23 نوفمبر، 2024 6:05 ص
Search
Close this search box.

على الحاضر

وأنا ضيف في بيت أحد الأصدقاء في مدينة قونيا التركية، جذب انتباهي الواح خلايا الطاقة الشمسية والخزانات التي تسخن الماء اعتماداً على ضوء الشمس وهي موضوعة على اسقف العمارات السكنية. المنظر المنتشر هذا في عموم المدينة غير مألوف لي بالطبع، فالبلد الذي أعيش فيه لا يملك هكذا تقنيات.
سألت صديقي عن الأمر حتى أخبرني أن الناس هنا تسخن الماء باستغلال أشعة الشمس من خلال هذه السخانات الخاصة. الأمر الذي جذب انتباهي ودفعني إلى معرفة المزيد. فنحن في الشتاء نتحسر على الماء الحار للاستحمام بسبب فقداننا للطاقة الكهربائية. بعد المزيد من السؤال قال لي هذا الصديق أن هذه السخانات تفيد بلدك وانتم تفتقدون إلى الطاقة الكهربائية. عشعشت الفكرة في مخيلتي وبعد النقاشات حول الموضوع اقترح عليّ شراء هذه السخانات ونصبها في كركوك. ليس هذا فحسب بل استيرادها بأعداد كبيرة وبيعها وإنقاذ الناس من مشكلة السخانات الكهربائية ومن ثم توفير الكهرباء.
بالإضافة إلى كونه طوق نجاة لنا نحن العراقيون للخلاص من مشكلة الكهرباء، فهو أمر تجاري أيضاً من الممكن الاستفادة منها مادياً. طالبته بالذهاب إلى المعامل التي تصنع هذه السخانات وكان لنا ذلك. في يوم ربيعي من شهر نيسان من عام 2010 اقتادني هذا الصديق إلى الحي الصناعي في مدينة قونيا حيث المعامل الكبيرة والواسعة. دخلنا أحد المعامل التي تختص بخلايا الطاقة الشمسية وكان المعمل على مساحة كبيرة جدا تبلغ 5 دونمات على أقل تقدير. من استعلامات المعمل إلى السكرتارية ومن ثم اللقاء مع رئيس الهيئة الإدارية لهذا المعمل الكبير. تحدث صديقي وشرح له الفكرة وسبب قدومنا. رحب السيد المدير بنا ترحيبا حاراً وبعد الحديث معي اقترح علينا أن نتجول بصحبته في أروقة هذا المعل.
خرجنا معاً ودخلنا الورشات والصالات وهو يقدم لنا شرحاً شافياً عن مهمة كل قسم. ونحن ننصت إليه ونسأله بين الحين والأخر شاهدت سيارات كبيرة تحمل سخانات الماء والواح الطاقة الشمسة. عدد كبير من الشاحنات التي تخرج من المعمل وهي محملة بمنتوج هذه الشركة دفعني إلى التفكير. أي مكان في العالم يا ترى ليس لديهم كهرباء وهم يقومون بشراء هذه الألواح والخزانات التي تستمد قوتها من الشمس؟.
وجهت السؤال إلى السيد مدير الشركة الذي ابتسم شيئا ثم قال:
– دول كثيرة تعتمد على الطاقة الشمسية ليس لعدم وجود الكهرباء، بل بسبب غلاء أسعارها لديهم. مثل المانيا وأذربيجان الدولتان اللتان تعانيان من ارتفاع أسعار الكهرباء لديها.
بعد التجوال والاطلاع على سخانات الماء التي تتراوح أحجامها حتى تبلغ حجم خزاناتها 300 لتر. رغم برودة الجو والشمس الضعيفة إلى أن هذه السخانات كانت قد جعلت حرارة الماء فوق درجة الغليان. فأحد المقاييس كانت تشير إلى 120 درجة مئوية ما دفعني لأسال السيد مدير الشركة عن صحة هذه القراءة. ضحك السيد المدير وقال لي افتح الحنفية المربوطة بالخزان هذا ولنشاهد فيما إذا كان الماء بتلك الدرجة أم لا. سارعت إلى فتح الصنبور وإذا به ينزل الماء الساخن الذي ينبعث منه البخار بكثافة. عندها هز السيد مدير الشركة رأسه متفاخراً بمنتوج شركته وقد أجاب على تساؤلي عملياً.
رجعنا إلى مكتب الشركة وقد استدعى السيد المدير المهندسين والفنيين للحضور. بعد حضورهم جلبنا السيد المدير إلى غرفة كانت مخصصة للاجتماعات. طاولة طويلة أجلسني المدير على رأس الطاولة وهو في الطرف المقابل مني. على يميني كان قد جلس مهندسين اثنين وعلى يساري مهندس واحد وفنيين أثنين.
بعد أن قدمني المدير للسادة المهندسين شرح لهم سبب زيارتي وكذلك دواعي استدعائهم إلى هذا الاجتماع. بعد أن علم المهندسون بانني أريد التعامل معهم وشراء هذه السخانات ونقلها إلى العراق، بدأوا بتوجيه الأسئلة لي.
سؤال: هل في بلدكم تشرق الشمس بشكل جيد؟
جواب: الشمس تشرق عندنا طوال النهار وعلى مدار السنة.
سؤال: كم شهر يكون لديكم أمطار ثلجية؟
جواب: ليس لدينا حتى أمطار لا ثلجية ولا غير ثلجية إلاّ ما ندر.
سؤال: هل أسعار الكهرباء لديكم باهظة؟
جواب: ليست باهظة للغاية ولكنها منقطعة على الدوام تقريباً.
سؤال: هل يوجد في بلدكم وحدات توليد الطاقة الكهربائية اعتماداً على الخلايا الشمسية.
جواب: لا ونحن لا نعرف شيئاً عن الخلايا الشمسية.
سؤال: هل لديكم اسطح تستوعب هذه الخانات؟
جواب: نعم ان بيوتنا مستقلة وليست شقق في عمارات سكنية كما هو لديكم.
أمام المهندسين دفاتر يسجلون فيه كل كلمة أتفوه بها. وأنا أتحدت أجدهم يكتبون بجدية بالغة. هم يحاولون تجميع المعلومات لتهيئة جهاز بمواصفات تناسب العراق وعلى هذا الأساس يسألون ويحاولون ويدونون أجوبتي لتدارسها.
بعد ساعة من هذه الجلسة طلب مني المدير النزول إلى مطعم المعمل لتناول وجبة الغذاء معهم وكان لي ذلك. في المطعم أشاهد المهندسين يتحدثون فيما بينهم ويتطلعون على أجوبتي التي دونوها. أشاهدهم وكأنهم يناقشون شيئاً سرياً لا يريدون اطلاعي عليه.
انتهت فترة الغذاء ثم صعدنا إلى الطابق العلوي حيث غرفة المدير. ونحن نشرب الشاي وأنا انتظر رأيهم في الأمر قال لي السيد المدير:
– يا سيد محمد.. لا أريد أن أخفي عليك فان أجوبتك لأسئلة السادة المهندسين والفنيين كانت متناقضة.
– متناقضة؟! كيف؟!
– قلت أن الشمس في العراق متوفرة على مدار السنة.
– نعم بالتأكيد
– ثم قلت أن الكهرباء ومنذ أكثر من 25 عشرين عاماً شبه مقطوعة ونحن لا نتمكن من تسخين الماء.
– نعم بالتأكيد
– ثم قلت أن هذه الأجهزة غير متعارف عليها لدينا.
– نعم وهو كذلك.
– وتقول كذلك ان بيوتنا مستقلة وواسعة الاسطح.
– بدون شك
– – يا سيد محمد.. إذا كان بلدكم يفتقر إلى الكهرباء.. وإذا كانت الشمس متوفرة عندكم.. وان بيوتكم مستقلة واسطحها واسعة، كيف نصدق بأن هذه الأجهزة لم تدخل إلى العراق لغاية اليوم؟
الآن تمكنت من تفسير حركة المهندسين ونقاشاتهم بصوت منخفض في مطعم هذه الشركة؟ الآن أدركت لماذا تمكنت من تعليل نظراتهم الغريبة.
سكت ولم أجب السيد المدير فهو محق. فالحقيقة والواقع المتضارب في بلدي عبارة عن جملة تناقضات. نحن نسخن الماء في المطاعم بتشغيل مولدات كبيرة تستهلك المحروقات بكميات كبيرة. نحن لا نجد الماء للوضوء في المساجد والمدارس وللاستحمام في البيوت. نحن لدينا الكثير من أشعة الشمس التي تصهر حتى الحديد وصيفنا وشتائنا مشمس. كل هذه الطاقة المتاحة لنا ونحن لا نستعين بالشمس لتوليد الطاقة النظيفة.
ملخص الأمر إننا شعب اتكالي ننتظر تشكيل حكومة تحقق لنا كل أحلامنا وتوفر لنا العيش الرغيد. لكن هيهات لنا ذلك وسوف نبقى نعاني الأمرين وسنبقى على عهدنا ننتظر إلى أن يشاء الله.

أحدث المقالات

أحدث المقالات