18 ديسمبر، 2024 10:08 م

سلمى هذه قارئة، ويبدو أنها متابعة لجلّ ما أكتب، أو على الأقل ما ينشر لي في موقع جريدة رأي اليوم الإلكترونية، وهي كذلك ذات لغة جيدة في التعليق والتعقيب على المقالات والنصوص المنشورة. أقرأ لها تعليقا على مقالة كتبتْها الصديقة الكاتبة صفاء أبو خضرة تناولت فيه كتابي “استعادة غسان كنفاني”، ونُشرت المقالة في الموقع بتاريخ: 11/7/2022، ثم عادت لتعلق على مقالة الرفيق عمر كتمتو حول الكتاب نفسه، وقد نُشرت المقالة أيضا في الموقع ذاته بتاريخ: 12/7/2022 لتؤكد الملحوظة الخاصة بعنوان الكتاب، لترفضه هذه المرة رفضا باتا ونهائيا.

هل كان تعليقها مزعجاً في المرّتين؟ لا أظن أنه يصل إلى درجة الإزعاج، لكنه مستفزّ بمعنى ما، أي يدفع الكاتب للكتابة، لأن الصورة التي في ذهن “سلمى” عني صورة مشوّهة كثيراً للأسف، وأنا هنا لا أصحح الصورة، ولا أحاول أن أزيل عنها الغباش، وما تراكم عليها من غبار، إنما لأوضح أكثر ما كنتُ كتبته يوما تحت عنوان “كيف يصنع القراء الصورة؟”، إن أي صورة لأي كاتب في ذهن أي قارئ هي صورة ناقصة بالتأكيد لاعتبارات كثيرة؛ أهمها عدم القدرة على الإحاطة والشمول بكل عوالم الكاتب الكتابية والنفسية، فالقراء، ومنهم سلمى، يحكمون على ما تخايل لهم من صورة في تلك الكتابات.

في تعليقها الأول؛ أظن أن الصورة بعيدة درجتين حسب هذا المقال؛ الدرجة الأولى أن الكاتبة صفاء أبو خضرة استنتجت صورة ظنية لي من خلال كتابي، وهذا حق كل كاتب أو ناقد؛ فكل كتاب يحمل صورة لكاتبه، يطلق عليها في النقد “الكاتب الضمني” أو “المؤلف الثاني”؛ وهي الصورة التي قد تصل للقراء من هذا الكتاب، وهذه الصورة هي صورة متوهمة ومتخيلة، لكنّ لها شروطاً موضوعية لرسمها قد تساعد فيها الأفكار، وطريقة تناولها، وحدة مناقشتها، وطبيعة اللغة المستخدمة، والتوتر العاطفي، وما إلى ذلك من شروط، وقد لا تكون هي صورة الكاتب الحقيقية، وقد تلتقي مع بعض صفاته، وأحياناً قد تتطابق تطابقا تاما، مع ندرة هذا الاحتمال.

أما الدرجة الثانية في ابتعاد صورتي في “عيون سلمى وفكرها” أنها رسمت لي صورة أخرى أكثر توهما وبعدا من خلال نسجها من الصورة المتخيلة التي تكونت في “عيون صفاء أبو خضرة ومقالتها”، فكأنها رسمت صورة متخيلة عن صورة متخيلة أخرى؛ صورة بعد صورة، أو محاكاة المحاكاة، فابتعدت مرتين، فإذا كان الكاتب أو الناقد وهو يحلل كتاب كاتب آخر يرسم صورة هي غير متطابقة قطعا، وبعيدة، فمن يرسم صورة أخرى لهذا الكاتب من خلال المكتوب عنه سيبتعد خطوتين، وتصبح الصورة مشوّهة وغير حقيقية.

ما هي الصورة التي رسمتها لي سلمى في تعليقها على المقال؟

أستطيع تتبع تلك الصورة في أنني “كاتب غير دقيق”، فخطأتني في عنوان الكتاب، فغسان “حي في نبض كل الأحرار الشرفاء ولا يحتاج إلى استعادة”، هذا يمسّ صنعة الكتابة وعصب الكتاب وفكرته الأساسية، مع أنها- وهذا جزء من التشويه المضاعف- لم تقرأ الكتاب، تعود في التعليق مرة ثانية لتكتب بشكل قاطع اعتراضها على العنوان بهذه الصورة: “عنوان كتاب الشاعر فراس حج محمد ليس موفقا… أنا قد اعترضت عليه لأن العنوان يوحي بأن الشاعر فراس قامة أدبية عملاقة أكثر من غسان كنفاني نفسه، وهذا بالطبع يجافي الحقيقة تماما!!!! وأرفضه بشكل مطلق!!!!! وحيث إننا بشر فلنا الظاهر ولا نستطيع معرفة نوايا مؤلف الكتاب!!! ومن فحوي مقالك هذا أستطيع الاستنتاج بأنك في البداية اعترضت على عنوان الكتاب مثلي تماما… ولكن بعد اتصالك بالشاعر فراس وافقت على عنوان الكتاب”.

وحيث أن اتصالك كان على هيئة سؤال فرض رؤيتك على المؤلف الذي أجاب بنعم لرؤيتك وتوجهك الوارد في صيغة السؤال ولم يترك للشاعر فراس أية خيارات اخرى سوى تبني رؤيتك المفروضة عليه… مما يدعوني للتشكيك بصدق مقصد الشاعر فراس… وبالتالي ما زلت معترضا على عنوان الكتاب…. ولو صدقت النوايا بإمكانه تصحيح وتغيير عنوان الكتاب.”.

إن في هذا التعليق كما هائلا من الاستهجان، يدل على ذلك علامات التعجب التي تستخدمها “سلمي” في تعليقها، وأظنّ أنها لو قرأت الكتاب ربما لغيرت وجهة نظرها، وأنا أهيب بها- إن قرأت هذا الرسالة- أن تراسلني على البريد الإلكتروني لأرسل لها الكتاب إلكترونيا، فهو متاح (بريدي الإلكتروني) إن بحثت عنه، وستجده إن كانت معنية بتصحيح هذا الخطأ الذي وقعتْ فيه، أو تعزز خطأي أيضا الذي وقعتُ فيه، كما قال القرآن الكريم: “فإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين”، أو على الأقل لتشرح لي كيف يوحي العنوان بأنني قامة أكبر من غسان. هذه النقطة تحديدا لم أفهمها. في هذا التعليق أبدو أيضا مغرورا ونرجسيا كثيرا، ربما ومتطاولا على العظماء كذلك.

الملمح الثاني لهذه الصورة المستقاة من التعليق الأول هي أنني “حسود”؛ أحسد غسان كنفاني على محبوبته غادة السمان، وأتمنى أن يكون لي حبيبة كغادة. هذا أيضا- كما جاء في الكتاب- له سياق كامل متكامل وضعت فيه هذه الأمنية. إنّ موضوع الحسد والغيرة موضوع مبرر لو كنت أنا وغسان من جيل واحد أو متنافسين على أمر واحد أو أنّ كلينا يحب امرأة واحدة، متعلقيْن بها، أما أن أكون ولدت بعد استشهاد غسان بثلاثة عشر شهرا تقريبا، فكيف سأحسده؟ هذا من باب المقاربات غير اللازمة، ولا تدخل في حساباتي ككاتب. هذه الصفة صفة نفسية قاسية ومقيتة، ولن تصدقني “سلمى” لو دافعت عن نفسي في ذلك، ولو عرفت علاقتي بالزملاء الكتاب والكاتبات لم تقل ذلك، ولم تُلبسني هذه الصورة المشوّهة، ولو قرأتْ ما كتبته تحت باب “غسان كنفاني وأنا” لربما أيضا رأتني بصورة أكثر إيجابية.

