((نحن معشر الباحثين عن المعرفة ، لا نعرف أنفسنا ، إننا نجهل أنفسنا .
وثمة سبب وجيه لذلك ، فنحن لم نبحث عن ذواتنا ، فكيف لنا إذن أن
نكتشف أنفسنا بأنفسنا ذات يوم ؟! )) – نيتشه
ليس هنالك أصعب على من يمتهن العمل في مجالات الثقافة وميادين الفكر ، سواء أكان لأغراض التكسّب أم لضرورات التأدب ، امتشاق سلاح النقد وشحذ مشرط التشريح وتنكب معول التعرية ؛ لمساءلة وعيه الذاتي (كفاعل) ، ومحاسبة أخلاقياته الاجتماعية (كمنفعل) . ذلك لأن هذه الممارسة / المغامرة الجسورة تتطلب ، من جملة ما تتطلب ، التجرد من أهواء التعالي النخبوي ، والتحرر من إغواء اللذة النرجسية ، والزهد عن أضواء الشهرة المظهرية . وإذا كان هناك من يبادر – لاعتبارات معينة – بوضع خزين تصوراته وحصيلة فكرياته ، بين شقي رحى النقد المنهجي والتفكيك المعرفي ، لتنقية عدته المفاهيمية وغربلة جعبته الثقافية ، فانه سيكون قد كسر القاعدة واعتلى صرح الاستثناء . ولهذا فقد اعتبر المفكر اللبناني (علي حرب) إن (( النقد هو في المحل الأول وعلى النحو الأفعل ، نقد للذات بالاشتغال عليها والفعل فيها ، من أجل إعادة تشكيلها ، بصورة تؤدي إلى إطلاق ما انحبس أو فلق ما امتنع أو هتك ما انحجب أو استعارة ما أهمل واستبعد )) . ولما كان المثقف – أي مثقف – بوصفه إنسان ينتسب لواقع اجتماعي معين ، وكيان ينتمي لسياق تاريخي محدد ، وذات تنخرط بنمط حضاري مخصوص ، فان كل ما يطرأ من تغييرات في بيئة الأول ، وما يستجد من انعطافات في سيرورة الثاني ، وما يستحدث من تبدلات في منظومة الثالث ، لابد وأن يتردد صداها في رواق ذهنه ، وتنداح مؤثراتها في بطانة وجدانه ، وتشرأب قيمها في تعبيرات سلوكه . من منطلق كونه المنتوج الإنساني الأكثر تحسسا”لتقلبات الواقع ، والأسرع تجاوبا”لارهاصات المجتمع ، والأشد انفعالا”لانزياحات القيم ، والأعمق إدراكا”لتجاذبات الفكر ، والأبعد استشرافا”لأزمات الوجود . بيد إن هذه المناقب والمزايا – وربما بسببها – لا تحول دون أن يقع صيدا”سهلا”، بين أحضان الوداعة الاجتماعية والسكينة النفسية والعطالة الذهنية ، على خلفية استغراقه بأوهام كونه أضحى ؛ أمينا”على أسرار الحكمة ، ومالكا”لمفاتيح خزائن المعرفة ، وحائزا”لذخيرة إبداع الثقافة . وهو ما سوف تربأ به هذه الحالة المرضية عن الإسهام في تعقيل الأمور السياسية ، والنأي عن المشاركة في تحليل القضايا الاجتماعية ، والابتعاد عن الانغماس في تأويل المسائل الإيديولوجية ، وتحاشي الانغمار في تفعيل الشؤون الاقتصادية ، وتاليا”بدء الأفول في وعيه ، وحدوث الانقطاع في علاقاته ، وحصول الشرخ في شخصيته . ولذلك فان (( المثقف – كما سيوضح المفكر الجزائري عبد الله العروي – الذي ليس على صلة بمجمل مجتمعه ، يرى الديالكتيك الاجتماعي من الخارج ، أي بصورة تجريدية ، ويستطيع حينئذ اللجوء ، على حدّ سواء ، إلى اللغة الفصحى أو إلى لغة أجنبية ، بما انه على كل حال ، يخاطب ذاته فقط أو أشقائه الفكريين )) . وفي إطار هذه اللوحة الالتباسية ، يمكن مقاربة موقف / وضعية المثقف العراقي ، الذي يبدو إن كل ما وقع له وحوله ومرّ به وعليه ، لم يستنفر بعد مداركه اللصيقة بالآني والعابر والطارئ من المشاغل والاهتمامات ، ويستنهض حميته المولعة بالتحريضي والتعبوي والانفعالي من الخطابات والشعارات ، ويستصرخ إنسانيته المبهورة بالطوباوي والأسطوري والخرافي من التصورات والاعتقادات . قد يعمد في صحوات الوعي واستفاقات الضمير ، التي تستدعيها وطأة الهموم وتستحثها شدة المعاناة ، إن يهجو الأوضاع السياسية ويلعن السياسيين ، وأن يفضح الفساد ويشخص المفسدين ، وان يقارع التخلف ويعري المتخلفين ، وأن يناهض التعصب ويتصدى للمتعصبين ، وان يجرّم العنف ويكفّر المتطرفين . ولكنه وفي خضم كل ذلك غالبا”من ينسى – والأحرى انه يتناسى – نفسه ، مسدلا”الستار على عيوبه وانحرافاته ، ومخفيا”نوازعه وعصبياته ، وكاتما”أطماعه ونزواته ، حتى ليبدو وكأنه الأوحد في زمانه والأندر في وجوده والأهم في واقعه والأجزل في عطائه والأثرى في إبداعه . وعليه (( قد يمتشق قليل منهم سلاح النقد – كما يجادل المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز – غير أنه مذ يعمل معول ذلك النقد في كل المؤسسات والسلط ، فيأتي على بناها وتماسكها بالتحطيم ، يكاد لا يلتفت إلى سلطته (= المعرفة) ، ولا يلقي بالا”إلى مخزونه من الأفكار والبداهات والمقدسات ، محررا”نفسه – بذلك – من ثقل الشعور باستواء سلطته (المعرفية) مع سائر السلط التي تفترض النقد والتفكيك ، ونائيا”بها (= نفسه) عن حمل عبء النظر بعين الفحص والمراجعة لموضوع هو – هو – ذاته )) . وإذا كان هذا التوصيف السلبي ينطبق على الغالبية العظمى من مثقفينا ، سواء الذين أحسوا بالإعياء بسبب انثيال الأحداث وتناسل الوقائع ، أو أصيبوا بالجزع جراء تفاقم الأزمات واستفحال المشاكل ، أو أدركوا حدود معارفهم إزاء تعقد الأوضاع وتشابك الظواهر . فان هناك رهطا”من هؤلاء الممسوسين بجذوة الفكر والمهوسين بوهج المعرفة ، ممن لا يزالون يكابدون جفاء المجتمع ويصارعون عناد الواقع ، حتى لكأنهم أصبحوا أقرب إلى شخصية المحارب (دون كيشوت) منه إلى حقيقة المثقف الذي وصفه الشاعر الراحل (نزار قباني) ، من خلال الخاصية المهنية التي يزاولها بالقول (( الكتابة هي الجلوس على حافة الهاوية ، لا على فراش حرير ، ولا على سجادة تبريزية ، ولا على كرسي هزاز .. إنها الإبحار في فضاء من الأسئلة دون أن يكون معك تذكرة للعودة )) . وعلى الرغم من أن هذه الثلة المنتقاة من المثقفين ، تتميز عن (أقرانها) معرفيا”من حيث (العمق التحليلي) ، ومنهجيا”من حيث (الرأس التاريخي) ، إلاّ أنها قلما تجرأة
على خوض غمار تجربة (النقد التأويلي) لمخزونها الفكري وحصيلتها الثقافية ، كنمط عقلاني من أنماط تقييم الأنا واستبطان الذات ، عبر فحص مصادرها السوسيولوجية ، ومراجعة أصولها الانثروبولوجية ، وتدقيق مرجعياتها الرمزية . ليس من باب الزهد فيها والتخلي عنها والتبرؤ منها ، وإنما من منطلق التجاوز للبداهات التقليدية المتطفلة عليها ، والتخلص من الاعتقادات الوهمية العالقة فيها ، والإقلاع عن التصورات البدائية المتراكمة حولها ، بحيث يكون من السهل عليها تشخيص العلل الاجتماعية لمعالجتها ، وتعيين الخلل النفسي لإصلاحه ، وتحديد الزلل الأخلاقي لتقويمه . ولعل إشارة الفيلسوف الفرنسي (بول ريكور) تأتي في محلها حين كتب يقول (( من أجل أن نزيح الستار عن حقيقتنا الاجتماعية ، يجب علينا أولا”أن نضع في اعتبارنا تعرية أوهام إيديولوجيتنا )) . وتساوقا”مع هذا المنطلق الواقعي ، فان على من يروم أن توضع فوق رأسه هالة المثقف الحقيقي ، وان يطوق عنقه بأكاليل غار الفاعل الاجتماعي المبدع ، ليس فقط أن يعي دوره كقائد لمكونات المجتمع ، ويدرك وظيفته كمنظر لإشكاليات الواقع فحسب ، بل والأهم من ذلك أن يباشر النقد للذهنيات البالية ، ويتعاطى التفكيك للعلاقات المتكلسة ، مبتدءا”بيقينياته الذاتية وتواضعاته الشخصية أولا”ودائما”، وان يظل كما أراد له أن يكون المفكر اللبناني (خليل أحمد خليل) ذلك المثقف ((المكلف نفسه ما لا يحتمله الجمهور العادي من قلق وتأزم وشك في المستقبل )) . بمعنى أن يبقى في حالة توتر ذهني وترحال فكري وتعميق معرفي وتطلع ثقافي ، خشية الوقوع في مهاوي الانكفاء والانزواء والانغلاق والتحجر . ولعل هناك من أخذ ببهرج بعض الطروحات الأدبية / اللغوية ، التي تروج لنهاية الكتاب تارة ، وموت المؤلف تارة ثانية ، واستقلالية النص تارة ثالثة ، تحت وطأة الإيحاء بلا جدوى الوظيفة الاجتماعية للمثقف الحداثي ، على خلفية الاعتقاد بأن أي مظهر من مظاهر الانخراط في المشاكل الاجتماعية ، والانهمام في الأزمات الإنسانية ، قمين بحرمان المثقف من خصائص ؛ التفرد الفكري والتميز المعرفي والتألق الإبداعي ، وهو الأمر الذي فنّده باقتضاب شديد ولكن برصانة قلّ نظيرها ، الفيلسوف الألماني (هانز جورج غادامير) حين كتب يقول (( أن تتجاوز يعني أن تتبنى وتستخدم )) . وهكذا يكون حريا”بالمثقفين العراقيين الحقيقيين – وليس الأدعياء والمزيفين – الذين شرعت ظروف الواقع الاجتماعي المتهرئ ، أن تفت في عضدهم وتنال من عزيمتهم وتزعزع ثقتهم بأنفسهم ، أن يستفيقوا من سباتهم المعرفي وان يستأنفوا دورهم الثقافي ، وأن يباشروا وظيفتهم النقدية ؛ ليس لمجرد الإشارة بأصابع الاتهام لهذه الجهة أو تلك ، أو إظهار مشاعر الانزعاج من هذا الموقف أو ذاك ، من باب (إسقاط الفرض) الأدبي والأخلاقي ، المترتب على ثوابت ولائهم الوطني وضرورات انتمائهم الاجتماعي . وإنما بالحفر في ترسبات وعيهم الأسطوري ، والنبش في مطمورات مخيالهم الجمعي ، والتنقيب في مخلفات ذاكرتهم التاريخية ، والبحث في تراكمات رموزهم الدينية ، كخيار وحيد لانتشالهم من عزلتهم الثقافية ، ورهان لا بديل عنه لاستحقاقهم قيمتهم المعرفية . ذلك لأن (( المثقف المعزول فكريا”واجتماعيا”وتاريخيا”– كما يؤكد بحق الانثروبولوجي الفرنسي (جيرار ليكلرك) – هو من يرى عمله وقد عاش بعده لكن بوصفه خرابا”باقيا”، أو كما لو كان بناء معزولا”)) . لذا فكن مثقفا”أصيلا”، عبر ممارسات نقد الوعي الذاتي وتفكيك مسبقات الأنا الجماعي ، فان لم تستطع – وهو المتوقع للأسف – فحاول ، إذن ، أن تستبطن منظوماتها القيمية والمعيارية والرمزية ، بقصد تقييم مضامينها والوقوف على صلاحياتها ، وذلك أضعف الإيمان !! .