وكالات – كتابات :
من الملاحقة القضائية لخصم شركة “شيفرون”، المحامي الحقوقي؛ “ستيفن دونزيغر”، إلى مقتل الصحافية الفلسطينية الأميركية؛ “شيرين أبوعاقلة”، تتجاهل الحكومة الأميركية حرية التعبير في المواقف التي تستفيد فيها الشركات المتحالفة معها، وذلك وفق ما يخلُص إليه تقرير للكاتب؛ “مجيد ملحس”، نشره موقع مجلة (غاكوبين)، صوت اليسار الأميركي.
يبدأ الصحافي الفلسطيني الكندي تقريره؛ بالإشارة إلى أن الجيش الإسرائيلي أطلق النار على الصحافية “الفلسطينية-الأميركية” المخضرمة؛ “شيرين أبوعاقلة”، فأرداها قتيلة في 11 آيار/مايو 2022، وذلك أثناء تغطيتها غارة عسكرية على مخيم للاجئين خارج مدينة “جنين”؛ بـ”الضفة الغربية”، لافتًا إلى أن زملاء “شيرين” في قناة (الجزيرة)، والذين كانوا يرتدون سترات وخوذات تحمل شعار: “صحافة”، صوَّروا اللحظات التي تلَت إطلاق النار عليها، والتي واصل خلالها القناص إطلاق النار على مراسلين آخرين كانوا يحاولون استعادة جثتها.
إلتزام شكلي..
وأضاف الكاتب أنه بعد أن دحضت منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية؛ (بتسيلم)، مزاعم رئيس الوزراء؛ “نفتالي بينيت”، بأن رصاصة طائشة أطلقها فلسطينيون أصابت “شيرين”، دعت الحكومة الإسرائيلية إلى تحقيق مشترك في مقتل الصحافية مع “السلطة الفلسطينية”، وطالبت بتسليم الرصاصة وجثة “شيرين” لإجراء تشريح للجثة.
ورفضت “السلطة الفلسطينية” هذا الطلب، نظرًا إلى الافتقار التاريخي للشفافية والمساءلة في التحقيقات في جرائم قتل المدنيين والاحتلال غير القانوني للأراضي الفلسطينية على يد الجيش الإسرائيلي. وفضَّلت “السلطة الفلسطينية” إجراء تحقيق مستقل عِوضًا عن ذلك.
وخلُص تحقيق “السلطة الفلسطينية” إلى أن الرصاصة تطابقت مع سلاح يستخدمه الجيش الإسرائيلي من نوع (روغر ميني 14). وأفادت مراسلة (الجزيرة)؛ “نداء إبراهيم”، أن الرصاصة التي قتلت “شيرين”: “كانت من عيار: 5.56 ملم، وهي تتوافق مع سلاح ناري قناص من طراز (ميني روغر)”. ولم يُحرز التحقيق الإسرائيلي أي تقدم.

وأشار الكاتب إلى أن “وزارة الخارجية” الأميركية أوضحت أنها ستعتمد على نتائج التحقيق الإسرائيلي.
ووفقًا للكاتب، يبدو أن إلتزام الحكومة الأميركية الشكلي بحرية التعبير أقل أهمية من استرضاء حلفائها، بدءًا من الحكومات الأجنبية وإنتهاءً بالشركات المتعددة الجنسيات.
صمت أميركي..
ويوضح الكاتب أن عددًا قليلًا من أعضاء “الكونغرس”، بقيادة النائبَيْن: “أندريه كارسون”، (ديمقراطي عن ولاية إنديانا)، و”لو كوريا”؛ (ديمقراطي عن ولاية كاليفورنيا)، كتبوا خطابًا يطلب من إدارة “بايدن” إجراء تحقيق مستقل في مقتل الصحافية “الفلسطينية-الأميركية”.
وجاء في الخطاب: “نطلب من وزارة الخارجية الأميركية؛ تحديد هل انتُهِكَت أي قوانين أميركية تحمي السيدة شيرين أبوعاقلة، وهي مواطنة أميركية، أم لا. وبصفتها أميركية، كان يحق للسيدة شيرين الحصول على الحماية الكاملة الممنوحة للمواطنين الأميركيين الذين يعيشون في الخارج”.
وعلى الرغم من القتل خارج نطاق القضاء لمواطنة أميركية وصحافية من جانب حكومة أجنبية، رفضت إدارة “بايدن” إجراء تحقيق مستقل خاص بها. وبدلًا من ذلك، ينوي وزير الخارجية؛ “آنتوني بلينكن”، الاعتماد على نتائج التحقيق الإسرائيلي، الذي يرفض متابعة التحقيق دون الحصول على جثمان “شيرين”.
