بعد أكثر من مائة عام على تأسيس الدولة العراقية، كيف نقيم دور الطبقة البرجوازية والطبقة المثقفة (الانتلجنتسيا) في العراق وتأثيرهما في الحياة السياسية، أو على أقل تقدير ما هو دور البرجوازي الصغير بالنسبة للتيارات والمذاهب السياسية الأخرى (العلمانية، الليبرالية، الإسلامية، الماركسية، الرأسمالية والاشتراكية). أما الطبقة المثقفة بصورة عامة (الانتلجنتسيا) فهي الطبقة التي نشأت في أواخر القرن الثامن عشر، في بولندا الروسية، خلال عصر التقسيم (1772-1795)، حيث صاغ المفكر البولندي (برونيسو ترينتوفسكي) مصطلح الانتلجنتسيا للدلالة على الطبقة الاجتماعية المتعلمة والنشطة مهنيا من البرجوازية الوطنية والتي يمكن أن يكون أفرادها قادة ثقافيين في بولندا، ثم تحت الحكم السلطوي للأوتوقراطية القيصرية الروسية، من أواخر القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن العشرين.
وإذا تفحصنا بدراسة تحليلية من منظور سيسيولوجيّ واجرينا مراجعة تاريخية لمسيرة ودور البرجوازية أو الطبقة المثقفة في العراق فسوف نجد أنها ظاهرة يتراوح نشاطها ما بين الاعتدال والحدة، لكنها لم تمارس حقها الطبيعي في المجتمع العراقي، ولم تستطيع هذه الطبقة أن تكون مكملة للكيان السياسي العراقي لعدة أسباب أبرزها، أولا، اتساق نظرية السلطة المطلقة في العراق ومضمونها الذي شهدته ثلاثة مراحل كانت كل منهما نتاجا حقيقيا لعصره وبيئته وهي (الدولة العسكرية، دولة نظام الحزب الواحد، دولة الخطاب الإسلامي)، لاسيما أن لكل مرحلة لها من المؤيدين والمناصرين الذين وطودوا سياسة الدولة وساقوا في تبرير السلطة المطلقة حججا وذرائع، تلك الحجج والذرائع التي باتت هي الغاية التي تبرر كل وسيلة وإن كانت مقيتة. السبب الثاني، هو الطابع المحلي لبرجوازيتنا وطبقتنا المثقفة العراقية التي صنعتهما ظروف المكان والزمان وسيكولوجية العقل والسلوك العراقي، مع إمكانية التقدم الأخلاقي والفكري نتاج العلاقات الاجتماعية. أن إشكالية مفهوم البرجوازية أو الطبقة المثقفة بالنسبة للدولة العراقية عكست سلوك وإدارة الدولة منذ تأسيسها، فنجد أن الدولة العراقية استندت إلى الشرعية الثورية من خلال الثورات والانقلابات تارة، واستندت إلى الشرعية الدينية تارة أخرى، وقد انعكس ذلك على العلاقة بين السلطة والطبقة البرجوازية والمثقفة، فبرزت أنواع مختلفة من الحكم لم يكن للبرجوازي أو المثقف العراقي دور فاعل ومؤثر في صناعة القرار السياسي، بل أنهم لم يكونوا أصلا ضمن حسابات السلطة في كل المراحل إلا ما ندر.
في الوقت نفسه من العسير أن نفصل بين القوى السياسية والاجتماعية والفكرية التي لعبت دورها في توجيه الحياة السياسية في العراق، لكن لا بد أن نميز قوة عن الأخرى، بالتالي فإنه من الناحية النظرية هناك اتجاه متنام لدى البرجوازية والطبقة المثقفة، هو اتجاه يسعى للرسوخ والانتشار للتأثير في المجتمع العراقي، بمعنى التركيز على فكرة عدم خروج النسق الاجتماعي والسياسي عن حالة التوازن. لكن من الناحية العملية عجزت البرجوازية والانتلجنتسيا عن القيام بدورها السياسي وتحقيق العدالة الاجتماعية والمحافظة على حالة التوزان المجتمعي. بلا شك كان هذا نتيجة لعدة أسباب أبرزها، مركزية الحاكم أو الزعيم العراقي، وهيمنة الأحزاب السياسية والمؤسسة العسكرية، والمراجع الدينية بمختلف اتجاهاتها، إضافة إلى مشكلة المناطقية وتسيد الروح القبلية والعشائرية منذ سقوط الملكية وتأسيس الجمهورية الأولى لحد الآن. من هنا فقد انعكست حصيلة هذه السياسة انعكاسا واضحا على ضعف البرجوازية والطبقة المثقفة، واحتفاظهما نظريا وعمليا بصفة المراقب فقط، في بيئة مهيأة لنشوب الثورات ومؤشرات العنف السياسيّ. عليه بقيت أغلب الطبقة البرجوازية المثقفة من الجماعات التي تعيش على هامش النظام والتي تخضع بصورة كاملة لآلياته، لكنها لم ولن تنخرط يوما في العنف، لأنها لا تؤمن مطلقا بهذا السلوك، وبعيدة جدا عن التطرف الفكري، بل تنبذ التطرف في الرأي وفي الفعل، فهي لا تمتلك القدرة على المواجهة أو المنافسة، كما كانت عليه المنافسة الدموية أو صراع الطبقات بين النبلاء والطبقة البرجوازية في أوروبا خلال عصر النهضة تحديدا. وبحسب الفيلسوف الألماني فريدرك إنجلز في كتابه (دور العنف في التاريخ) الذي استشهد في قضية العنف السياسيّ بالصراع الذي استغلّه (لويس بونابرت) في فرنسا، الذي كان بين البرجوازية والطبقة العاملة للوصول إلى رئاسة الجمهورية بمساعدة الفلاحين، وإلى العرش الإمبراطوريّ بمساعدة الجيش.
