يَتفاعل العراقيّون، وبوضوح، مع الانتفاضات والثورات الشعبيّة التغييريّة التي تَحدث في العالم، حتّى لو كانت في بلدان لا يَعرفون عنها الكثير ومن بينها سريلانكا.
وتَشهد سريلانكا، حالياً، أحداثا مُثيرة تُؤكّد النقمة الشعبيّة على النظام الحاكم. ورغم استخدام الشرطة للغاز المُسيّل للدموع إلا أنّ المُتظاهرين سيطروا على القصر الرئاسيّ، وأجبروا الرئيس غوتابايا راجاباكسا، الثلاثاء الماضي، على ترك البلاد وتسليمها لرئيس الحكومة لحين تشكيل حكومة جديدة!
وبعيدا عن الأسباب الجوهريّة لغضب السريلانكيّين ومنها اتّهامهم لرئيسهم بإفلاس البلاد، والنقص الحادّ بالكهرباء والغذاء والوقود وغيرها من المعضلات، يَهمّنا هنا كيفيّة استثمار التجربة السريلانكيّة وإسقاطها على العراق!
ذَكّرتنا الثورة السريلانكيّة بالمحاولات المُتعدّدة لاقتحام المنطقة الخضراء المحصّنة ببغداد، ومنها المحاولة الأخيرة بداية تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 عندما حاول المئات من أنصار الفصائل السياسيّة المُعْتَرضة على نتائج الانتخابات البرلمانيّة، اقتحام “الخضراء”، وباءت مُحاولتهم بالفشل.
ولكنّ المحاولة الأبرز والأخطر، وقعت في 30 نيسان/ أبريل 2016 حينما اقتحم أنصار مقتدى الصدر “الخضراء”، وقد حَذّر رئيس البرلمان سليم الجبوري، حينها، من انهيار الدولة، بعد أن حَطّم المتظاهرون سيّارات النوّاب، واعتدوا على بعضهم، وهرب غالبيّتهم.
ومع هذا الغليان الشعبيّ الحالم بثورة مُعدّلة للأوضاع المُروّعة، تُحاول كافّة القوى الحاكمة أن ترمي اللوم على شركائهم وكأنّهم ليسوا جزءا من الكارثة الحاليّة، وربّما لتبرير الأخطاء الكارثيّة التي ارتكبوها.
وبقراءة الثورة السريلانكيّة يُمكن الوصول لقناعة تامّة بأنّ التغيير لا يقع ما لم يَتبنّ الشعب فكرة (الثورة) والتبديل التامّ للحالة الشاذّة القائمة.
وتَبنّي الفكرة هو الإيمان بها ثمّ تَرجمتها ترجمة واقعيّة عبر التفاهم أو التنسيق الشعبيّ الفكريّ المُنسجم والمُحترم والذي يَبرز عبر التطبيق مع الاستعداد للتضحية في سبيل الفكرة والغد المأمول.
وكذلك ضرورة الإيمان بنظريّة التغيير، والابتعاد عن الفكر الأنانيّ الهزيل، وهذا الكلام يَنطبق على غالبيّة عناصر القطاع العامّ الذين لم يقفوا مع ثورة تشرين، وكانوا يَنظرون للمظاهرات من زاوية خاصّة ضيّقة، بعيدا عن النظرة الواسعة التي تُقدّم مصلحة الوطن والناس على المصالح الشخصيّة المحدودة!
ولهذا يَنبغي العمل لتشجيع (العصبيّة الوطنيّة الجامعة) لكلّ المواطنين، والسعي لتصحيح المفاهيم (الوطنيّة المَغْلُوطة) وهنا يأتي دور النخب الفكريّة والثقافيّة والإعلام وحتّى القضاء.
وبتفحّص واقع العراق نَجد مئات الأسباب المنطقيّة والإنسانيّة والقانونيّة والأخلاقيّة الدافعة نحو التغيير، ومنها القتل الرسميّ، والإفلات من العقاب، والسلاح المُنفلت، وجرائم الاختطاف، والاعتقالات العشوائيّة، والإعدامات الانتقاميّة، والتهجير القسريّ، وقمع الحُرّيّات، والجريمة المنظّمة، والمخدّرات، والفساد الإداريّ والسرقات الملياريّة وغيرها من عوامل ومخطّطات أكل الدولة وتدميرها!
