18 ديسمبر، 2024 4:45 م

تحليق عابر لطيور الذاكرة 8: أصوات حنين وقلق

تحليق عابر لطيور الذاكرة 8: أصوات حنين وقلق

كان يعمل بقربي على مسطح العشب الأخضر الصغير، يدفع آلة جزّ العشب الذي استطال أكثر من اللازم، مسطحات العشب الأخضر يكمن جمالها في ترتيبها، وعندما ينمو العشب لا بد من تهذيبه حتى تستعيد المساحات الخضراء رونقها، ألا نعمل ذلك حين ينمو شعر الرأس. حين نشعر أن الأمر بحاجة للذهاب إلى صالون الحلاقة نتخذ قراراً ثم نبدأ بالتأجيل حتى يصبح الأمر لا يستساغ ولا يحتمل فنهرع دون تأخير، وهكذا هو الأمر مع مسطح العشب الأخضر في الحديقة الخلفية من البيت. أراقب الحركة وأرى العشب المقصوص يتجمع في كتل خضراء داكنة فوق عشب صار مهذباً، الكتل الخضراء سيتم جمعها أو ستترك لتجف وسيطيرها الريح. بعد دقائق وجدتني أنغمس في الأصوات، الصوت الناجم عن عملية الجز، كلما اندفعت الآلة بقوة إلى الأمام تصدر صوت قص العشب، ثم تعود للخلف للهجوم مرة أخرى على مساحة جديدة، صوت الاندفاع خشناً عالياً يتلوه سكوت أو صوت ناعم لسحب الآلة إلى الخلف والتراجع للتحول لمساحة جديدة سيتم جزّها. الرتابة الناتجة عن استمرار تتابع صوت الهجوم على الأعشاب وتراجع ذكرتني بصوت كان رفيق طفولتي، صوت تذكرته مراراً وأتذكره كلما سمعت صوتاً رتيباً يصعد ثم يخفت.
سبق وغرقت في هذه الرتابة وأنا أسمع صوت آلات الطباعة القديمة قبل التطور المتسارع في عالم الطباعة، الحركة الرتيبة في شفط الورقة ورفعها ثم دفعها لتمر تحت “بليتات” الطباعة التي تمر على الحبر تأخذ منه حصتها لتتركها على الورق، وقبل ذلك لتمر الورقة تحت الصفحات المصفوفة حرفاً حرفاً بعد أن أعدها “صفيف” محترف يلتقط الحروف المعدنية من خاناتها ويضعها في إطار يتم شده حتى يصبح قطعة واحدة بمساحة الصفحة المطلوبة ثم بحجم الملزمة المطلوبة. كم استمتعت بالذهاب إلى المطبعة لمتابعة طباعة مجلة أو مطبوعة شاركت في إصدارها أو لمتابعة طباعة كتابي الأول، أستمتع في التواجد في المطبعة لمراجعة البروفا الأولى للعمل المطبوع، وأراقب الصفيف حين ينزع الحرف أو الحروف الخطأ ويستبدلها ثم يعود ليشد الصفحة لتدخل إلى آلة الطباعة الكبيرة، ثم يبدأ الصوت الرتيب جيئة وذهاباً، صعوداً وهبوطاً. صفيف الحروف مهنة انقرضت ككثير من المهن، مع التطور التكنولوجي، وكانت طباعة اللينوتايب أول تطور أزاحها عن ساحة الطباعة، فأصبحت الطباعة حينها من خلال لوحة مفاتيح ينتج عنها سطراً كاملاً من الزنك المصهور، ثم يتم رص الأسطر معاً لتكوين الصفحة، وإذا تطلبت المراجعة تغيير حتى حرف واحد في السطر فينبغي إلقاء السطر المعدني ليذوب وإنتاج سطر مصحح بدلاً عنه. وجاء العالم الرقمي والحواسيب والطباعة الإلكترونية لتلقي بكل تلك التفاصيل إلى عالم الإهمال، إلاّ ما كان محظوظاً منها ونجا ليدخل في عالم المتاحف. الحديث عن الطباعة ذو شجون، وأصعبها طباعة الرسائل الجامعية على الآلة الكاتبة قبل أجهزة الحاسوب، إذ كان يتطلب تصحيح ولو حرف واحد في الصفحة إعادة طباعتها كاملة. لحسن حظي أنني لم أعش تلك التجربة، فالرسالة الجامعية الأولى التي عملتها كانت في زمن الحاسوب، وكانت سبباً في تعلمي الطباعة على لوحة المفاتيح، مع عدم وجود فارة لتحريك “الكرسر”، وتعلمت معها فك أبجديات عالم الحاسوب البسيطة من خلال العمل على أول حاسوب اقتنيته، وكانت سعة ذاكرته 128 كيلو بايت فقط، ويتم تخزين المادة على قرص مرن كبير خارجي.