وإذا كان البرجوازيون والمثقفون العراقيون هم إفراز تاريخيّ منذ تأسيس عراق الانتداب 1922، نتج عن تعارض المصالح مع المؤسسة العسكرية ونظام الحزب الواحد والخطاب الإسلاموي، فإن هذا الفضاء الثوري كان من المفترض أن يقود إلى انفجار العنف. وبحسب كارل ماركس (أن الصراع هو محرك التاريخ، وأن تاريخ البشريّة لا يخلو من العنف، فلا وجود لمرحلة تاريخيّة من تاريخ المجتمعات البشريّة بدون عنف، بيد أن هذا العنف قد تولد أساساً من الصراع بين الطبقات، أي بين مَن يملكون وسائل الإنتاج والخيرات وبين من لا يملكونها، فالطبقات المُضطهدة تدافع عن حقوقها، والطبقات الحاكمة تحاول أن تحافظ على سيطرتها واستغلالها).
على ما تقدم ووفقا لماركس وفي ظل التجربة العراقية تُعد كل من البرجوازية والطبقة المثقفة من الطبقات المضطهدة سياسيا، لاسيما أن أغلب التيارات السياسية الأيديولوجية التي وجدت على الساحة السياسية العراقية بشكل متزامن، كان لها تعارضات فيما بينها، مع بروز بعض القوى السياسية بتوجهات متنوعة على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني، ونتيجة لهذا التنوع الفكري والإيديولوجي كان سببا في اندلاع صراعات سياسية على مدار تاريخ العراق بين المجموعات والأحزاب المتعددة من جهة وبين الجيش، ونظام الحزب الواحد، وكذلك القوى الإسلامية من جهة أخرى. من ثم تحولت هذه المواجهات إلى صدامات دموية غلبت عليها عمليات الاغتيال والتصفية الجسدية لعدد من أبناء الطبقة المثقفة وكذلك بعض الرموز الدينية وقيادات المؤسسة العسكرية في كل المراحل. وبعد أن سجلت كل تلك القوى (العسكرية والحزبية والإسلامية) تفوقها على البرجوازية والطبقة المثقفة، وما يزال الخطاب الإسلامي يسجل تفوقه في فضاء العراق الاجتماعي والسياسي، وهو الخطاب الذي انطلق من فضاء ثوري، أصبح مفهوم اليسار واليمين والطبقة المثقفة لا قيمة له، لأنها في الواقع تيارات منفصلة عن الأرضية الماركسية والليبرالية والبرجوازية، وأنما تستخدم فقط للتفريق بينها وبين الجماعات (الإسلامية والحزبية والعسكرية).
وتأسيسا لما تقدم فإن الدراسة التحليلية المتواضعة لعمل ودور البرجوازية المثقفة ونشاطها السياسي والاجتماعي بصورة عامة خلال أكثر من ستة عقود في العراق تكشف: أولا، بعدها عن قيادة المجتمع المدني قسرا، بل أنها أصبحت عبئا على العمل السياسي بعد انضواء قسم كبير منها وليس الجميع تحت تنظيمات سياسية حاكمة ربما البعض للحفاظ على حياته. ثانيا، بلا شك هنالك رموز وعناوين عراقية كبيرة ومهمة في هذه الطبقة إلا ان كل محاولاتهم الإصلاحية تنتهي دوما بالفشل، ذلك لوجود خط سياسي واجتماعي لا يرغب في وجود طبقة مثقفة في هذه الدولة مما يصعب التعامل المستقبلي معها وخصوصا في جانب التبعية السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية. ثالثا، غياب المرجعية الفكرية الناظمة لهذه الطبقة بعد مطاردة وتهجير أغلب النخب. رابعا، سيادة المستوى الأيديولوجي وشعاراته المثالية لدى فئة معينة من هذه الطبقة، تلك الشعارات التي تجانب الحياة الواقعية.