحرية. وبينما يُمثل سلاح الجو التكنولوجيا، والمجالات الجديدة، يُمثل الجيش ثقافة الأمة وأفكارها ومبادئها، ويُعد الجيش بخلاف باقي المؤسسات، مرآة مواطني “الولايات المتحدة”.

ويختتم الكاتب مقاله بأنَّ أساليب التسويق الجديد، ستحمل معها التقليد الكبير للترويج؛ ليس فقط لفضائل الجيش، بل للمتطوعين في الخدمة، وسيُنصح مسوقو الجيش الاهتمام بتجربة الترويج في عهد الرؤية الجديدة، وبكل الأحوال، فإنَّ أفضل ما يُمثل صورة الجيش ليس الأقمار الصناعية، والرادارات، والأنظمة الإلكترونية التي تظهر في الحملات الدعائية، ولكنّها الرؤية القديمة المتمثلة في “معركة ترينتون”: مجموعة جنود قذرين، يُعانون من البرد والتجمد، وخائفين، ومبللين، ومتعبين، يقاتلون في أرض العدو.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة