وجدت بين أوراقي قصاصة تقول، قصدي أقول فيها لنفسي، “إذا قيّض لهذا العمل أن يرى النور فماذا ستكتب لتصف الأجواء التي كانت تتم فيها هذه الترجمات؟”. والترجمات المقصودة هنا هي الترجمات من اللغة الإنجليزية إلى العربية التي كنت أقوم بها في السجن، في فترات مختلفة وفي سجون مختلفة. وقد صدر القسم الذي كان متوفرا بين يدي منها وقتها في كتاب تحت عنوان “فتح النوافذ الموصدة” عن وزارة الثقافة الفلسطينية في العام 2014، وهي ترجمات وضعت متداخلة أو متجاورة مع وصف الأجواء التي تمت فيها. وفي القصاصة نفسها سجلت بعض الأفكار التي ستضمها مقدمة الكتاب الموعود حين تجيء الفرصة. ووفاء مني لتلك الملاحظة وللقصاصة التي احتوتها، لأنها بالتأكيد كانت وقت كتابتها تمثل طموحا مشحونا بإرادة إنسانية مشتقة من الإرادة الجمعية للناس الأحرار، رغم القيد، الذين كنت واحدا منهم في فترات ومناسبات عديدة، خلف قضبان الأسر، وتحديدا أولئك الذين حملوا قلما وكتبوا مبدعين أدبا يؤدي رسالة حاضرة في زمن كتابته ورسالة دائمة تقول بأن الكلمة أقوى من السيف، ولو أغضب ذلك أبا الطيب المتنبي، ألم يكن هو كذلك مخطئاً في تنبّيه، مع عدم الإجحاف في الحكم على فنه الراقي. قالت كلمات أولئك الصحب في حينه، وتقول الآن، أن روح الإنسان هي الأقوى لأنها روح متقدة بالتوق المتجدد للحرية في كل لحظة كألسنة نار مقدسة تهب متصاعدة في وجه الظلام ومحاولات الطمس والنسيان كالنار الخالدة في نصب الجنود المجهولين. كانت تلك القصاصة مرتبطة بأيام وتجارب تجمع بين المعاناة والألم لظروف الاعتقال ووطأة أيام الاعتقال من جهة وصمود إنساني منحوت من بطولة الناس العاديين المتسلحين بإرادة صلبة وبما يتولد عنها من مواقف وتحركات تواجه مؤامرات وتعسف السجان ومن وراءه، إرادة أحن إليها دائماً وأفتقدها أحياناً أخرى، ويعتصرني ألم افتقادها في أيام الجزر، ربما بدرجة أكبر من ذلك الألم ومن تلك المعاناة، لكنني أتعالى على هذا الألم كما تعالينا جميعا على ذلك الألم بالنهل من ذلك المعين الذي لا ينضب: ثقتي بالناس الذين أحبهم في كل دوائر حياتي من أصغرها في الأسرة، حتى أوسعها في الإنسانية مروراً بدائرة الوطن الذي تغنينا ونتغنى بحبه صادقين. الترجمة، سواء كانت كتابة كما في تلك الأعمال أو شفوية بالترجمة لمندوبي الصليب الأحمر الدولي أثناء زياراتهم للسجون، ارتبطت بتجارب أخذت حيزها في منجم الذاكرة المادي، مثل هذه القصاصة ومثل تلك الرسائل التي كانت تصلني من مندوبي الصليب الأحمر شكراً على مساهمتي في الترجمة لهم في السجن أو الرسائل التي تبادلتها مع بعضهم بعد تحرري من القيد.
أول ما تقوله القصاصة إن هذه الترجمات ذات جذر قوي في حركة ثقافية نمت وترعرعت خلف القضبان ويمكن وصفها بالمقاومة برسالتها وأدواتها والمزدهرة بالمطلق أحياناً وبالنسبي أحياناً، وذات وجه إنساني مشرق ينبغي الاعتزاز به والالتفات إليه بمزيد من الدراسة والتعمق في البحث عمّا تعكسه من حياة الناس الذين تخصهم. صحيح أن الترجمة لم تكن لوناً راسخاً من الألوان الأدبية في الحركة الثقافية داخل المعتقل، ولكنها كانت لوناً متميزاً في رسالته وفي دوره المهم في كسر الحصار الثقافي والإعلامي المفروض على المعتقلين، وبشكل خاص خلال فترة السبعينيات وأوائل الثمانينيات. في تلك الفترة كانت المصادر الإعلامية الوحيدة التي يطّلع عليها المعتقل، ليعرف من خلالها ما يجري في هذا العالم، محصورة في جريدة “الأنباء” الإسرائيلية الحكومية الرسمية وفي ثلاث فترات إخبارية من راديو إسرائيل كانت تبث عبر سماعات معلقة في غرف السجن. وبالتالي كانت الترجمات التي يقوم بها المعتقلون الذين يتقنون العبرية والإنجليزية مصدر تعويض مهم عن شح المصادر، حيث كان الحصول على عدد من جريدة عبرية أو جريدة “الجيروزالم بوست” ممكناً بحجة تعلم اللغات. فكانت التعميمات التي تصدر عن التوجيه الثقافي في المعتقل سواء تلك الخاصة بالتنظيمات، كل لجماعته، أو للمعتقلين كافة تحوي ترجمات إخبارية أو مقالات لأبرز المحللين السياسيين الذين كانوا يكتبون المقالات والأعمدة الثابتة في هذه الصحف ويتم الاستناد عليها ووضع محتواها في سياق تحليلي من منظور الثورة والمقاومة، وفي القليل من الأحيان تتم ترجمة تقارير صحفية كاملة. كانت التعميمات مادة التواصل وتوحيد المواقف وأداة التثقيف والتوعية وتستحق أن يكتب عنها مطولاً وعن الدور التعبوي الذي قامت به، فهي جزء من “الإعلام الوطني” الذي يتم خلف القضبان. وقد سبق وقدمت ورقة حول دور هذا الإعلام في حياة الحركة الأسيرة في مؤتمر حول هذا الموضوع نظمه مركز أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة في جامعة القدس، وللأسف لم تنشر الورقة رغم الجهد الذي بذلته في إعدادها.
كنت أشارك في الترجمة من اللغة الإنجليزية ضمن هذا الإطار العام إلى جانب الكتابة الأدبية في مجالي القصة القصيرة والشعر والخاطرة، إضافة إلى تحرير مجلة “الحرية” السياسية الثقافية الشهرية، وكتابة المقال الافتتاحي فيها، وكتابة زاوية ثابتة تتسم لغتها بالنقد الساخر عنوانها “بالمرصاد”، وكـأنها كاريكاتور بالكلمة، تتصدى لما ينشر أو يبث من أخبار مسمومة في الجريدة الوحيدة التي تصل المعتقل أو من خلال الراديو، أو أي موضوع نسمع عنه من خلال الزيارات الشهرية للأهل. وعلى هامش ذلك كنت أعطي لنفسي مساحة لترجمة بعض ما يعجبني من أعمال ثقافية أو أدبية في أي مصدر يقع تحت يدي من كتاب أو ملحق أسبوعي أو مجلة ك”ريدرز دايجست” (Readers’ Digest) أو “ناشنال جيوغرافك” (National Geographic)، وأعمم هذه الترجمات طازجة على من يتذوقها من رفاق الاعتقال، ثم أنشرها المناسب منها في المجلة الشهرية. وقد مكّنتني تلك “التمارين” الطوعية مشكورة من تطوير قدرتي في الترجمة لأمارسها لاحقا في العمل غير المتفرغ في الترجمة والتحرير في مؤسسات فلسطينية ودولية، ضمت ما يزيد عن عشرين عملا منشورا في دراسات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. أمّا