كتابتي عن غسان كنفاني كونه مثقفا وعظيما وكاتبا مُهمّاً، أحبّ وأرغب أن أحقق ما حققه من تأكيد صدق مواقفي تجاه الأشياء؛ مثله تماماً، كونه كاتبا قدوة. هذه هي رغبتي الحقيقية في الكتابة عن غسان في هذا الكتاب، وفي هذا الفصل تحديدا، وموضوع الأمنية هي أمنية كل كاتب أن تحبّه كاتبة على درجة كبيرة من الوعي والثقافة والحب والجمال كغادة السمان، وهذا أيضا ليس موضوع حسد إنما موضوع رغبة، فتجارب الكتاب يُقاس بعضها ببعض، ويتقارب الناس أو يكادون، ولا يحمل ذلك أي معنى سلبي، بل ربما أشار إلى أن غسان كنفاني كان ذا حظ عظيم حتى في الحب، كما في الكتابة، ومن بعدُ في حيازته شرف الخلود والشهادة، إذ أحبته كاتبة لها هذه المواصفات، وهذه من منح الحياة التي لا توهب لأي أحد، أذكّر فيها من باب ذكر النعم والمواهب والعطايا الإلهية، فكيف يكون حسدا؟ لعل أقرب ما يدافع عني ما قاله يوما الشافعي عن الصالحين: “أُحِبُّ الصالِحينَ وَلَستُ مِنهُم، لَعَلّي أَن أَنالَ بِهِم شَفاعَةْ”.

فأنا أحب الكتاب الناجحين، ولست منهم، لعلي أن أنال بهم شفاعة، فإن لم نكتب عن هؤلاء وهم أصل الأدب، والتعلم منهم واجب، فهم أساتذتنا بمعنى من المعنى، فهل سنكتب عن الكتاب الرديئين السطحيين؟ وهل ستحمينا “سلمى” من قراء آخرين يسلقوننا بألسنتهم الحِداد ليقولوا عنا إننا مجاملون، ونشوه الحقيقة، وننسى الكتاب الكبار. سنجد من هم على شاكلة سلمى، وربما هي أيضا، ما تتهمنا به كذلك. فمن رام عيبا وجده.

تؤكد سلمى صفة الحقد فيّ، هذا الحقد المتفرّع عن الحسد بالضرورة، وتدعي أنني أحسد محمود درويش، فتقول: “المتتبع لكتابات ومقالات الشاعر فراس حج محمد يلاحظ- وبشكل فج- أنه يكنّ نوعاً من الحسد أيضا للشاعر الكبير الراحل محمود درويش”. لا أدري كيف أتت بذلك؟ هل قرأت كتابي “في ذكرى محمود درويش”؟ وهل في هذا الكتاب أي ملمح للغيرة والحسد؟ وما ينطبق على غسان كنفاني في كتابتي عنه ينطبق على محمود درويش وكتابته، فأنا أحب درويش شاعرا، وناثرا، ولم أترك له كتابا أو حوارا أستطيع الوصول إليه إلا وقرأته، وأقرأه بلذة متناهية، وأكتب عنه بحب، ومقالاتي في ذلك كثيرة، وموقفي من درويش شاعراً يختلف عن موقفي منه سياسيا أو صاحب فكر، مال أحيانا إلى الإسرائيليين وصادق كتّابهم، وأراه “شاعرا مدجنا وانتهازيا وباحثا عن مجد شخصي” كما يُفهم إلى حد التصريح من حواراته، وكان ينادي بالدولة الواحدة، ويدعو إلى الصلح العام مع الإسرائيليين كما في قصيدته “سيناريو جاهز”، هذا الانتقاد ليس حسدا، إنما هو انتقاد لموقف سياسي، كما أنتقد السلطة الفلسطينية عامة، أو وزير الثقافة الفلسطينية، أو اتحاد الكتاب الفلسطينيين أو الأمين العام للاتحاد، أو الرئيس محمود عباس نفسه أو أي كاتب آخر، فهل كل هؤلاء أحسدهم؟ يا لطيف، ما هذه النفسية التي أحملها؟ ما أشد سوادها يا سلمى!