ويُلفت الكاتب إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي ترفض فيها الحكومة الفيدرالية الأميركية التحقيق في وفاة مواطن أميركي على يد الجيش الإسرائيلي. ففي عام 2003؛ تُرِك مقتل الناشطة؛ “راشيل كوري”، في “غزة”، للمداولة أمام المحاكم الإسرائيلية.
ولم تلقَ الدعوة إلى إجراء تحقيقاتٍ تقودها “الولايات المتحدة” في جرائم الحرب التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة على نحو غير قانوني آذانًا صاغية لسنواتٍ عديدة.
ويتلقى الجيش الإسرائيلي: 3.8 مليارات دولار من الأموال العامة الأميركية سنويًّا في شكل مساعدات عسكرية، وفقًا لمذكرة التفاهم العشرية المجدَّدة التي وقَّعتها إدارة “أوباما”؛ في عام 2016.
والمطالبة بإجراء تحقيق بقيادة “الولايات المتحدة”؛ في مقتل” شيرين”، تفتح السُّبل القانونية أمام الناشطين والسياسيين الفلسطينيين والأميركيين على حدٍ سواء لتحدي هذا الدعم المالي المستمر للجيش الإسرائيلي.
ويُنوِّه الكاتب إلى أن “الولايات المتحدة” لديها بالتأكيد سلطة إجراء مثل هذه التحقيقات. وتحمي المادة (19)؛ (البند 2)، من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي صدَّقت عليه “الولايات المتحدة” و”إسرائيل”، حرية: “التماس المعلومات والأفكار أيًّا كان نوعها وتلقيها ونقلها، بصرف النظر عن الحدود، سواء كان ذلك شفهيًّا أو كتابيًّا أو مطبوعًا، وفي شكل فني أو من خلال أي وسائل أخرى مختارة”.
وإذا كشف التحقيق عن جرائم حرب، فإن: “الدعم المالي للولايات المتحدة؛ للجيش الإسرائيلي، سيخضع للتدقيق التلقائي”. ووفقًا لـ”قانون ليهي”، يُحظَر على الحكومة الفيدرالية الأميركية تقديم: “المساعدة إلى أي وحدة من وحدات قوات الأمن في بلد أجنبي إذا كان لدى وزير الخارجية معلومات موثوقة تُفيد بأن هذه الوحدة ارتكبت انتهاكًا جسيمًا لحقوق الإنسان”.
ويُعد التحقيق الذي تقوده “الولايات المتحدة” أمرًا بالغ الأهمية، ليس فقط لتحقيق المساءلة عن قتل الجيش الإسرائيلي؛ لـ”شيرين أبوعاقلة”، وستة وثمانين صحافيًّا آخرين كانوا يعملون من الأراضي الفلسطينية؛ منذ عام 1967، ولكن لتحدي الاحتلال الإسرائيلي غير القانوني للأراضي الفلسطينية الذي يموِّله دافعو الضرائب الأميركيون. وهذا هو بالضبط سبب عدم اهتمام “وزارة الخارجية” بمتابعة التحقيق.

المجمع الصناعي العسكري..
ويرى الكاتب أن عدم اهتمام “الولايات المتحدة” بالمساءلة عن مقتل؛ “شيرين”، ليس بالأمر المُفاجيء، وذلك في ضوء: “التاريخ الطويل للولايات المتحدة في توفير الحصانة الدبلوماسية لإسرائيل، بعد أن استخدمت حق النقض ضد: 53 قرارًا على الأقل من قرارات مجلس الأمن الدولي التي كانت تنتقد إسرائيل في العقود الخمسة الماضية”.
ومع ذلك، وبعيدًا عن الأسباب الجيوسياسية لـ”الولايات المتحدة” في منح “إسرائيل” تاريخيًّا الإفلات من العقاب وتوفير تغطية جيدة لها، فإن أحد الجوانب المسكوت عنها لانتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ هو المصلحة الراسخة للمجمع العسكري الصناعي الأميركي في تسليح الجيش الإسرائيلي.
ويُشير الكاتب إلى أن بندقية القنص التي استُخدمت لقتل “شيرين”؛ (روغر ميني-14)، تُصنّعها وتبيعها شركة تصنيع الأسلحة الأميركية؛ (ستارم روغر آند كو)، التي لديها وكالة توزيع في “إسرائيل” وتُروِّج لأسلحتها النارية من خلال تسليط الضوء على استخدام الجيش الإسرائيلي لها.
وتحل “إسرائيل” في المرتبة الرابعة عشرة؛ بصفتها أكبر مستورد للأسلحة على مستوى العالم، وتأتي: 92% من وارداتها من الأسلحة من “الولايات المتحدة”. وتدعم المساعدات العسكرية الأميركية لـ”إسرائيل” على نحو فعَّال؛ المشتريات من مصنعي الأسلحة الأميركيين ومقاولي الدفاع.