الترجمة الموازية من العربية إلى الإنجليزية فلم يكن لها داعٍ في تلك الأجواء طبعاً، باستثناء الحاجة للترجمة الشفوية بين المعتقلين ومندوبي الصليب الأحمر أثناء الزيارات الدورية لهؤلاء المندوبين، فتجربة الترجمة لمندوبي الصليب الأحمر تحمل معها هي الأخرى ذكريات بحاجة إلى التسجيل حول أشخاص هؤلاء المندوبين وتفاعلهم الرسمي والإنساني مع واقع المعتقلين وظروف حياتهم ضمن القيود الوظيفية المفروضة على عمل هذه الهيئة الدولية، وتحمل تلك الترجمة ذكريات حول قصص بعض المعتقلين الذين كنت أنقل مشاكلهم التي يودون طرحها للمندوبين. أما الترجمة إلى الإنجليزية كتابة فقد اقتصرت على ترجمة بعض أعمالي الأدبية بلغة مباشرة لا تصل طموحي بأن توازي إبداعيا ما أكتبه بالعربية، فكنت أترجمها بمثل هذه اللغة ثم أعطيها لبعض الأصدقاء الناطقين بالإنجليزية أو المتخصصين فيها ليحرروها. ومن تلك الأعمال التي تمت ترجمتها بهذه الطريقة “يوميات أنصار 3: شوكة تنبض في القلب” والتي ترجمت إلى الإنجليزية بمساعدة صديقة أمريكية كانت تعمل في إحدى المؤسسات الفلسطينية، وتمت بعد ذلك ترجمتها من الإنجليزية إلى الألمانية وقبلها إلى العبرية، ونشرت في أماكن عدة منها مجلة عالمية بعنوان “السجن والسجناء” (Prisons and Prisoners) تعنى بأدب السجون وثقافتها. ولذلك أضفت هذا العمل إلى كتاب “فتح النوافذ الموصدة” كنموذج على الكتابة التي ترجمت إلى الإنجليزية بجهد أساس مني كامتداد لتجربة الترجمة من الإنجليزية إلى العربية أو كصورة المرآة لتلك التجربة كونها توأمها.
تطلب القصاصة أيضا أن أتحدث عن “كراهية الجلادين للثقافة”، ولست أدري ما الذي كان يفكر به صاحب القصاصة، أنا طبعاً، حين كتب هذه العبارة، ولماذا وضعها هنا مع الحديث عن الترجمة. ربما المقصود القول إن هذه الترجمات كانت تتم في أجواء من الحركة الثقافية المتنوعة التي تستفز السجان حين تكون واضحة برموزها. قد لا تستفز السجان العادي حين تكون مجرد كلمات في دفاتر، ولكنها حين تصبح مواقف ملموسة أو رموزا ظاهرة فإنها تستفزّه أشد الاستفزاز. القصاصة تورد العديد من العبارات المختزلة التي تطلب مني أن أحولها إلى مادة للقراء: “هذا حمار كبير يطلب الكتب”، “الثقافة عدوة الجلاد: أصحاب النظارات الطبية أو الذين في بيوتهم كتب كثيرة هم (كتسنيم(، أي ضباط، قياديون”، “يريدونك أن تشبع عنجهيتهم بالشكوى أو البكاء وحين تُخيِّب ظنهم يحقدون عليك أكثر”.
طموح القصاصة كبير. حين أحاول ترجمة هذه العبارات المختزلة فإنني أتذكر قصص ومواقف تلحّ عليّ، ولا بدّ من تسجيلها قبل أن تضيع في زحمة الذاكرة. في بعض الأحيان تكتب لنفسك إشارات صغيرة لتعود إليها في المستقبل مفترضا أنك ستفهمها حين يستحق التنفيذ وستتذكر ما حولها، لكن الذاكرة تخون أحيانا فتصبح الملاحظات يتيمة دون إطارها الذي يعطيها المعنى الذي أصبح في بطن الشاعر. الاختزال قد يسيء إلى ثرائها الإنساني، ولكن في المقابل فإن عدم تسجيلها، بسبب انشغالك في أمور أخرى، قد يؤدي بها إلى عالم النسيان أو الضياع. أقول لنفسي: بأمر القصاصة وسّع اختزالها درجة أخرى ممكنة لتعكس الموقف الذي يشكّل جوهرها واقطع على نفسك عهداً بألا تتركها يتيمة تقتلها الوحدة وبأن تبدأ بالعمل عليها في أقرب فرصة، فيا فرصة تحقيق الوعد تعالي.
(تحليق عابر لطيور الذاكرة -6).