منذ صدور نتائج الانتخابات التي جرت في شهر أكتوبر الماضي لم تتوقف الأحزاب الخاسرة التي أطلقت على نفسها فيما بعد تسمية الإطار التنسيقي عن وضع العصي في دورة استكمال الانتخابات من تسمية رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وتشكيل الحكومة. عقب صدور النتائج دفعت ميليشيات الإطار بضعه عشرات من أتباعها للتظاهر امام المنطقة الخضراء وخلقت مواجهه مع قوات الامن بحجة تزوير الانتخابات لكن سرعان ما باءت هذه العملية بالفشل. وبدل قبول نتائج اقتراع الصناديق، حاولت هذه الأحزاب بطرق متعددة تعطيل وتأخير تشكيل حكومة “الأغلبية الفائزة ” ولم تنجح في فرض مشاركتها “بحكومة توافقية” كما كان يتم العمل به سابقا بترتيبات امريكية إيرانية لأنها اصطدمت برفض زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الذي أصر على تشكيل حكومة اغلبية من الفائزين في الانتخابات ورفض قبول عدوه رئيس الوزراء السابق نوري المالكي في التشكيل الحكومي.
وحينما فشلت محاولات الإطار عن ثني التيار الصدري عن قراره، بدأت المحكمة الدستورية العليا وبتجاوز صلاحياتها ووظيفتها القانونية بالتدخل سياسيا لصالح طرف ضد آخر وبنفس طرق بعض السياسيين الذين يصرحون بامتلاكهم لملفات ضد بعضهم البعض يلوح بها للضغط في الوقت المناسب.
ورغم ان الدستور صريح وواضح في تسمية الفائز في الانتخابات لتشكيل الحكومة وفي العدد اللازم لجلسة النصاب الكامل لجلسة انتخاب الرئيس الا ان المحكمة الاتحادية العليا أصدرت قرارا خطيرا أشترط أغلبية الثلثين في حين ان الدستور يحسم في مواده مسألة النصاب وفق المادة 59 والذي ينص على تحقق نصاب انعقاد جلسات مجلس النواب بحضور الأغلبية المطلقة لعدد أعضائه وهي النصف زائد واحد اي 165. ليس ذلك فحسب بل ان المحكمة قد اغتنمت الفراغ السياسي هذا لتنقض قانون النفط والغاز في إقليم كردستان وهو القانون المعمول به في العراق منذ تشريعه عام 2007، لتستخدمه كوسيلة ضغط على الحزب الديمقراطي الكردستاني حليف التيار الصدري والطرف المهم في مشروع الأغلبية الفائزة الذي حاول الإطار التنسيقي والمالكي بالذات إقناعه بالالتحاق به لكن دون جدوى. بل ان رئيس المحكمة وفي “اجتهاد” غريب على قاض في مثل هذا المنصب الحساس والمؤتمن على تنفيذ دستور البلاد واحترام تنفيذه واحترام للديمقراطية المدعاة، اقترح الغاء تصويت البرلمان على حل البرلمان بعد موافقة حله من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء بحجة الموازنة بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، وهذا الالغاء هو بمثابة صمام أمان ديمقراطي يمنع التفرد بالقرار. الا يعرف قاض بهذا المنصب ان هذه المهمة هي من اختصاص البرلمان وليس من اختصاصه؟ كيف ولماذا يقوم بطرح مثل هذا المقترح ولصالح من يرسل مثل هذه الرسالة؟ اما موقف المحكمة من حكومة تصريف الاعمال فهو أيضا موقف متغير له علاقة بالهوى السياسي وليس بالقانون اذ ان الموقف من حكومة تصريف الاعمال لرئيس الوزراء عادل عبد المهدي اختلف عن الموقف من حكومة مصطفى الكاظمي، فلم يبدر من المحكمة أي بيان في تحديد صلاحية حكومة الأول بينما تطرح منشورا بمحدودية صلاحية الثاني لتنذره بعدم اتخاذ قرارات ليست من صلاحيته. وفي ذات السياق تم إيقاف التصويت على قانون الامن الغذائي الذي خصصت له مبالغ طائلة لسد حاجات ومساعدة العراقيين ذوو الدخل المحدود!
في كل انتخابات ورغم وضوح الدستور في تكليف الفائز في الانتخابات الا ان أتباع الولي الفقيه يتلاعبون بالكلمات والتفسير فمرة يقولون ان الكتلة الفائزة هي التي تتشكل في الجلسة الأولى ثم قالوا انها الكتلة التي تتشكل بعد الجلسة الأولى ومرة أخرى قالوا ان من يشكل الحكومة هي الكتلة الأكثر عددا. ان المحكمة الدستورية وبدل من ان تكون الفيصل وهي من تنفذ مواد الدستور الا انها كانت منذ البداية ظهيرا لطرف على حساب الطرف الاخر الفائز غالبا في الانتخابات. وما مساهمة المحكمة في دعم الإطار التنسيقي ضد التيار الصدري الا قرار سياسي لإعاقة تشيكل الحكومة وإقرار ميزانية الدولة وتسيير أمور البلاد والعباد الذين ينتظرون منذ سبعة شهور. اما الاغرب في مواقف المحكمة الدستورية هو استقبال رئيس المحكمة لسفير إيران الجديد في سابقة من دون سفير أي دولة أخرى بضمنها سفير الولايات المتحدة بما لا يتوافق مع وظيفته ولا استقلالية القضاء! اليس استقبال سفير دولة هو موقف سياسي؟ ماذا يفعل سفير دولة اجنبية في اعلى مؤسسة حكومية قضائية ولماذا يزورها؟ هل تسمح حكومة السفير هذا بزيارة سفير العراق لرئيس المحكمة العليا في بلده او حتى زيارة أي مسؤول آخر؟ الجواب هو كلا ومن المستحيل لسبب بسيط هو ان إيران بلد ذو سيادة لا يملكها العراق.
رغم المواقف المعروفة سابقا للمحكمة الدستورية العليا ورئيسها السابق المنحازة لنوري المالكي في إيجاد “تفسير” لبعض بنود الدستور بما يخدم فوزه في الانتخابات، فقد بقيت بمنأى عن اتهامات الشعب العراقي بالمقارنة مع تهشيم صورة الأحزاب السياسية والبرلمان ; لكنها اليوم وبهذه المواقف السياسية المنحازة والمتناقضة مع استقلالية القضاء تنزلق بشكل صارخ الى تسيس القضاء والى التحول من سلطة قانونية أسست لاحترام الدستور وتنفيذه الى منبر تابع للسياسيين يستخدم نفس وسائلهم في الابتزاز وطرح ملفات والوقوف مع طرف ضد آخر وفقا للهوى الطائفي والمغانم والمصالح الشخصية التي تزيد من معاناة الشعب العراقي وتزيد أوضاعه الكارثية.
مع تسيس أعلى هيئة قضائية وانحيازها العلني امام الشعب العراقي تسقط آخر أصرحه العملية السياسية المتآكلة التي فصلها الاحتلال الأمريكي الإيراني والواجهة “للديمقراطية” الكسيحة والمتمترسة وراء جدران الخضراء التي جاء بها غزو العراق وفرضها على الشعب العراقي.