على الرغم من الأهمية التاريخية والقيمة الثقافية التي أسبغت على شارع المتنبي من لدن شريحة الانتللجنسيا العراقية ، على امتداد فترات زمنية متفاوتة ، وبحسب عوامل المد والجزر التي ألمت بالمجتمع العراقي ، بيد انه لم يحظى بهذا الاهتمام المتزايد والتوقير المتعاظم ، إلاّ بعد منعطف سقوط الدولة وانهيار النظام ، وما تلاه من زلازل سياسية وانهيارات اجتماعية مروعة ، لاسيما اثر حادثة التفجير الإجرامي الذي راح ضحيته العشرات من الناس الأبرياء واندثار نظير هذا العدد من المكتبات العامرة بنفائس الكتب والدوريات في الخامس من آذار / مارس 2007 . والحقيقة إن أغلب الذي كتب حول شارع المتنبي – إن لم يكن معظمه – كان بوازع من تعلق العراقيين بالتاريخ وتوقهم للتماهي بسيرورته والاندغام بمعطياته ، مع افتقار يكاد يكون شبه تام للمنظور الجغرافي / المكاني الذي يحتله هذا الشارع من وجهة نظر الخارطة السوسيولوجية وتضاريسها السيكولوجية في بنية الوعي الفردي والاجتماعي على حدّ سواء . ذلك لأن الظن يذهب بالكاتب المعني إلى الاعتقاد بأن استحضار الجانب التاريخي / الزمني للمجتمع العراقي ، والتأكيد على هواجس تواصله ومظاهر تفاعله ، قمين بإزالة شعور الضياع النفسي وإزاحة عبء الاغتراب الاجتماعي ، لاسيما وأن الظاهرة الغالبة على مختلف شرائح الشعب العراقي بوجه عام ، كونه شغوف بأحداث التاريخ وعزوف عن وقائع الجغرافيا . لا بالمعنى الذي يوحي بأنه بلغ مرحلة / عتبة الوعي بقيمة الأول كفاعلية اجتماعية متمرحلة على وفق تسلسل كرونولوجي متعاقب المراحل ومتواصل الأحقاب ومتفاعل المعطيات – بصرف النظر عما يقع ضمن دائرته من انعطافات حادة وانزياحات مفاجئة وارتدادات مباغتة وانقطاعات جذرية – كما إن عزوفه عن الثانية لم يتأتى بواقع تخطيه نزعة الأنا العصبوي (الفرعي/الجزئي) ، وتجاوزه رغبة الانشداد نحو أصوله الجهوية / المناطقية ، على خلفية اجتيافه قيم المواطنة وإدراكه لمعاني الإقليم الوطني (المكان التاريخي) كما يطيب لي لأن أسميه . وهو الأمر الذي يجد تفسيره – كما أعتقد – في تواتر حالات التقطع في سيرورة التاريخ السياسي والاجتماعي ، وتكرار مشاهد التخلع في صيرورة المكان التاريخي والرمزي ، نتيجة للمسارات العنيفة التي قدر للعراقيين أن يلجوها مكرهين تارة وراغبين تارة أخرى ، على امتداد فترات تكوينهم الحضاري وتعاطيهم الإنساني . وهكذا فقد ضاع الكثير من ملامح الجغرافية الاجتماعية والثقافية التي كانت لمحلات بغداد وأزقتها وحاراتها على نحو خاص ، ومدن وقرى وقصبات العراق على وجه العموم ، والتي كان يمكن فيما لو أحسن التعامل معها أن تنمي عناصر الوعي الاجتماعي وتعمق مشاعر الولاء الوطني ، وتجنبنا ، بالتالي ، الكثير من الويلات والمآسي . ذلك لأنه كيفما نظرنا إلى فعل تحقق التاريخ ؛ سواء عن طريق تراكم الأحداث وتنضيد الوقائع التي لا نعدم أن نمتلك عنها مسارد وفيرة ، أو بفضل الوثائق الرسمية والنصوص السردية التي تركتها لنا الأجيال السالفة ، أو بواسطة الفعل الاجتماعي المنوط به بلوغ غاية حضارية سامية أو تحقيق قصدية إنسانية نبيلة ، فان الضرورة تقتضي أن تكون الجغرافيا بمختلف تضاريسها وتنوع فضاءاتها حاضرة حين يذكر التاريخ وفاعلة حين تفسر أحداثه وتحلل وقائعه . إذ إن إهمالها أو تجاهلها قمين بأن يفضي في خيارنا الأول إلى مخيال أسطوري ، وفي خيارنا الثاني إلى ذاكرة تلفيقية ، وفي خيارنا الثالث إلى ايديولوجيا طوبائية . وخلافا”للعديد من الباحثين والأكاديميين الذين يتوفرون على شروط البحث العلمي وآليات الاستقصاء المنهجي ، فقد أدرك صاحب مقهى الشابندر (الحاج محمد الخشالي) بحسه التاريخي