وكالات – كتابات :
عام 1996؛ ومع بداية انتشار “الإنترنت”، نشر الصحافي الأميركي؛ “غاري ويب”، الحائز على جائزة (بوليتزر) في الصحافة، تحقيقًا من 03 أجزاء، على موقع صحيفة (San Jose Mercury News) الإلكتروني.
حملت السلسلة عنوان: “Dark Alliance: The Story Behind the Crack Explosion”، وفيها كشف “ويب” أن المخابرات الأميركية المركزية؛ (CIA)، كانت متورطة في عملية تدفق مخدرات “الكوكايين” إلى داخل “الولايات المتحدة الأميركية”، وخاصة في الأحياء ذات غالبية السكان السود في “لوس أنغلوس”.
وذكر “ويب” في تحقيقه؛ أن المورد الرئيس وراء تلك المخدرات كانت مجموعات المتمردين؛ (الكونترا)، في “نيكاراغوا”، واستخدمت تلك المجموعات، مبيعات “الكوكايين” لتمويل محاولة انقلاب ضد حكومة “نيكاراغوا” الاشتراكية في الثمانينيات، بعلم ودعم من الـ (CIA).
أصبح كابوسًا لـ”سي. آي. إيه”..
أحدث التحقيق ضجة كبيرة على الإنترنت، حيث تلقى الموقع ما يصل إلى: 1.3 مليون زيارة يوميًا.
وسخر البعض من التحقيق، واعتبره نظرية مؤامرة لا أكثر، لكن ذلك لم يؤثر على انتشار التحقيق من خلال التغطية الإذاعية المكثفة وعبر الإنترنت.
كان الموضوع بالنسبة لـ (CIA) كابوسًا أجبرها على كسر سياستها المتمثلة في عدم التعليق على تورط أي فرد ينتمي للوكالة في الأحداث الخارجية، لكنّها هذه المرة علّقت ونفت قصة “ويب” بالكامل.
تبنّى بعض السياسيين قضية “ويب”، وطلبت “ماكسين ووترز”، وهي عضو في “الكونغرس” عن جنوب وسط “لوس أنغلوس”، إجراء تحقيقات فيدرالية وجلسة استماع في “الكونغرس”، حول الدور الذي لعبته الحكومة الأميركية في جلب “الكوكايين” إلى مجتمعها.
تاريخ أميركي طويل في مطاردة الصحافيين..
ما ورد في تحقيق “ويب”؛ لم يكن جديدًا في الواقع؛ ففي عام 1985، أي قبل أكثر من عقد من نشر السلسلة، وجد الصحافيان من وكالة “(آسوشيتيد برس): “روبرت باري” و”بريان بارغر”، أن مجموعات (الكونترا) كانت تُهرّب “الكوكايين”، للمساعدة في تمويل حربهم ضد حكومة “نيكاراغوا”، وأطلق “البيت الأبيض”، في ظل رئاسة “ريغان”، حملة منسقة وراء الكواليس لتشويه سمعة الصحافيين: “باري” و”بارغر”، وتشويه سمعة كل التقارير عن مجموعات (الكونترا) والمخدرات.
ويعتقد البعض أن ما حصل مع الصحافيين من وكالة (آسوشيتيد برس)، حصل مع “غاري ويب” أيضًا؛ لأن الصحف الكبيرة، مثل: (واشنطن بوست) و(لوس إنغلوس تايمز)، نشرت تقارير مفصلة عن وجود ثغرات في تحقيق “ويب” الصحافي.
بينما لم تُركز تلك الصحف على متابعة الجانب الآخر من القضية، وهو تورُّط جماعاتٍ مُسلَّحة تدعمها “الولايات المتحدة” في تهريب المخدرات، حتى وإن لم تتعاون معهم الـ (CIA) في هذا الموضوع بالذات.
كانت (لوس إنغلوس تايمز) عدوانية بشكل خاص؛ كلفت الصحيفة ما لا يقل عن: 17 مراسلاً لفحص تحقيق “ويب”، وأشار أحد المراسلين، إلى أن الفريق تم تسميته: “فريق النَّيْل من غاري ويب”.
كشفت عن مدى تحكم الـ”سي. آي. إيه” في حركة الصحافة الأميركية..
في مواجهة ضغوط شديدة من أكبر الأسماء في وسائل الإعلام الأميركية، ألغى رئيس تحرير صحيفة (San Jose Mercury News)، وهي الصحيفة التي نشرت تحقيق “ويب”، ألغت دعمها للتحقيق الذي نُشر على صفحاتها.
