من الناحية الواقعية فإن معدلات العنف والجريمة في دول الشمال الغني مرتفعة حقاً مُقَارَبَةً من الناحية الأخلاقية التي تنظر إلى وحشية ممارسة العنف كوسيلة للتواصل الاجتماعي السلبي، ولكن من الناحية الإحصائية الواقعية والملموسة فإن معدلات الجريمة والعنف في تناقص مستمر منذ خمسينيات القرن المنصرم في عموم دول العالم الصناعي المتقدم عن مستوياتها المنفلتة من كل عقال آنذاك، وقد يعود السبب في تناقص معدلات الجريمة إلى زيادة معدل التعليم عموماً في المجتمعات المتقدمة بشكل يجعلها بشكل أو بآخر أكثر تحضراً من الناحية المعرفية كحد أدنى.
وعلى المقلب الآخر فإن معدلات العنف والجريمة في المجتمعات الغربية لا تزال مرتفعة مقارنة بمجتمعات تقع في مناطق جغرافية أخرى لأسباب أخرى لصيقة بحالة التردي المستمر للنسيج الاجتماعي لتلك المجتمعات الصناعية المتقدمة في مرحلة الرأسمالية الوحشية المعولمة، والتي يدعوها البعض الليبرالية المستحدثة، والتي تنظر إلى المجتمع كغابة لا بقاء فيها إلا للأقوياء، ولا مكان فيها «للفئات المستضعفة» التي لا تستطيع اجتراح بقائها بالقوة في خضم تلك الغابة الوحشية؛ وهي حالة من التردي تمثلت في سقوط فئات واسعة من الطبقات العاملة سابقاً، وشرائح واسعة من الطبقات الوسطى إلى قعر الفاقة وحتى الجوع الحقيقي في غير دولة من دول الشمال الغني خلال العقود الأخيرة القليلة، منذ تصعد الليبرالية المستحدثة في ثمانينيات القرن المنصرم، والتي قد يكون مثالها الأكثر وضوحاً حال الملايين من المشردين الذين لا مأوى لهم في الولايات المتحدة ومثلهم مئات الآلاف في المملكة المتحدة أيضاً.
وهو الواقع المأزوم الذي يحول الإنسان في خضمه إلى كائن بيولوجي لا هدف له سوى الحفاظ على بقائه البيولوجي المحض، وهو ما يعني استقالة من قدرات الدماغ الجديد والقشرة الدماغية ما قبل الجبهية التي تميز البشر عن أقرانهم في مملكة الحيوانات، وخاصة أبناء عمومتهم في فئة الرئيسيات الذين يتطابقون معهم من الناحية المورثية بنسبة قد تصل إلى 99% كما هو الحال مع غوريلا الجبال، وقردة البانوبو والشمبانزي والغيبون. وتلك الاستقالة تعني تحييد جل قدرات التحليل المنطقي والعقلانية والحصافة والرشاد لصالح تسيد الساحة على مستوى الجهاز العصبي المركزي من قِبل بنى تشريحية انفعالية وارتكاسية تنتج أفعالاً عنيفة في غالب الأحيان حينما تشعر بالتهديد أو الخطر أسوة بما تنتجه نفس تلك البنى التشريحية من سلوكات في الأجناس الأخرى في مملكة الحيوانات، وهو ما يعني بأن حالة الشدة النفسية والجسدية المزمنة لا بد أن تفضي إلى تصعد العنف كوسيلة لحلحلة الاحتكاكات الاجتماعية بدل الحوار وتبادل الأفكار واستنباط الحلول الوسطى.
