وكالات – كتابات :
يُجبَر السكان الأصليون على مغادرة ما يُسمى: بـ”المناطق المحمية”.
كتبت “أبي إل سين”، الأستاذة المساعدة في إدارة الحدائق والمحميات في جامعة “كليمسون”، مقالًا نشرته مجلة (فورين بوليسي) الأميركية، حول الضغوط الغربية لزيادة رقعة المحميات في نصف الكرة الجنوبي وما يُنتج عنه من معاناة للسكان الأصليين، مُسلِّطةً الضوء على تواطؤ منظمات الحفظ الدولية في التآمر مع الحكومات المحلية ضد السكان الأصليين.
وتستهل الباحثة مقالها بالقول: يتجلى التدهور المتسارع للبيئة الطبيعية في خسارة مدمرة للتنوع البيولوجي وأحداث مناخية قاسية تُشكل تهديدات وجودية لعالمنا. وفي جهدٍ متضافر لمعالجة المسألتين، يدعو علماء المناخ ودعاة الحفاظ على البيئة إلى مضاعفة مساحة المناطق المحمية من خلال تخصيص: 30% على الأقل من الغطاء الأرضي للحفظ؛ بحلول عام 2030.
واقترحت منظمات الحفظ الغربية غير الربحية، وبدعم من “برنامج الأمم المتحدة للبيئة”، الخطة المعروفة باسم: “الإطار العالمي للتنوع البيولوجي لما بعد 2020”. غير أن الناشطين من السكان الأصليين وحقوق الإنسان يُشيرون إلى أن الخطة ستُزيد من نزع ملكية أراضي السكان الأصليين من أجل تحويلها إلى سلعة تحت غطاء الحفظ. إنهم يُقارنون ما يُسمى: بـ (خطة 30 × 30) بالتنافس الثاني على “إفريقيا” و”انتزاع أرض شاسعة بحجم أراضي الحقبة الاستعمارية الأوروبية”؛ من شأنها أن: “تجلب كثيرًا من المعاناة والموت”.
والمناطق المحمية؛ هي جميع المتنزهات الوطنية ومحميات الصيد ومحميات الغابات التي تطرد الدول منها سكانها الأصليين لتوفير حماية خاصة من التدخُّل البشري. إن المناطق المحمية تغُطي بالفعل: 15.73% من سطح الأرض في العالم – وثُلثا ذلك يقع داخل دول الجنوب. وداخل “إفريقيا”، خصصت دول مثل: “جمهورية الكونغو، وناميبيا، وتنزانيا، وزامبيا، وغينيا”، ما يتراوح بين: 36 إلى 42% من أراضيها الوطنية حصريًّا للحفاظ على الحياة البرية والتنوع البيولوجي، مقارنةً بما يقرب من: 13% في “الولايات المتحدة”.
السياسات النيوليبرالية..
وحدث النمو الكبير للمناطق المحمية في “إفريقيا”؛ بين عامي: 1985 و1995، والذي تزامن مع موجة السياسات الاقتصادية النيوليبرالية العالمية في القارة. وخلال تلك الفترة فرضت المؤسسات القوية، لا سيما “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي”، خطط التعديل الهيكلي التي تهدف إلى تقليل سلطة الحكومة، وتدخلها، ومنح الصناعة مزيدًا من الحرية، وتقليل الروتين المحيط باستخدام الموارد الطبيعية. وعلى هذا النحو أصبحت المناطق المحمية وسيلة لتحقيق التنمية الاقتصادية من خلال الحفاظ على الحياة البرية والسياحة التي أسهمت إسهامًا كبيرًا في الاقتصاد الوطني.
لكن المناطق المحمية تُكلِّف المجتمعات المحلية ثمنًا باهظًا ثقافيًّا واقتصاديًّا، بدءًا من إنقطاع الصلة الروحية بأراضي الأجداد ومرورًا بإنعدام الأمن الغذائي عندما تُحظَر زراعة الكفاف واستخدام الموارد التقليدية ووصولًا إلى الحرمان من المياه للري أو للحصول على الطاقة الكهرومائية. وفي “إفريقيا” وصل الحفاظ على “الحصون”، وهو مصطلح صاغه علماء الاجتماع في مجال الحفظ لوصف نزع الملكية وعسكرة المشاعات لحماية التنوع البيولوجي المفترض، إلى ذروته.
وتوفر المتنزهات الوطنية والمحميات في جنوب الكرة الأرضية؛ للطبقات الوسطى والنخبة، مكانًا للاستجمام في برية خالية من سكانها الأصليين. ويستمتع السائحون بمشاهدة الحياة البرية والمناظر الطبيعية الأكثر شهرة في العالم. أما فيما يُخص أولئك الذين يرغبون في الإنغماس في بعض الثقافة المحلية، فيمكنهم شراء حزمة سفاري تتضمن عروضًا ثقافية أو قطعًا أثرية من السكان الأصليين الذين طردوا بعنف من أراضيهم، وأُجبِروا الآن على تحويل ثقافتهم إلى سلعة تستجدي نظرة من الاستعماريين الغربيين.