وكما كتب عالم الاجتماع؛ “ماكس آغل”، فإن: “المساعدة العسكرية الأميركية، التي تُفهم بدقة أكبر على أنها تدفق دائري تستفيد من خلاله شركات الأسلحة الأميركية من استعمار الأراضي الفلسطينية وزعزعة إسرائيل لاستقرار الدول المحيطة، هي عنصر هيكلي طويل الأمد للعلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل”. وبعبارة أخرى، فإن التوجه الاقتصادي النيوليبرالي الذي يُكلِّف الحكومة بتعزيز مصالح شركات القطاع الخاص وأرباحها قبل كل شيء يمتد إلى السياسة الخارجية لـ”الولايات المتحدة”.
ووفقًا لموقع (أوبن سيكرتس)، وَجَّه مقاولو الدفاع الأميركيون ومصنِّعو الأسلحة بين عامي: 2001 و2021 نحو: “285 مليون دولار في إسهامات الحملات الانتخابية و2.5 مليار دولار في الإنفاق على جماعات الضغط للتأثير في سياسة الدفاع”. وتشمل هذه الشركات (لوكهيد مارتن) و(بوينغ) و(نورثروب غرومان) و(رايثيون تكنولوجيز) و(جنرال ديناميكس).
ومن بين أبرز جماعات الضغط لمبيعات الأسلحة المحلية والأجنبية؛ “الرابطة الوطنية للبنادق”، السيئة السمعة، و”المؤسسة الوطنية لرياضات الرماية” الأقل شهرة، والتي أنفقت: 1.2 ملايين دولار في الإنفاق على جماعات الضغط في عام 2021. وكان رئيس المؤسسة الوطنية لرياضات الرماية؛ “ستيف سانيتي”، رئيسًا تنفيذيًّا ورئيسًا لاحقًا لشركة (ستارم روغر آند كو)، وهي الشركة المصنِّعة للسلاح الذي قُتِلت به؛ “شيرين أبوعاقلة”.
الرقابة النيوليبرالية..
ويقول الكاتب إن التلميح بأن مقاولي الدفاع الأميركيين ومصنِّعي الأسلحة يتغاضون عن قتل الصحافيين الأميركيين قد يكون أمرًا غير قابل للتصديق. لكن التمعن في قضية محامي حقوق الإنسان؛ “ستيفن دونزيغر”، يشهد على معقولية هذا الطرح.
لقد نجح “دونزيغر” في تمثيل المجموعة الإكوادورية المحلية؛ “تحالف الدفاع عن الآمازون”، في معركتها القانونية ضد شركة النفط الأميركية؛ (تكساكو)، مما حَمَّل الأخيرة المسؤولية عن: 16 مليار غالون من النفايات السامة التي ألقيت في منطقة “لاغو أجريو” في غابات “الآمازون” المطيرة؛ بين عامي: 1972 و1992.
ومنذ ذلك الحين، تعرضت حياة “دونزيغر” المهنية والشخصية للهجوم من جانب الشركة الأم لشركة؛ (تكساكو)؛ شركة (شيفرون)، عملاق النفط الأميركي المتعددة الجنسيات.

وفي عام 2011، رفضت شركة (شيفرون) دفع: 9.5 مليارات دولار قيمة التسوية تعويضًا عن التلوث الذي حدث قبل ثلاثة عقود، وأطلقت الشركة دعوى مضادة ضد “دونزيغر” تتهمه بالرشوة والاحتيال. وزعمت الشركة أن “دونزيغر” ضَخَّم مدى التلوث والمسؤولية الواقعة على عاتق شركة (تكساكو)، بعد أن تلقى رشوة من المسؤولين الإكوادوريين لتغدو شركة النفط كبش فداء لمسؤولية الدولة عن الفشل في التخفيف من التلوث في “لاغو أجريو”. وقد كُشِف زيف إدِّعاء (شيفرون) تمامًا.
وتكشف وثائق (شيفرون) المسربة؛ من عام 2009، أن مسؤولي الشركة جعلوا “شيطنة” المحامي الحقوقي إستراتيجية صريحة طويلة الأجل لقلب دفة المعركة القانونية ضده. وفي غضون ذلك، لم يتلق تحالف دفاع آمازون شيئًا من التسوية المتفق عليها.