ووصف رئيس التحرير في افتتاحية الصحيفة، تحقيقات “ويب” بأنها: “معيبة”، وقال إن الصحيفة: “ليس لديها دليل” على أن كبار مسؤولي “وكالة المخابرات المركزية” كانوا على علم بالصلة بين تجارة المخدرات في “لوس أنغلوس” و(الكونترا).
بينما يرى البعض أن الصحف الأكثر شهرة، كانت تعمل بالتنسيق مع الـ (CIA) لتدمير سمعة “ويب” أكثر من كون هدفها التأكد من الحقائق، وأن تلك المؤسسات لم تستطع أن تصدق أن إحدى الصحف الصغيرة قد استحوذت على كل ذلك الاهتمام بنشرها مثل تلك القصة الرائدة.
في عام 2014؛ أصدرت الـ (CIA) مجموعة من الوثائق توثق 03 عقود من العمليات الحكومية السرية، وتشمل مقالاً من: 06 صفحات بعنوان: “إدارة كابوس.. الشؤون العامة لوكالة المخابرات المركزية وقصة مؤامرة المخدرات”.
شرحت الوثيقة رد الفعل الداخلي لـ (CIA)؛ حين نُشر تقرير “ويب” على ما أسمته: “أزمة علاقات عامة حقيقية”، وكيف أنه لم يتعين على الوكالة بذل الكثير من المجهود لمواجهة غضب الرأي العام.
ويرجع الفضل جزئيًا إلى ما وصفه؛ “نيكولاس دوغموفيتش”، موظف سابق في الـ (CIA)، إلى: “قاعدة أرضية لعلاقات مثمرة مع الصحافيين”، راقب ضباط الشؤون العامة في الـ (CIA) بإرتياح أكبر الصحف في البلاد تُنقذ الوكالة من الكارثة، ودمرت في هذه العملية سمعة صحافي شجاع.
اعتراف بالحقيقة من داخل الوكالة..
في عام 1998، أدلى “فريدريك ب. هيتز”، المفتش العام لـ (CIA)، بشهادته أمام لجنة المخابرات بـ”مجلس النواب” الأميركي، وقال: “إنه بعد النظر في الأمر بإسهاب، أعتقد أن وكالة المخابرات المركزية كانت متفرجًا في الحرب على المخدرات، أو أسوأ”.
وأكمل في شهادته: “واسمحوا لي أن أكون صريحًا بشأن ما وجدناه، هناك حالات لم تقم فيها وكالة المخابرات المركزية، بطريقة سريعة أو متسقة، بقطع العلاقات مع الأفراد الذين يدعمون برنامج (كونترا)، والذين يُزعم أنهم شاركوا في نشاط الإتجار بالمخدرات، أو اتخاذ إجراءات لحل الإدعاءات”.
ورغم هذا الاعتراف الضمني بتورُّط الـ (CIA)، وصحة تحقيق “ويب”، لكنه خسر وظيفته، ودمرت سمعته، بسبب كل هذا الضغط الإعلامي.
ألف “ويب” بعدها؛ كتابًا يُدافع فيه عن التحقيق الذي نشره، وتحدث عن وسائل الإعلام التي شوهت سمعته، وبعد ذلك عمل “ويب” محققًا في لجنة تشريعية في “كاليفورنيا”، وأخيرًا في صحيفة أسبوعية بديلة في مدينة “ساكرامنتو” الأميركية.
لكنه عانى من مشاكل مالية ومن الاكتئاب، وفي كانون أول/ديسمبر عام 2004، وُجد “غاري ويب” ميتًا في منزله برصاصتين في الرأس، وأعلنت الشرطة بعد التحقيق أنه مات منتحرًا.
على الرغم من استحالة حدوث ذلك، فرصاصة واحدة في الرأس كفيلة بقتل الشخص، دون أن يكون لديه القدرة للضغط على الزناد وإطلاق رصاصة ثانية على رأسه.
ما دفع البعض للقول إن موت “ويب”، كان عملية اغتيال، لكن طبيبًا شرعيًا قدم تقريرًا يقول على الرغم من صعوبة حدوث الأمر، لكنه ممكن الحدوث، أن يُطلق الشخص على رأسه رصاصتين.
وانتهت بهاتين الرصاصتين قصة صحافي يعتبره البعض كشف الحقيقة وحارب المؤسسات الفاسدة، بينما يعتبره البعض شخصًا بحث عن الشهرة، وبالغ في تحقيقه الصحافي لنيل الشُهرة.
وأيًا كانت الحقيقة؛ فـ”غاري ويب” دفع حياته ثمنًا لها.