وكالات – كتابات :
يحظى حلف الـ (ناتو) بوضع خاص جدًا في السياسة الخارجية الأميركية، ومن يتجرأ على انتقاد استمراره بعد إنهيار “الاتحاد السوفياتي” يواجه انتقادات تصل حد التخوين، فهل يجعل الحلف العسكري الغربي العالم أكثر أمنًا فعلاً ؟
كانت الحرب الأكثر تدميرًا في “أوروبا” منذ الحرب العالمية الثانية؛ قد اندلعت على خلفية أزمة جيوسياسية مرتبطة برغبة “أوكرانيا” في الانضمام لـ”حلف شمال الأطلسي”؛ الـ (ناتو)، وهو ما تعتبره “روسيا” تهديدًا لأمنها القومي. ولا تزال تلك الحرب مشتعلة منذ أكثر من خمسة أشهر، ويُعاني العالم أجمع من تداعياتها الكارثية.
ونشرت مجلة (فورين بوليسي) الأميركية تحليلاً عنوانه: “الـ (ناتو) سلعةٌ فاخرة لا تحتاجها الولايات المتحدة”، غاص في الأسباب التي من أجلها تأسس الحلف العسكري الغربي قبل عقودٍ طويلة، والدور الذي يلعبه وجود الحلف في السياسة الخارجية لـ”واشنطن”.
لماذا يُمثل الناتو “قيمة” كبيرة لأميركا ؟
لعقود من الزمان، كان الإعتقاد السائد في مؤسسة السياسة الخارجية بـ”واشنطن” هو أن حلف الـ (ناتو) يُمثل قيمة هائلة لـ”الولايات المتحدة”. وكما كتب الدبلوماسي الأميركي السابق؛ “ويليام بيرنز”، في مذكراته، حتى توسيع الحلف: “ظل مسألةً آلية تتعلق بالسياسة الأميركية، بعد فترة طويلة من إعادة تقييم افتراضاته الأساسية. كان المقصود في الأصل من الإلتزامات أن تعكس المصالح التي تحولت إلى مصالح بحد ذاتها”.
كونك من المتشككين في حلف الـ (ناتو)؛ في “واشنطن”، يُشبه أن تكون شابًا أبيض في منتصف العمر يحضر حفلة موسيقية لـ”باد باني”؛ (باد باني؛ مطرب من بورتوريكو وأحد نجوم الموسيقى اللاتينية في الولايات المتحدة). في كلتا الحالتين تشعر أنك في غير محلك، بحسب تحليل المجلة الأميركية.
كما يطرح “بيرنز”، فإن أحد الأشياء التي تحدث مع إجماعٍ غير مُفحَّص هو أن الحجج المؤيدة له تفشل في صقلها عندما تتم مقارنتها بالدفوع المناقضة لها، لحسن الحظ تدخلت “كاثلين ماكينيس”، وقدمت لقُراء السياسة الخارجية حجة مفادها أن الأميركيين لا يزالون بحاجة إلى الـ (ناتو).
تُجادل بقوة في مقالها بأن الـ (ناتو) هو الجذر الرئيس: لـ”الازدهار الاقتصادي الهائل والحرية”؛ التي يتمتع بها الأميركيون. لا يقتصر الأمر على الازدهار والحرية فحسب، بل إن توفير الأمن للأوروبيين: “يسمح للولايات المتحدة بوضع أجندة الأمن الدولي”، ويُعزز مصداقية “الولايات المتحدة” في “آسيا”، وساعد في تسهيل حروب “واشنطن”؛ بعد 11 أيلول/سبتمبر، ويُساعد في التعامل مع: “مهام مكافحة القرصنة خارج الولايات المتحدة في القرن الإفريقي… والصين، علاوة على تغير المناخ، والتقنيات التخريبية المتقدمة”، بالإضافة إلى: “عمليات المعلومات المضللة، والاستجابة للأوبئة، والهجرة، والإرهاب”.
قد يُجادل البعض بأن العمليات الأميركية في “الشرق الأوسط الكبير”؛ بعد 11 أيلول/سبتمبر، كان أمرًا سيئًا؛ نظرًا لأن المهمات نفسها كانت سيئة في الغالب. لقد أهدرت “الولايات المتحدة”: 08 تريليونات دولار، وآلاف الأرواح وحوالي عقدين من الزمن في “العراق” و”أفغانستان”. وأي شيء سهَّل تلك العمليات العسكرية يجب أن يُسجَّل باعتباره خصمًا، بحسب تحليل (فورين بوليسي).
فالغزو الأميركي لـ”أفغانستان” و”العراق” جاء في سياق: “الحرب على الإرهاب”، التي شنَّها الرئيس؛ “جورج بوش” الابن، بهدف القضاء على ما سمّاه: “الإرهاب” حول العالم، وهي الحرب التي لا تزال فصولها مستمرة، وتسببت في مقتل وإصابة وتشريد عشرات الملايين من البشر حول العالم، وتدمير دول بأكملها، واستغلت أنظمة كثيرة حول العالم في جميع القارات شعار: “الحرب على الإرهاب”، لقمع واضطهاد معارضيها والأقليات من مواطنيها، وفي هذا السياق جاءت الإجراءات الصينية بحق “الإيغور” المسلمين، والتي تصفها منظمات دولية وحكومات غربية – بينها “واشنطن” – بأنها: “إبادة جماعية”؛ (بحسب إدعاء التقرير الأميركي).
الـ”ناتو” تحالف عسكري ليس إلا !
لكن هناك مشكلة أكبر؛ الـ (ناتو) ليس معنيًا بالاستجابة الوبائية أو مكافحة القرصنة. ليس له قدرات ولا سلطة ولا ملائمة لهذه الأغراض، حلف الـ (ناتو) هو تحالف عسكري من الطراز القديم، ومهما كانت مشكلة ترحيل اللاجئين والمهاجرين أو المعلومات المضللة كبيرة، فإن التحالف العسكري الغربي لم يُصمَّم للتعامل معها.
تُظهر هذه المشكلات فقط على أنها تسويقية في الوثائق الرسمية الأحدث، بما في ذلك المفهوم الإستراتيجي الذي أصدره الـ (ناتو) خلال قمته الأخيرة في “مدريد”، والذي وضع “الصين” كتهديد. إن حلف الـ (ناتو) يروِّج لنفسه مثل العديد من الكيانات الأخرى، لكنه بموجب المعاهدة وهيكل البيروقراطية، تحالف عسكري مكرس لأمن أعضائه.
بالنظر إلى أصول حلف الـ (ناتو) كتحالف عسكري يهدف إلى ردع العدوان السوفياتي، يجب أن نسأل أنفسنا: مع سقوط السوفيات وسقوط الألمان، لماذا كافحت “الولايات المتحدة” بقوة للبقاء فيه بعد “الحرب الباردة” ؟.. الإجابة بسيطة: لقد كان الـ (ناتو)؛ وسيظل دائمًا، وسيلة للحفاظ على “الولايات المتحدة” كلاعب أمني مُهّيمن في “أوروبا”. إن وجود خلافات أكثر حدة حول هذه الفكرة في الخمسينيات من القرن الماضي؛ مما هو موجود اليوم، يدل على الكثير من غياب النقاش في “واشنطن” اليوم.
حتى تقرير شركة (راند)؛ الذي تستشهد به “ماكينيس” لدعم فكرة: “الدفاع في العمق” في “أوروبا”، يُشير إلى أن قادة “الولايات المتحدة” تبنوا المفهوم فقط على مضض، خوفًا من أن: “حلفاء الولايات المتحدة كانوا أضعف من أن يتمكنوا من احتواء الاتحاد السوفياتي بمفردهم”.
وكما يُلاحظ التقرير؛ فإن الكتائب الأميركية الأربع، التي وافق “الكونغرس” على إرسالها إلى “ألمانيا” في عام 1950: “لم يكن القصد منها البقاء هناك إلى أجلٍ غير مُسمى، في المقابل كان من المُقرر سحب القوات الأميركية عندما تتعافى أوروبا الغربية بشكلٍ كافٍ لتكوين رادع تقليدي خاص بها”.
كانت “أوروبا الغربية” قد تعافت بشكل كافٍ لاستخدام رادعها التقليدي بعد أقل من عقد من الزمان. بحلول عام 1959، وصفت مذكرة الرئيس الأميركي؛ “دوايت أيزنهاور”، بأنه تحدث بأسفٍ قائلاً: “يُحاول الأوروبيون الآن اعتبار هذا الانتشار بمثابة إلتزام دائم ومحدد. نحن نحمل عمليًا كل ثقل قوة الردع الإستراتيجية، ونقوم أيضًا بأنشطة فضائية، وبرامج ذرية، لقد أنفقنا مقابل معظم البنية التحتية، ونحتفظ بقوات جوية وبحرية كبيرة، بالإضافة إلى ستة فِرَق”. إنه يعتقد أن الأوروبيون قريبون من: “ابتذال العم سام… لكن هذا الوقت قد مضى”.
هل سيعتمد أمن “أوروبا” على “أميركا” للأبد ؟
هل يتعين على “الولايات المتحدة” أن تظل المزود الرئيس للأمن في “أوروبا” إلى الأبد ؟.. تُشير التطورات الأخيرة في “أوروبا”، التي حفزها الهجوم الروسي على “أوكرانيا”، إلى أنها ليست كذلك. لم تكتفِ “برلين” بإلغاء خط أنابيب (نورد ستريم-2)؛ (كان المحللون قلقين من أنها قد لا تفعل ذلك)، فحسب، بل أنشأت أيضًا صندوقًا بقيمة: 100 مليار يورو؛ (107 مليارات دولار)، لتعزيز دفاعها وإلتزمت بعد ذلك بإنفاق: 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع. وقدمت “بولندا” وعدة دول أخرى تعهدات مماثلة لزيادة الإنفاق.
ولكن كما قال عالم السياسة؛ “باري بوزين”، في ندوة حديثة لمعهد (كاتو)، هناك سبب للقلق من أن هذه التعهدات لن تتحقق. لقد اندفعت “الولايات المتحدة” وأرسلت: 20 ألف جندي أميركي إضافي إلى “أوروبا” لطمأنة حلفاء الـ (ناتو). الجانب السلبي للطمأنة هو أنه عندما تُطمئن الجانب الآخر بما فيه الكفاية، فمن المُرجح أن يُصدقك حلفاؤك وقد لا يتقدمون ويفعلون المزيد للدفاع عن أنفسهم.
يبدو من المُرجح أن الأوروبيين، الواثقين من ديمومة الرادع الأميركي، سيعودون إلى العمل كالمعتاد في “أوروبا”. على سبيل المثال، كما يظهر عمل “جينيفر ليند”؛ في “اليابان”، فإن “اليابان” فعلت أكثر نسبيًا للدفاع عن نفسها فقط عندما كانت تخشى أن تفعل “الولايات المتحدة” أقل. في هذه الحالة قدم الهجوم الروسي على “أوكرانيا” العلاج بالصدمة لتقييم التهديدات على “أوروبا”. إن استعادة “الولايات المتحدة” لتكون بمثابة المُدّافع عن “أوروبا” قد يُعيد اللامبالاة والتقاعس عن العمل.
في عام 2022، لم يكن حلفاء “الولايات المتحدة” أضعف من أن يتمكنوا من احتواء “روسيا” بمفردهم. إنهم ببساطة يرفضون القيام بذلك إنطلاقًا من إعتقاد راسخ بأن “الولايات المتحدة” ستفعل ذلك من أجلهم، وبالتالي سيستفيد شعبهم من إنفاق أموال الضرائب الخاصة بهم على الأولويات المحلية.
لا تستطيع “الولايات المتحدة” الحفاظ على دورها كحجر زاوية للأمن الأوروبي، بينما تتنافس بنجاح مع “الصين” المتنامية بإطراد. وعلاوة على ذلك، فإن ذلك يؤدي أيضًا إلى إضعاف تحالفاته في “آسيا”.
لا يزال المديح المُوجه للمجتمع عبر الأطلسي رائجًا في “واشنطن”؛ لأنه يُنظر إليه على أنه رخيص، إنه ليس كذلك. بدأت قيود الموارد في الظهور. ميزانية الدفاع التي تضخمت بالفعل عند: 847 مليار دولار لن تتجه إلى تريليون دولار أو أكثر في أي وقتٍ قريب. الحفاظ على هيمنة “الولايات المتحدة” على المشهد الأمني الأوروبي هو سلعة فاخرة لا تحتاجها “الولايات المتحدة” في عام 2022.
وخاضت “الولايات المتحدة” حربين لمنع ظهور هيمنة أوروبية في القرن العشرين، ولا توجد هيمنة أوروبية محتملة في الأفق أو حتى تجاوزه في الوقت الحاضر. على الرغم من كل صخب “روسيا” فإنها تُكافح من أجل المشاركة حتى في جزء من جار أصغر بكثير وأفقر، ناهيكم عن الاحتفاظ بها.
لهذه الأسباب من المحتمل أن يبدأ دعاة حلف الـ (ناتو) باعتباره تحالفًا دائمًا في التفكير في الخطة (ب)، وليس الإعلان عن التحالف كعلاج لجميع المشكلات بما في ذلك تغير المناخ والقرصنة والمعلومات المضللة. “أوروبا” غنية وقوية بما يكفي للدفاع عن نفسها، لكن الأوروبيين لن يفعلوا ذلك ما لم تتوقف “الولايات المتحدة” عن فعل ذلك من أجلهم.