ورَفعَت شركة (شيفرون) دعوى استنادًا إلى: “قانون منظمات الكسب غير المشروع واستغلال النفوذ والفساد”؛ (ريكو)، الذي يُستخدم عادةً ضد عصابات الجريمة المنظمة، ضد “دونزيغر”. وكان قاضي المحكمة الفيدرالية الذي ترأس قضية “دونزيغر” هو: “لويس أ. كابلان”، محامي شركات سابق لصناعة التبغ الذي كان لديه استثمارات في شركة (شيفرون). ووجد “كابلان” أن “دونزيغر” مُذنب بموجب قانون (ريكو) في عام 2014.
ورفض مكتب المدعي العام في “نيويورك” مقاضاة “دونزيغر”؛ على الرغم من حكم “كابلان”. ولكن “كابلان” اتخذ إجراءً غير معتاد لقاضي المحكمة الفيدرالية: فقد استند إلى القاعدة (42)، التي تسمح للقاضي الفيدرالي بتعيين شركة محاماة خاصة للمقاضاة نيابةً عن المحاكم إذا رفض المدَّعون القيام بذلك.
وعيَّن “كابلان” شركة المحاماة (سيوارد آند كيسيل)، التي تُعد شركة (شيفرون) عميلًا منتظمًا لها، لتمثيل الحكومة الأميركية والتأكد من توجيه التهم الجنائية ضد “دونزيغر”.
وقبل المحاكمة ضد “دونزيغر”؛ عن طريق شركة المحاماة (سيوارد آند كيسيل)، وفي خطوة أخرى غير عادية، تخطى “كابلان” عملية التكليف العشوائي القياسية لاختيار قاضٍ وعيَّن مباشرةً قاضية محكمة المقاطعة؛ “لوريتا بريسكا”، لرئاسة القضية. وعملت “لوريتا” في المجلس الاستشاري للجمعية الفيدرالية، التي تٌعد (شيفرون) مساهمًا ماليًّا مهمًّا فيها.
وفي آب/أغسطس 2019، صادرت “لوريتا” جواز سفر “دونزيغر” وحكمت عليه بالإقامة الجبرية طوال مدة المحاكمة. وفي 01 تشرين أول/أكتوبر 2021، وبعد عامين من الإقامة الجبرية، وجدت “لوريتا” أن “دونزيغر” مذنبًا بجميع التهم وحكمت عليه بالسجن ستة أشهر، وهو الحد الأقصى للعقوبة.
وقال “دونزيغر” خلال المحاكمة: “لقد زاد تأثير الشركات في قضائنا الفيدرالي كثيرًا في السنوات الأخيرة”، مضيفًا أن (شيفرون) قد: “استولت على عنصر قوة من الحكومة واستخدمته ضد ناشط حقوقي”.
حرب الشركات على حرية التعبير..
ويُشدِّد الكاتب على أن “الولايات المتحدة” اتخذت إجراءاتٍ مباشرة في قضية “ستيفن دونزيغر”؛ نيابةً عن صناعة “النفط والغاز”.
وفي قضية “شيرين أبوعاقلة”، تتبنى “الولايات المتحدة” نهج التقاعس عن اتخاذ إجراء، جزئيًّا على الأقل نيابةً عن مصنِّعي الأسلحة والمجمع الصناعي العسكري الأوسع.
وقد أُطلق سراح “دونزيغر”؛ في 26 نيسان/إبريل، ولم يعُد خاضعًا للملاحقة القضائية. ولكن “شيرين” فارقت الحياة، وبسبب رفض “الولايات المتحدة” فتح تحقيق مستقل، فمن غير المُرجح أن تُنصفها العدالة.
وفي كلتا الحالتين، إنحازت الحكومة الأميركية إلى مصالح الشركات على حساب قيمة حرية التعبير، بما في ذلك حق الصحافيين في التعبير دون خوف من المضايقات والعنف، وحق الجمهور في الحصول على معلومات من الصحافة الحرة.
وتكشف قضيتا “شيرين” و”دونزيغر” عن البراغماتية المحسوبة المجرَّدة من المشاعر الإنسانية؛ والتي تُقنع بها الشركاتُ المتعددة الجنسيات؛ الحكومةَ الأميركية، بمشروعها للحفاظ على الهيمنة الاقتصادية العالمية.
ويختم الكاتب تقريره بالقول إن الحديث عن: “ثقافة الإلغاء” يُهيمن على عناوين الأخبار، ومع ذلك فإن الأميركيين العاديين لا يهتمون كثيرًا بقضايا مثل قضية “شيرين” و”دونزيغر”.
وإذا كان الحديث السائد سيُركز على حرية التعبير، فحينئذ يجب أن يُسلط الضوء على التواطؤ الصارخ بين الحكومات النيوليبرالية والشركات المتعددة الجنسيات لإسكات الصحافيين والناشطين الذين يتحدون الاستغلال والظلم في جميع أنحاء العالم.