لكن التأثير المدمر للمناطق المحمية على المجتمعات المحلية موثَّق جيدًا. وتتراوح تقديرات النازحين بين: 10.8 و173 مليون شخص. ومع انتقال الناس من المتنزهات، تُصبح حياتهم لا تُطاق بسبب التحول العميق في أنشطتهم بسبب النزوح الذي جعلهم يبتعدون. وعادةً ما تكون خطط إعادة التوطين في مجال الحماية خططًا تأديبية من الناحية العسكرية، وتتضمن المراقبة للتأكد من عدم عودة النازحين إلى المتنزه بغية الوصول إلى موارد الرزق الحيوية.
المكاسب البيئية والمعاناة الإنسانية..
وتفرض المناطق المحمية حدودًا وتبني أسوارًا تعرِّض مناطق الجنوب لعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وتغير أنماط استخدام الرعاة للأراضي، وتقلص أراضيهم الرعوية وتزيد من حدة النزاعات بينهم وبين المزارعين. إن المناطق المحمية تُقلص الوصول إلى موارد المياه العذبة لمجتمعات الصيد التقليدية التي تَعُد مصايد الأسماك مصدرها الرئيس للدخل والبروتين، وتفرض تجريم استخدام موارد الكفاف الضرورية للأمن الغذائي للمجتمعات الريفية المعزولة.
ولا يُبلَّغ عن عمليات الاعتقال والقتل للأفارقة المتعلقة بالحفاظ، لكن الإبلاغ عن مقتل نحو: 500 موزمبيقي على يد حُراس الحديقة في “جنوب إفريقيا” بسبب اتهامات بالصيد الجائر، إلى جانب تقارير استقصائية منفصلة، يُعطي إحساسًا بحجم القضية.
إن المكاسب البيئية لا تعوِّض المعاناة الإنسانية. وتُظهر التقارير أن المناطق المحمية، لا سيما تلك المُنتزَعة من السكان الأصليين، تفشل في حماية التنوع البيولوجي. ووجدت دراسة حديثة نُشرت في مجلة (نيتشر) أنه على الرغم من أن المناطق المحمية تمنع فقدان الموائل، فإن هناك نقصًا حادًّا في الأدلة على تأثيرها على الأنواع؛ مما يُثير الشكوك حول فعاليتها في الحفاظ على التنوع البيولوجي.
ويجب أن يُنبِّه الانخفاض المطرد في أعداد الأحياء البرية، على الرغم من التوسُّع في المناطق المحمية، العالمَ إلى الحاجة المُلِحَّة إلى نماذج حفظ بديلة. وفي المقابل هناك إجماع متزايد على أن المناطق التي تُمارِس فيها مجتمعات السكان الأصليين الحقوقَ التقليدية تُعد مناطق أساسية لجهود الحفظ العالمية من خلال إبطاء فقدان التنوع البيولوجي.
وقد أثيرت هذه الانتقادات علنًا، لكن هناك القليل من الرغبة في الاستماع. ولا تزال الخطط جارية لمضاعفة مساحة المناطق المحمية. ولم تَسْعَ أي وكالة من وكالات الحفظ الدولية الرئيسة إلى صياغة نهج متماسك، ومنهجي، وفعَّال، لمعالجة الظلم الشديد الذي عانت منه المجتمعات المحلية قبل (خطة 30 × 30).
ويدعم اللاعبون الرئيسون، مثل: “الأمم المتحدة” و”الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة”، خطة زيادة نزع ملكية مجتمعات السكان الأصليين لتوسيع المناطق المحمية التي فشلت تاريخيًّا في حماية التنوع البيولوجي. كذلك يُتَّهم “الصندوق العالمي للحياة البرية” بالتواطؤ في انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان، بما في ذلك القتل والتعذيب والاغتصاب للسكان الأصليين باعتبارها ممارسات إخلاء قسرية.
وفي آيار/مايو 2019؛ استحوذت (إفريكان باركس)، وهي وكالة حماية غير ربحية، على إدارة “حديقة بندغاري الوطنية”، بموجب عقد مع حكومة “بنين”. والحديقة هي الملاذ الأخير للأفيال والأسود في هذه المنطقة. وتُجسد (إفريكان باركس) التأثير المتزايد للحفاظ على الحصون من قِبل الرأسماليين الغربيين وحلفائهم في الطبقة السياسية الإفريقية.
وتأسست الوكالة؛ في عام 2000، على يد ملياردير هولندي يسعى للاستفادة من التراث الطبيعي لـ”إفريقيا”، وتُدير الوكالة اليوم: 19 متنزهًا وطنيًّا ومنطقة محمية تُغطي أكثر من: 14.8 مليون هكتار في: 11 دولة عبر “غرب إفريقيا”، ووسطها، وجنوبها. وكانت الوكالة في طليعة عسكرة المتنزهات في “إفريقيا”، حيث جنَّدت حراسًا من المجتمعات المحلية ليتلقوا تدريبات شبه عسكرية على يد أفراد عسكريين من “جنوب إفريقيا، وفرنسا، وإسرائيل”.