الصوت الرتيب هذا كان يأتي كذلك من طابعة الحاسوب الإبرية التي امتلكتها في السنوات الأولى لانتشار الطابعات الحاسوبية، وهي تطبع سطراً سطراً، نتيجة ضرب الإبر المتناهية الصغر على شريط أسود لتنطبع الحروف والكلمات على الورق، تتحرك الطباعة على السطر أفقياً مطلقة صوتاً مميزاً، ثم تعود إلى بداية السطر اللاحق لتبدأ من جديد على صفحات من سلسلة ورق مثقب الأطراف يتحرك مع حركة الطباعة. كنت أخشى صوتها وأعمل جهدي ألاّ أطبع ليلاً لأن صوتها يصل الشارع، وقد يجذب دورية من جنود الاحتلال مارة في الشارع، وهم لا يحتاجون طبعاً لمبرر لاقتحام مصدر الصوت وتفحصه.
صوت آلة جزّ العشب وصوت الطباعة يستدعيان عندي صوت فرم الدخان، صوتاً أصبح الآن عنصر نوستالجيا يعيدني كلما سمعته إلى تلك الأيام، أيام فرم الدخان وتهريبه، الصوت الذي كان مصدر خوف وقلق دائمين من أن يجذب الجمارك أو عسسها، الجمارك التي تطارد مهربي الدخان المفروم الجاهز للتسويق، وتطارد من يمتلكون ماكنات فرم الدخان ومن يعملون عليها، سواء من قبل الجمارك الأردنية أيام كانت الضفة الغربية جزءاً من المملكة الأردنية قبل احتلالها الإسرائيلي في العام 1967، أو من قبل جمارك الاحتلال العسكري الإسرائيلي فيما بعد.
تتكون ماكنة الدخان من ثلاثة أجزاء رئيسية: القاعدة والصندوق وسكين، وكان تصميمها وإنتاجها بحاجة إلى عمل نجار وحداد، وقد اجتمعت المهنتان لدى قريب لوالدي من جهة الجدة، وكان مبدعاً في عمله، كما كان يعمل في شحذ السكين باستخدام النار والمبرد، نار من فحم حجري يتقد بفعل كورٍ يدوي، كنت أراقب توهج النار وتحول السكين السميك إلى قطعة حمراء عندما يخرجها ليطرقها ثم يشحذ طرفها الحاد بمبرد خشن أولاً ثم يتبعها بمبرد ناعم. كان الصوت الرتيب في عملها ينجم عن اندفاع كتلة الدخان المضغوط في الصندوق من خلال تدوير عجل مسنن يحرك باليد اليسار ليدفع الدخان المضغوط إلى مقدمة الصندوق فتهوي عليه السكين المرتكزة إلى القاعدة لتقصه خيوطاً كالشعر. ما زلت أذكر باستغراب كيف ورد ذكر هذه الآلة في درس من دروس العلوم كمثال على القوة والمقاومة ونقطة الارتكاز: نقطة الارتكاز في الطرف الثابت والقوة في الطرف الآخر والمقاومة في الوسط، مثال غير عادي على توزيع هذه العناصر الثلاث. الصوت الرتيب من تكرار هذه العملية هو الذي يحضر طازجاً بكل ما يحمله من مشاعر عند سماعي كل صوت شبيه له.