ومن ناحية أخرى لا بد من عدم إهمال الحقيقة المهمة المتمثلة في تركيز وسائل الإعلام المتسيدة وحتى الطرفية منها بشكل مجهري مُبأَّر على أي فعل عنفي في المجتمع كجريمة قتل أو ما شابه ذلك، بشكل يظهرها في حجم أكبر من حقيقتها بكونها حدثاً ذي نسبة شبه صفرية بالنسبة لعدد السكان في مجتمع ما؛ وهو التركيز الذي لا بد منه لوسائل الإعلام لملء ساعات بثها وصفحاتها بمادة إعلامية سهلة التحضير الإعلامي، بالإضافة إلى جاذبيتها للنَظَّارة بمختلف شرائحهم، إذ أن عقول بني البشر مبرمجة بشكل بنيوي لالتقاط أي مشعرات في المحيط البيئي والحيوي قد تشي باحتمال وجود خطر ما قد يهدد حياة واحتمالات عيوشية العضوية، وهو السلوك الذي تشرف عليه اللوزة الدماغية في منطقة الدماغ المتوسط، والتي تدعى باللغة الإنجليزية Amygdala. وذلك الاهتمام الفطري والغريزي لدى بني البشر في التقاط أخبار الجرائم والأحداث العنفية، يتم في غالب الأحايين من مدخل عاطفي وتبسيطي وتعميمي، نظراً لأن قدرات اللوزة الدماغية المختصة بمشاعر الخوف و التوجس محدودة، وهي لا تختلف في قدراتها البيولوجية كثيراً عن قدرات نفس البنية التشريحية في عقول أبناء عمومة بني البشر في مجموعة الرئيسيات و القردة العليا، وهو الواقع الذي يخدم صناع الإعلام بشكل لا يثمن إذ أنه يقدم لهم على طبق من ذهب تسهيلاً لإدراك هدف وجودي مطلوب منهم جراء انخراطهم في شبكة الفئات المهيمنة على مفاصل الثروة والسلطة في المجتمع، والتي تسيطر في غالب الأحيان على مفاصل الإعلام فيه، وهو الهدف الذي عنوانه العريض القيام بكل ما يسهم في «تذرية المجتمع»، وضمان عدم تكشف الأفراد في المجتمع لقدراتهم الخارقة في تغيير موازين القوى إذا تمكنوا من «حشد ذواتهم اجتماعياً وتنظيمياً»؛ وليس في الواقع أسهل وأكثر نجاعة في إبعاد شبح ذلك البعبع السرمدي الكامن في مخيلة الفئات المهيمنة والمتمثل في إدراك «الفئات الشعبية لمفتاح قوتها المتمثل في تحولها من قطيع من الأفراد إلى مجتمع حي يدرك أهدافه ومستعد للتحرك من أجل تحقيقها» من توطيد «الخوف المقيم» في كل زوايا وتفاصيل العلاقات الاجتماعية في المجتمع، وتعزيز ذلك عقلياً ونفسياً عبر التكرار، وتخليق «منعكس اشتراطي» بدائي في كينونتهم العصبية يجعل من التوجس صنواً لا يبارح في نسيج أي علاقة اجتماعية يمكن أن يرتبط بها فردان أو أكثر، وبشكل يحول دماغ بني البشر المبرمج للحفاظ على النوع من الاندثار و الانقراض إلى أداة للعمل ضد مصلحة أولئك البشر، ودون أن يعوا ذلك في غالب الأحيان.
وفي الواقع فإن «صناعة الرعب السرمدي» جزء جوهري من عناصر توطيد واستدامة هيمنة الأقوياء على المستضعفين في العالم المتقدم، والذي لا تسمح اشتراطات نظم الديموقراطيات المسرحية الشكلية للفئات المهيمنة على مفاصل السلطة والثروة في تلك النظم باستخدام هراوات وبساطير البصاصين والعسس والجلادين لتوطيد سلطتها بالشكل الذي تعمل به في لج النظم الاستبدادية، وهو ما استدعى استنباط بديل ملائم عنه ممثلاً بمفاعيل «صناعة التخويف» و «تخليق الرهاب المقيم»، والتي تشير المعطيات إلى نجاحها المنقطع النظير في تحقيق المراد منها، وفي بعض الأحايين بشكل يفوق ما تنتجه أدوات القمع التقليدية في النظم الاستبدادية غير المقنعة.