العفوي أهمية المعطى / العامل الجغرافي في ترسيم حدود الخارطة السوسيولوجية وتوضيح معالم تضاريسها الانثروبولوجية ، حين عمد إلى توصيف الفضاءات وتصنيف الأمكنة التي كان شارع المتنبي مسرحا”لها إبان العهود السابقة . ليس فقط من خلال زجه للفائض التاريخي الذي بات يتمتع به الشارع المذكور ، باعتبار كونه الشاهد والمشهود عليه فيما وقع من أحداث وما جرى من وقائع فحسب ، بل – وهو الأهم – عبر الاشتغال ، بذكاء ، على توظيف القيمة الرمزية للمكان / الشارع ، مع إصرار محسوب على تصعيد وتائر التحفيز السيكولوجي لأرشيف الذاكرة الجمعية التي طغت عليها عمليات الاختزال للحدث والابتسار للمعلومة . مستهدفا”بذلك إقصاء نزعة اللااكتراث فيه من جهة ، وإذكاء مشاعر الحمية عليه من جهة أخرى . وكعينة على ذلك ؛ هاكم ما كتبه في الكراسة التي أعدها بالتعاون مع بعض عشاق ومحبي شارع المتنبي ، لتوثيق فاجعة التفجير الإرهابي الذي أشرنا إليه في البداية حيث يقول ((إن لشارع المتنبي جذورا”جغرافية قديمة ترجع إلى زمن العباسيين ، حيث إن بيوتات بغداد كانت صغيرة المساحة ومتلاصقة ، وأكثر ما فيها أنها أزقة خاصة غير نافذة . وهناك طريق نافذ يدعى بدرب (زاجي) مبتدأ من مقبرة الفيل التي هي الآن ساحة الخلاني مارا”في محلات بغداد وشارع المتنبي إلى مشرعة القطانيين ، وهي الآن القشلة . وعلى هذا كان يسمى شارع المتنبي بدرب زاجي)) . ولكي يعزز القيمة الرمزية للشارع / المكان ، ويضاعف من رصيده في بنية الذاكرة الجماعية ، فقد شرع بتقديم جردة تاريخية مقتضبة لجغرافية الشارع من حيث عوامل النشأة وظروف التكوين ، مضيفا”إليها أشكال الانزياحات التي طرأت على الفضاءات المعتبرة امتداد له نحو الخارج ومسارب إليه صوب الداخل ، دون أن يهمل الإشارة إلى الأسماء التي أسبغت عليه والدلالات أو المضامين التي كانت تعبر عنها ، ابتداء بالعصر البويهي ومن ثم السلجوقي وما تلاهما من عصور وأحقاب لحد الآن . واللافت في هذا المجال إن (مؤرخ شارع المتنبي) لم يكتفي بتقديم ذلك المسرد الجغرافي والدلالي الذي حظي به شارع المتنبي ، بل وأضاف إليه خارطة (طبقية) لتوزيع الشرائح الاجتماعية التي كانت تتواصل فيه ومن خلاله ، مشيرا”إلى أنواع المهن وطبيعة الأعمال التي كانت تزاولها ، فضلا”عن الأصول الاجتماعية التي انحدرت منها والمنابت القومية والدينية التي انتسبت إليها ، مشكلا”بذلك من شارع المتنبي لوحة بانورامية حضارية وان بدت مجتزئة ومفككة إلاّ أنها جمعت داخل إطارها مجمل أطياف المجتمع العراقي ومكوناته ، على خلفية أواصر الألفة في الزمان وروابط التعايش في المكان . ولأجل أن يستعيد شارع المتنبي ألقه التاريخي في أرشيف الذاكرة ، ويتبوأ مكانته الثقافية في منظومة الوعي فانه من الضرورة بمكان ليس فقط التأكيد على أهمية أن يحاط بالرعاية ويحظى بالاهتمام من لدن مؤسسات المجتمع السياسي ونظيره الأهلي كافة ، فضلا”عن شريحة المثقفين المعني الأول والمباشر باستمرار بقائه وازدهار عطائه وانتشار صيته فحسب ، وإنما أن يصار إلى إعادة كتابة تاريخه ليس وفقا”لمنظور (المقاطع العرضية) التي عادة ما تركز على تجزأة سيرورته التكاملية إلى فترات زمنية منتزعة من سياقها الاجتماعي والحضاري والثقافي ، ولكن بتبني منظور (المقاطع الطولية) – على غرار علماء الجيولوجيا والآثار والمستحثات – التي لا تستهدف فقط إماطة اللثام عن أصول الظواهر والحوادث وإزاحة النقاب عن مستويات تداخلها وأنماط تفاعلها وشبكات تواصلها فحسب ، وإنما بموضعتها (=الظواهر) في إطارها الجغرافي وحيزها المكاني الذي بتأثير دوره وفاعلية إسهامه تغدو بما هي عليه وتؤول إلى ما سوف تكونه .