كان العمل في الدخان وتصنيعه وتهريبه مصدر رزقنا، مصدر لقمة عيشنا وكسائنا. تعود ذاكرتي إلى تلك الأيام التي كان فيها الوالد رحمه الله يجهز كمية من الدخان ويفرمها عند بعض الأشخاص الذين يمتلكون ماكنة فتصبح خيوط تبغ ناعمة جاهزة للف السجائر وتدخينها، كان ذلك قبل أن يمتلك ماكنة لفرم الدخان. كان يجهّز حمله من التبغ ليحمله على ظهره أو على دابة ويذهب لتسويقه في بلدات وقرى مختلفة، وكان المزارعون الفقراء في الأغوار ضمن زبائنه، أذكر أحاديثه عنهم وعن زياراته لهم، إذ كثيراً ما عاد بأحاديث وقصص من تلك الرحلات يسمعنا إياها. كان يغيب أياماً طويلة في المرة الواحدة، تصل الأسبوعين أحياناً، أياماً نعيشها مع الوالدة رحمها الله أنا وإخوتي الأصغر منتظرين، على أحر من الجمر، عودته وما يحمله من هدايا بسيطة ودنانير قليلة لتسعف حالنا الذي يكون قد وصل الصفر أثناء غيابه، حالاً كانت الوالدة قادرة بحسن تدبيرها وحنانها على جعله هيناً علينا ودون أن يشعر به أحد، حتى والدها، وتوصينا ألاّ نشكو أمام أي شخص ما نمر به.
ما زالت غارات الجمارك على بيتنا ماثلة في ذاكرتي، سواء للبحث عن التبغ المفروم أو عنه وعن الماكنة فيما بعد. غارات كثيرة فشلت في العثور على المطلوب لأننا نكون قد أخرجناه وخبأناه في مكان آمن، وفي بعضها تتم مصادرة التبغ والماكنة. كان نجاح الجمارك في العثور على الدخان المحضر للفرم أو التبغ الجاهز والماكنة يشكل نكبة حقيقية للخسارة المادية المتمثلة في أثمانها إضافة إلى الغرامة التي تفرض على ذلك. كانت مطاردة الجمارك للمشتغلين في تهريب الدخان تقض مضاجع هذه العائلات، ووصل الأمر بالحكومة الأردنية إلى تخصيص مركز للجمارك في البلدة يتكون من مدير وثلاثة أو أربعة أفراد وسيارة سائقها، مما فاقم حياة المشتغلين في التهريب. خلال السنتين الأخيرتين قبل الاحتلال، وربما أكثر من سنتين، توصل المهربون وطاقم الجمارك إلى اتفاقية تسكت الجمارك وتجعلهم يغضون النظر، حيث فرض على كل صاحب ماكنة وكل مهرب قسط شهري يدفع للعاملين في المركز ويوزعونه فيما بينهم. وحصلت هدنة بين الطرفين. رفض والدي هذا الأمر باعتباره رشوة، ورفض الخضوع له لأن الراشي والمرتشي والرائش بينهما في النار، كما قال معبراً عن قناعته. أصبح الهدف الوحيد تقريباً لنشاط كل طاقم مركز الجمارك، مما جعلنا في حالة دائمة من الترقب والخوف والعرضة للتفتيش. حاول كثيرون إقناع الوالد بأن يحذو حذو الجميع ليرتاح ويريح غيره، وتحول ضغط المتدخلين على جدي لأمي ليستعمل قدرته على الإقناع. قبل حزيران النكسة أو الهزيمة نجحت جهود جدي واستسلم والدي مسلماً أمره لله وطالباً منه المغفرة على هذا الذنب التي قام به مضطراً.