23 نوفمبر، 2024 10:00 ص
Search
Close this search box.

ترف الفلسفة وقرف الوجود

ترف الفلسفة وقرف الوجود

ليس من الغرابة في شيء أن يشرع الواقع بطلاق ربيبته الفلسفة ويبيح رجم خلاّنها بنعوت الدوغمائية والطوبائية ، حين يمطر سحاب الفلسفة أرض الواقع  بوابل من الأسئلة المحرجة ، وتتجرأ على مساءلة المعتقدات الممنوع القول فيها ، ونبش القيم المسكوت عنها ، وفكفكة السرديات المحرم الاقتراب منها . ولكن الغريب حقا”أن تصّر الفلسفة ويعاند أربابها على البقاء أوفياء مخلصين لذلك الواقع ، والمثابرة على ادامة الصلة بما يطرحه من اشكالات ، والتهيؤ الدائم للانضواء فيما يجتاحه من سيرورات ، والانخراط الفاعل فيما ينسجه من علاقات ، على الرغم من كون عناصره لم تبرح ترسف في أغلال الجهل ، وتتمرغ في أوحال التخلف ، وتتردى في مهاوي الانحطاط . وذلك لأنها (=الفلسفة) لم تعد ، كما كانت في السابق ، تلك السيدة المدللة التي يطربها أن تكنى (بأم العلوم) ، وتستمرأ أن يشاع عنها (حب الحكمة) ، بحيث لم تتنازل عن عرشها طواعية وتغادر عرينها بمحض ارادتها المتعالية ، وانما أجبرتها سنة التطور العلمي على أن تختار ما بين أن تبقى مشدودة لحنين التوغل في شعاب الميتافيزيقا الغيبية والتلفع بحجاب التجريدات المطلقة والتمترس خلف لغات اصطلاحية هي أقرب الى الصوفية منها الى الواقعية من جهة ، أو ان تنشد التطلع المحموم صوب شروط الوجود الانساني وتنخرط بما يغمره من توتر قار بين سيرورة الحاضر وصيرورة الراهن من جهة أخرى . وعلى ذلك فقد أوضح (جيل دولوز) انه ((حينما يعبر فوكو عن اعجابه بكانط لكونه طرح مشكلة الفلسفة ليس في علاقتها مع الأبدي ولكن مع الآن ، فانه يريد القول ان موضوع الفلسفة ليس هو التأمل في الأبدي ، ولا في تفكّر التاريخ ، ولكن في فحص وتشخيص الصرورات الراهنة)). وبادئ ذي بدء ، فان ما يعنينا هنا – في حدود هذا المقال المبتسر – ليس المعنى (المحض) للوجود الذي ألهب حماسة داعية الفينومينولوجيا الوجودية (هيدجر) واستنفر طاقاته العقلية الخارقة ، للحد الذي لم يكتفي معه بأن استعان بسساتيم كبار كلاسيكي الفلسفة من عيار (أفلاطون ، أرسطو ، كانط ، هيغل) ، بل واعاد تأويل مضامينها بما يتناسب ومنظومته الفلسفية ، ليضفي على مباحثها الرامية الى اعلاء شأن ذلك الوجود اللامتناهي شرعية قصوى . ولكن الذي يستدرجنا للحديث عن هذا الموضوع هو الوجود الانساني المعاش والواقع الاجتماعي المشخّص ، باعتبار ان (( الهدف الأسمى للفلسفة – كما يقول كانط – هو مساعدة الانسان على أن يحتل مكانته الملائمة في العالم ، وان تعلمه ما ينبغي أن يكونه لكي يكون انسانا”)) . وهو الأمر الذي استتبع تحريم أسئلة الفلسفة وتجريم اجابات الفلاسفة ، لاسيما في المجتمعات التي يفقد فيها الانسان قيمته وتستباح كرامته وتنتهك حريته وتهدر شخصيته . والواقع ان البحث عن جدوى هذا المعطى الانساني الفائق القيمة (= الفلسفة) في خضم واقع آيل الى