وضمن تلك العوامل المشجّعة على الثورة استمرار التناحر والانغلاق السياسيّ، فبعد انسحاب الصدر من البرلمان أعلن هادي العامري زعيم منظّمة بدر، الاثنين الماضي، أنّه” لن يشترك في أيّ حكومة مستقبليّة”، وقبله انسحب رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، ورئيس تيّار الحكمة عمار الحكيم وغيرهم، وهذا يؤكّد حدوث شرخ كبير داخل الإطار التنسيقيّ بزعامة نوري المالكي، واحتماليّة ذهاب الأمور لنهايات حادّة، وجارحة!
وآخر الكوارث المرعبة إعلان منظّمة الغذاء والزراعة “فاو” الدوليّة، الأحد الماضي، أنّ العراق ضمن (46) دولة بالعالم تحتاج لمساعدة غذائيّة خارجيّة!
فأين ذهبت واردات النفط الانفجاريّة؟
ومِن هذا الواقع المُخيف والمُتردّي ينبغي تحديد الهدف:
ما الذي يُريده العراقيّون، وهل الشعب يُريد التغيير أم الإصلاح؟
وبعد تحديد الهدف تبدأ مرحلة الانطلاق للجانب (العمليّ السلميّ)، وهذا يقع على عاتق كلّ مواطن بوصفه جزءا من المجتمع!
ولتحقيق هدف التغيير يُفترض التوافق على حرمة الدم العراقيّ ورفض الظلم، والعصبيّة السلبيّة، والاعتقالات التعسّفيّة ومطاردة الأبرياء، ووجوب الحفاظ على كرامة الناس، وأموالهم، وحقوقهم، وممتلكاتهم، وتوفير رغيف الخبز الكريم، والتأمين الصحّيّ الشامل للجميع، وبالتوازي يُقدّم كافّة القتلة والمجرمين لمحاكم عادلة، وما عدا ذلك فيمكن التفاهم عليه لأنّه من القضايا الثانويّة وغير الجوهريّة في حياة الشعوب ومستقبل الدول.
ولا يمكن ترتيب هذه (الخطّة الوطنيّة) إلا بالاعتماد على التنوع الدينيّ والمذهبيّ، والقوميّ والفكريّ باعتبارها من عوامل القوّة، وبكتابة دستور جديد ومعتبر، تُنفّذه حكومة نقيّة تدور في فلك الوطن، ولا تُسيَّر من الخارج، وتَضرب القوى الشرّيرة بيد من حديد!
وبموجب الحقائق السابقة من الممكن أن تُقْتَحم ” الخضراء” في أيّ لحظة، وبالذات مع ترقب التداعيات البركانيّة لصلاة الجمعة الصدريّة اليوم، 15 تمّوز/ يوليو الحاليّ، والتي تركت الأبواب مُشرّعة بعدها على جميع الاحتمالات، وبالذات بِتزامنها مع التسريبات الصوتيّة المنسوبة للمالكي والتي تَهكّم فيها على آل الصدر وأتباعهم!
لقد أكّدت المرحلة السابقة أنّ الخصومات والمشادّات الجدليّة بين الفرقاء السياسيّين في الإعلام ومواقع التواصل لن تُوصل البلاد لمرحلة الاستقرار السياسيّ والمجتمعيّ!
وأثبتت التجارب أنّ الشعوب التي لا تُطالب بحقوقها لا يُمكن أن تَجد مَنْ يُعطيها حقوقها من السُرّاق والناهبين لأنّهم أصلا لا يُؤمنون إلا باغتنام الفرص، وأكل الأخضر واليابس!
لا تلوموا السارقين، ولكن اللوم كلّ اللوم على الشعوب الصامتة والمُغلِّسة عن تمزيق البلاد وسحق حاضرها ومستقبلها!
dr_jasemj67@