والحدائق الإفريقية ليست حالة فريدة؛ إذ هناك عديد من المنظمات غير الربحية للمحافظة على البيئة بقيادة الرأسماليين الغربيين الذين يسعون وراء مصالحهم الخاصة ويمولون برامجهم الخاصة للترويج لأفكارهم حول أفضل طريقة لإنقاذ الحياة البرية الإفريقية. وأصدرت منظمة (Nature Conservancy) وشركاؤها؛ “تقرير تمويل الطبيعة”، حيث قدروا أن ما يقرب من تريليون دولار مطلوبة “لتغيير أزمة التنوع البيولوجي بحلول عام 2030”.
ويُهيمن على الحفظ عبر الوطني خمس منظمات غير حكومية دولية من شمال العالم، تساوي أصولها المجمعة الناتج القومي الإجمالي لعديد من البلدان الإفريقية ولديها روابط قوية مع الصناعات الاستخراجية والمؤسسات المالية. وفرق إدارة هذه المنظمات مليئة بالرؤساء التنفيذيين والمليارديرات والمصرفيين الاستثماريين من المؤسسات المالية مثل: (غولدمان ساكس) و(ميريل) و(بلاكستون).
القوة المالية..
ويروي كتاب: (The Big Conservation Lie) كيف أن المنظمات غير الحكومية تمتلك القوة المالية لتحقيق الاستيلاء الفعَّال على الدولة في بعض البلدان النامية، مع عواقب وخيمة في كثير من الأحيان تقع على عاتق السكان الأصليين.
والمُثير للقلق هو ضغط المنظمات غير الحكومية على الحكومة الأميركية لزيادة التمويل للحفظ العسكري من خلال تقديم الصيد غير المشروع للحياة البرية على أنه تهديد للأمن العالمي ودفع دول “جنوب إفريقيا”؛ مثل: “بوتسوانا”، إلى تبني سياسات إطلاق النار للقتل لمكافحة جرائم الحياة البرية. وتُبرِّر هذه المنظمات الأشكال العسكرية لحماية الحياة البرية ووحدات مكافحة الصيد الجائر على نحو متزايد، وتلجأ إلى الشركات العسكرية الخاصة والأفراد العسكريين السابقين لحراسة المناطق المحمية.
وعلى الرغم من هيمنة: “الحفاظ على الحصون”، فقد قوبل بمقاومة من السكان الأصليين قوية بما يكفي لفرض تحول نموذجي في خطابات السياسة الدولية باتجاه الحفظ المستند إلى المجتمع. وكان إعلان (ريو) لعام 1992؛ بشأن البيئة والتنمية بمثابة علامة رسمية لبداية هذا التحول النموذجي من خلال الاعتراف بروح الحفظ ودور السكان الأصليين. وأعقب ذلك موجة من الإصلاحات المؤسسية في المتنزهات الوطنية في “إفريقيا” لتحويل إدارة المنتزهات من الحكومة المركزية إلى المجتمعات المحلية.
وأصبحت “المناطق العازلة”، وهو مفهوم ظهر لأول مرة في “اتفاقية التراث العالمي”؛ لعام 1977، مندمجة في فئات المناطق المحمية التابعة لـ”الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعية”؛ مما يسمح بالاستخدام المحدود والخاضع للرقابة للموارد. وأتاح تنفيذ برامج الحفظ المستند إلى المجتمع للسكان المحليين المشاركة في الحفظ والاستفادة منه.
وفي خضم أزمة بيئية حادة يحتاج العالم إلى أفضل الممارسات الفورية. ونشر معهد “أوكلاند”؛ تقريرًا في عام 2021، يُظهر أن العديد من مخططات حفظ المجتمع في “كينيا” تُدمر الحياة البرية وسُبل العيش الرعوية، حيث تدعم وكالات الدولة شركاءها في الحفظ المستند إلى المجتمع خدمة المصالح الخاصة الخارجية. ووجود إطار قانوني لحماية حقوق السكان الأصليين من الدولة يؤدي دورًا أساسيًّا في تعزيز قدرة الحفظ المستند إلى المجتمع على تحقيق نتائج إيجابية للتنوع البيولوجي والسكان.
وتختتم الباحثة مقالها بالتأكيد على ضرورة ألا يكون لخصخصة المشاعات وعسكرتها لحماية التنوع البيولوجي مكانًا في عالمنا، بل يجب إعادة الأرض إلى أصحابها الأصليين بموجب حق الميلاد، حيث يمكنهم ممارسة الحقوق التقليدية التي ثبت أنها مركزية في الحفظ العالمي. إن الكفاح من أجل حماية الأرض والمياه والحياة البرية من القوى المدمرة متشابك بُعمق مع النضال ضد الاستعمار. وكانت منظمة (Survival International) الحقوقية في طليعة المعركة لنزع السمة الاستعمارية عن الحفظ من خلال العمل مع مجتمعات السكان الأصليين لحماية أراضيهم وسُبل عيشهم.