الصفة الثالثة التي منحتني إياها سلمى، هي أنني أكتب عن هؤلاء العمالقة طمعا في الشهرة. تقول سلمى: “وبالرغم من كل ذلك، فإنه يتناول بالنقد وغيره سيرة هؤلاء الشعراء وكتاباتهم. وأتمنى أن لا يكون ذلك من باب التمسّح بسيرة هؤلاء العمالقة من أجل الشهرة”. عندما نشرت بعض المقالات والنصوص الشعرية والنثرية ذات الأفكار “الأيروتيكية” اتهمني بعض القراء بأنني أكتب في هذه الموضوعات من أجل الشهرة. وها أنا عندما أكتب عن كنفاني وعن درويش أتهم بأنني أسعى إلى الشهرة أيضاً. بهذه التهمة صفعتني زميلة عندما حدثتها أنني كتبت مقالة ونشرتها عن تميم البرغوثي. ضحكت بمكر، ورمت تهمتها التي جرحتني بكل تأكيد.

بماذا ستصف “سلمى” من يكتب عن القرآن الكريم وعن شخصية محمد صلى الله عليه وسلم، أو من يكتب عن الله عز وجل؟ فهل ستصفه بأنه يكتب ليكون نبياً أو إلهاً؟ لله درك يا سلمى ما أخصب خيالك هذا الفذ! وهذا ليس سخرية ألبتة، إنما امتداح لهذا الأفق المحمول على الدهشة الذي فتحته لي سلمى بهذا التحليل، أرأيت يا سلمى كيف يكون تلاقح الأفكار ذا إيجابية مطلقة؟

في واقع الأمر، هذا مقتل كبير يصيب الكتّاب، ولن يدافع عنك مثلُ كتاباتك، ولأن “سلمى”- رعاها الله- لم تطلع على كتاباتي جميعا ولم تُحِطْ بها علماً، توصلت إلى هذه النتيجة المستفزة. في الحقيقة كتبت عن كتّاب ما زالوا في أول الطريق، وهم كثر أكثر بكثير مما كتبت عن الكتاب العمالقة، بل ونشرت كتبا عنهم، وخاصة الكاتبات. هنا ربما حمل “سلمى” هذا “الاعتراف” على أن ترسم لي صورة مشوهة أخرى بأنني “نسونجي” أتمسّح من النساء وأتقرب لهن بالكتابة عنهنّ. أعتقد أنها مؤهلة لتقول هذا عني، سامحها الله. فكل شيء يصدق على الكتّاب هذه الأيام.

على أية حال، تأكدي يا “سلمى” أن صدري واسع ومتسع لملاحظاتك، ولم أضق بها ذرعاً، كما قد يجعلك هذا المقال ترسمين صورة أخرى عني لتضيفي لي من الأوصاف ما ليس فيّ، إنما من عادة الكتابة أن تجلب الكتابة وتجلّيها، وتتوالد الأفكار وتنمو على أذيال بعضها البعض، فشكرا جزيلا لك، على ما تفضلت به، وهذه دعوة لأن تقرئي كل كتبي فسأمنحها لك هدية، تأكيدا أنني لست منك غاضبا أو منزعجاً.

ودمت بود، ولتستمري في متابعتنا- نحن الكتاب- حتى وأنت ترسمين لنا مثل هذه الصور المشوّهة، “فمن نشر عرّض نفسه للنقد”، علينا أن نكتب فقط ما نحن مقتنعون به، رغما عما يتشكل من صور ضمنية لنا، وعلينا أن نقرّ ونعترف أيضاً بأن الكتابة- مهما كانت شارحة- فهي ناقصة، ولذلك نحن الكتّاب نتحمل أحيانا ما يصل القراء من صور مشوّهة عنا من خلال كتبنا ومقالاتنا ونصوصنا، فهذه هي المعادلة فلنكن أكثر تسامحاً وديمقراطيّة.

وإلى اللقاء يا “سلمى” في المتون وليس في الهوامش.