الزيغ والتفلت والمراوغة ، لا يعد فقط ضربا”من الترف الفكري والتبطر المعرفي فحسب ، بل ويبدو خروجا عن سياقات المنطق ورهانات العقلنة . ذلك لأن (( قلق الحياة – كما يذهب فردريك شيلنغ – يخرج الانسان عن طوره )) ، بحيث يتركه نهبا”لهواجس الضياع في وجوده وفريسة لقلق الاغتراب عن محيطه . وعلى هذا فالوجود لا يكون مصدر قرف وعلة شقاء ، لايما كائن ، الا لأنه من ذات طبيعة ( مسطّح المحايثة ) لوجوده (= الكائن) – ان جاز لنا استخدام صيغة (دولوز) هذه –  فيحنذاك يغدو الاهتمام بقضايا الفلسفة كأنه ضرب من ضروب الشذوذ الذهني  والعبث الوجودي . ولعله من الأمور الباعثة على الأمل أن تجد مباحث الفلسفة من يهتم لأمرها ويتابع شؤونها ويستقصي آثاراها ، سيما لجهة علاقاتها بمجتمع بلغت تناحراته البينية وانخلاعاته المعيارية وانهياراته الرمزية ، حدا”بات ينذر كيانه السياسي بالتداعي ، ويهدد وجوده الحضاري بالاندثار ، كما هو حال المجتمع العراقي في الوقت الراهن . وهو ما غامرت – بتوجس حذر –  على مقاربته ثلة من الأكاديميين المتخصصين بحقول الفلسفة ، يردفهم رهط من الباحثين والاعلاميين الذين تحلقوا حول مائدة صحيفة الصباح الثقافية ، ضمن ملحقها الاسبوعي (أدب وثقافة) العدد/1341 الصادر بتاريخ 12 مارس / آذار2008 ، ولكن دون أن تفلح جهودهم باصطياد ما سعوا اليه من أهداف واقتناص ما تواضعوا عليه من غايات . لا لنقص في عدّتهم المعرفية أو عيب في صلاحيتهم المنهجية ، وانما لاقتصار منظورهم التحليلي على بعد نخبوي واحد هو (الأدب) في علاقته بالفلسفة ، ناسين أو متناسين ان القضايا الكبرى والمسائل الكلية هي ما يستحوذ على اهتمامها ويستقطب توجهاتها ، وما تجليات روابطها ببقية المناشط الفكرية الأخرى الا تحصيل حاصل لطابعها الشمولي ومنظورها العمومي . ولهذا فلا أصدق مما قاله ( نيتشه ) من أن (( المشكلات الكبرى توجد في الشارع )) . بمعنى ان تصورات الناس حول اشتراطات بيئتهم الموضوعية ، وانماط علاقاتهم الاجتماعية ، وتجليات ابداعاتهم الفكرية ، وتنوع رموزهم المعتقدية ، هي ما يشكل الحجر الأساس لظاهرة التفلسف أيا كان المحتوى الذي تستبطنه . ولهذا فقد أعتبر الفيلسوف (جورج هانزغادامير) ان ((طرق التفكير المألوفة ليست كافية )) . فما جدوى الحديث عن الفلسفة أو سواها من العلوم الانسانية المحايثة لها والمرتبطة بها ، طالما ان الوجود الاجتماعي بكل ارهاصاته وصراعاته لا يتصدر نقاشاتها ، وان الواقع الانساني بكل تمزقاته وانهياراته لا يحتل عناوين مباحثها ومضامين انشغالاتها ؟ . وما قيمة التفلسف حول رجاحة المفاهيم وصلاحية المقولات التي تتعامل بها ، طالما ان محورها الأساسي (الانسان) غائب عنها ومجهول لديها ؟! . فلأجل أن تتطور أجناس الأدب وتغدو سردياتها أكثر انسانية ، ولكي تتواضع الفلسفة لتصبح أقرب للواقعية منها الى الطوبائية ، فاننا بحاجة ماسة الى من يجعل مشاغل الفلسفة ومشاكلها دروسا”للعامة لا مناظرات للخاصة ، وضرورات لاشاعة الوعي لا ترف لتكريس السفسطة . وهنا تتجلى عبقرية الفيلسوف الاغريقي (ابيقور) حين كتب يقول (( جوفاء هي كلمات الفيلسوف التي لا تفيد في مداواة أي معاناة انسانية . فكما انه لا فائدة في طب اذا لم يكن يخلص الجسم من المرض ، كذلك لا نفع في الفلسفة اذا لم تكن تستطيع أن تزيل مرض الروح )) . اذ انه لا يكفي – لكي نتخلص من عبء الاسئلة ونتملص من سقامة الأجوبة – أن نعلل غياب دور الفلسفة وانحسار وظيفتها في حياتنا الثقافية والاجتماعية ، بالقاء تبعة ذلك على وعورة مسالكها وجفاف خطابها وغموض مفاهيمها واستعصاء اشكالاتها . وانما الأحرى أن نجتهد في البحث عن الأسباب الواقعية التي اجهضت عوامل الوعي ، وعطلت شروط المعرفة ، وقمعت ارهاصات الفكر ، واستأصلت ملكات الفهم ، والحفر ، من ثم ، في طبقات الواقع والتنقيب في تضاريس المجتمع ، للكشف عما يجعل من الفلسفة سبيلا”لأنسنة الوجود الاجتماعي وعقلنة الماهية الانسانية . ذلك لأن ((الشكل الخاص للفلسفة – كما لاحظ هيغل بثاقب نظرته وعمق تحليله – هو متعاصر مع شكل خاص من الشعوب تظهر بينهم ، بنظام الدولة الخاص بهم ، وشكل حكومتهم ، وبأخلاقهم ، وبحياتهم الاجتماعية ، وبقدراتهم وعاداتهم ووسائل الراحة في حياتهم، وبأمانيهم وأعمالهم في مجال الفن والعلم ، وبأديانهم ، بمصائرهم العسكرية وعلاقاتهم الخارجية ، بانهيار الحالات التي أظهر فيما بعد المبدأ الخاص قوته . وبظهور ونشاط حالات جديدة يولد فيها ويتطور مبدأ أعلى)) . وبرغم أهمية المرجعية الأغريقية التي لم تفتأ تيارات الفلسفة الغربية جميعا”تنهل من معينها وتتكأ على رصيدها في بناء منظوماتها المعرفية ، وتقنين تصوراتها الفكرية ، واستخلاص أدواتها المفهومية  الا انها ما لبثت أن استلهمت خصائص المنهجية التاريخية في معايرة ذلك البناء وتقعيد تلك التصورات وتفعيل تلك المفاهيم . لا بل ان شوامخ تلك التيارات الفلسفية (=الفلاسفة الغربيين) لم يكتفوا باعادة قراءة ميراثهم الأغريقي / المسيحي على وفق متطلبات عصر الحداثة وما بعدها ، وانما عمدوا لاجتراح مقاربات نقدية أفضت ، ليس فقط الى زحزحة المفاهيم الراسخة وتليين المقولات الصلبة فحسب ، بل وقلبت ركام اليقينيات الدينية والبديهيات العقلية رأسا”على عقب ، بحيث اقترنت تلك القطائع والقفزات بأسماء لامعة ، أمسى ذكرها يتردد في كل بحث وصداها ينداح في كل دراسة . وهنا يطيب لي أن أستعير ، كخاتمة لهذا الموضوع ، هجاء الفيلسوف (نيتشه) للروائي الشهير (فلوبير) ، الذي جاء تعبيرا”عن موقفه حيال جديّة المفكر الذي يتصوره وقيمة الأفكار التي يبدعها حين قال بهذه الصيغة الحوارية الموحية (( لا يمكن أن نفكر أو نكتب الا جالسين (غوستاف فلوبير ) . تمكنت منك أيها العدمي ! أن تكون ذا مؤخرة ثقيلة فتلك ، بأمتياز ، خطيئة في حق العقل . وحدها الأفكار التي تأتينا ونحن ماشون لها قيمة ما )) .
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات