قبل قراءة المشهد العام او المشهد السياسي في العراق لابد من الإشارة بداية الى بعض الخصائص العامة التي ، بمجموعها ، تميز العراق عن باقي دول العالم جميعاً. لأن مثل هذه الخصائص هي التي تؤطر وتحكم المشهد العام والمشهد السياسي خصوصاً.
مرّ العراق منذ تأسيسه بعدة مراحل متباينة أثرت وصقلت مكونات المجتمع بصيغ مختلفة. فمن حقبة نظام ألحكم الملكي الذي دام حوالي ٣٨ سنة ، وهو نظام دستوري برلماني ، الى حقبة نظم الإنقلابات العسكرية منذ عام ١٩٥٨ والتي دامت حوالي ١٠ سنوات ، ثمن حقبة نظام الحزب الواحد والذي دام حوالي ٣٥ سنة ، وهو نظام ديكتاتوري ، لينتهي بعد عام ٢٠٠٣ الى ما يسمى بحقبة النظام الديموقراطي وهي الحقبة المهمة والمصيرية في تاريخ العراق الحديث التي سترسم معالم مستقبل العراق لعقود عديدة قادمة.
إن الأسس والمبادئ العامة ، أي فلسفة الحكم ، تختلف بإختلاف طبيعة تلك النظم والتي في ضوءها تُنَظم الحياة الإجتماعية والإقتصادية للبلد. وبذلك تتحدد المبادئ والقيم والسلوكيات الأساسية للمجتمع وكذلك تتحدد وسائل ونظم وأهداف التنمية الإقتصادية. ونظراً لكون غالبية المجتمع العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية كان مجتمع بدوي عشائري التكوين وتطغي العادات والتقاليد والأعراف السائدة في تنظيمه حاولت السلطة السياسية بناء الدولة على أساس مؤسسي ومحاولة إرساء معالم الدولة المدنية المواكبة للتحضر والتقدم. في حين رسخت حقبة الإنقلابات العسكرية تشجيع العشائر وبقية مكونات المجتمع للإنخراط في المؤسسة العسكرية وعسكرة المجتمع .أما خلال حقبة نظام الحزب الواحد فقد تم ترويض العشائر وزجها في فلك أهداف الحزب وتلاشى تدريجياً موقع وتأثير النظم العشائرية في المجتمع وأصبحت العشائر بالأعم تحت سيطرة النظام الحاكم وتأتمر بأمره. أما بعد عام ٢٠٠٣ وبسبب طبيعة النظام الحاكم عادت النظم العشائرية الى الواجهة وتسارع تأثيرها في المجتمع بشكل واضح ومعقد أيضاً.
إن الحركة الديناميكية لأي مجتمع والتغيرات التي تطرأ عليه تتأتى من خلال زيادة عدد السكان من ناحية وكيفية بناء الأجيال المتعاقبة من ناحية أخرى. فزيادة السكان ظاهرة مشتركة في كل المجتمعات وبمستويات مختلفة ، إلا إن الفرق بين المجتمعات كافة هو في كيفية بناء الأجيال المتعاقبة ، وهو الأساس في بناء ودفع المجتمع نحو التقدم والتحضر والإنتماء الحقيقي والمسؤلية الحقيقية والمستقبل الواعد أو دفع المجتمع نحو التراجع والتخلف وانعدام الشعور بالمسؤولية وفقدان الثقة بالمستقبل. وتباينت الكيفية في بناء المجتمع العراقي حسب الحقب الزمنية التي مرّ بها العراق ، ولكن المهم إن بناء أي جيل جديد قد يستغرق مابين ١٠ ال ١٨ سنة. وهنا تكمن الخطورة في حالة عدم وجود نظام سياسي سليم وواضح وناضج وكفوء يؤمن ببناء الأجيال المتعاقبة بالشكل الذي تستطيع الدولة تأمين مستقبل واعد ودائم يؤمن الحياة الكريمة لكافة أبناء المجتمع.
وبما ان الفترة التي تهمنا هنا لقراءة المشهد العراقي هي التي بدأت منذ عام ٢٠٠٣ ولحد الآن ، أي ما يقارب ١٩ سنة ، والتي يبنى من خلالها جيلين من اليافعين ، فإن أهم الخصائص التي تميّز العراق عن معظم باقي دول العالم هي الآتي:
١- ان نظام الحكم في العراق ، شكلياً ، وبموجب الدستور هو نظام ديمقراطي فيدرالي . فالدستور هو دستور هجيني حيث يؤكد الدستور على تطبيق أسس وثوابت النظام الديموقراطي وفي نفس الوقت يؤكد على عدم تعارضه مع ثوابت الدين الإسلامي علماً بأن مبادئ كافة الأديان تخالف ثوابت الديموقراطية بشكل واضح ، على سبيل المثال الإنتخابات في النظم الديموقراطية هو نظام الأكثرية والمعارضة ولا تعني المبايعة أو المراجع الدينية في الدين الإسلامي. وينسحب ذلك على القوانين والتشريعات الوضعية وفي مقدمتها قانون الأحوال الشخصية.
٢- العراق ، في الواقع ، ليس بلد مؤسسات أبداً وإنما بلد زعامات ومقدسات ومرجعيات وقامات وسماحات وشخوص . فالقرارات عموماً تخضع لمزاجات تلك المفردات دون مراعاة القوانين والتشريعات المدنية . وبذلك فإن الموارد والإمكانات الكبيرة في العراق ليست موزعة بعدالة بين أبناء المجتمع وإنما مقسمة بين تلك الزعامات فقط والتي تجود أحياناً بجزء يسير منها على أتباعها .
٣- معظم الزعامات والقامات والسماحات عبارة عن أفراد غير مؤهلة أساساً لإدارة بلد كالعراق، فمعظمهم لا يحمل من التعليم والثقافة والتحضر والخبرة ما يؤهله لإدارة شؤون البلد، الغالبية منهم لهم خلفية دينية لا يتعدى إدراكهم المسائل الغيبية وبعض المسائل السطحية في الشؤون الشخصية. إلا انه بمحدودية ثقافتهم وإدراكهم يجيدون أهمية التنظيمات والمجاميع المسلحة ودورها وتأثيرها في التحكم بشؤون الآخرين. لذلك أنشأوا مجاميع ومليشيات مسلحة للتحكم بمفاصل الدولة وتحييد المؤسسات الفعلية، اضافة الى استخدام المليشيات المسلحة في فرض أجنداتها .
٤- سيطرة معظم هذه الزعامات والشخوص على مقدرات وموارد البلد دون أي رقابة أو حساب، وبذلك هدرت معظم موارد الدولة وتوزعت بين كيانات هذه الزعامات.
٥- بالرغم من اجراء الانتخابات ( الشكلية ) ووجود رابحين وخاسرين ، إلا إن إسلوب التوافق في تشكيل الحكومة هو السائد في نظام الحكم والذي بموجبه لا يمكن محاسبة المسبب للنكبات الإقتصادية والإجتماعية في البلد.
والآن ، أمام كل هذه المعطيات ، هل يصعب تحليل المشهد في العراق؟ الأمر واضح وضوح الشمس ، إنه لا مستقبل واضح للعراق بوجود هذه الشلة المتخلفة والمسيطرة على مقدرات العراق بمليشياتهم وعصاباتها المسلحة ( تحت أي مسمى كانت ) ، وان الأمر للتغيير سيتطلب فترة زمنية طويلة لأن هذه الشلة خلقت أجيال متخلفة مثلها لتأخذ على عاتقها استمرار تلك المسيرة المتخلفة في إدارة الدولة. وسوف تعجز بعض القوى الوطنية ولفترات زمنية طويلة نسبياً من إجراء أي تغيير حقيقي في المشهد العراقي أمام الجموع المتخلفة التي نشأت بمفهوم السلاح والسيطرة على مقدرات البلد ما لم تقوم تلك القوى الوطنية بمواجهة تلك الجموع المتخلفة بنفس الوسيلة ، أي إنتفاضة تشريعية ثانية مسالمة تسندها وتدعمها قوى وطنية مسلحة تدافع عنها في حالة تعرضها للقمع والترهيب والإغتيالات من قبل المجاميع المتخلفة المسلحة ، فهي ليست حرب أهلية بقدر ما هي معاقبة ومحاسبة تلك المجاميع المسلحة ورموزها المتخلفة، وليس من حل آخر لإنقاذ العراق والزمن كفيل بإثبات ما نقول.