لم يفاجئ قرار محكمة الصّلح الإسرائيلية في القدس يوم أمس بالسّماح لليهود بآداء صلوت تلمودية في المسجد الأقصى مفاجئا لأحد، فالأطماع الإسرائيليّة بهدم المسجد أو تقسيمه لبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه، ليست جديدة، وقد جرى تقسيم المسجد الذي هو ركن من عقيدة المسلمين زمانيّا منذ العام 2002، والأقصى مقترن بالكعبة المشرّفة في مكّة وفي المسجد النّبويّ الشريف في المدينة المنوّرة، فهو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين، وأحد المساجد الثّلاثة التي تشدّ إليه الرّحال، وهو معراج خاتم النّبيّين. ولم تتوقّف عمليّات التّخطيط لتقسيمه مكانيّا، لكنّهم ينتظرون الفرصة المناسبة وتهيئة الأجواء الدّوليّة للإنقضاض عليه، وهدم مسجد قبّة الصّخرة فيه لبناء الهيكل المزعوم مكانها.
ومع أنّ الحركة الصّهيونيّة حركة علمانيّة إلّا أنّها استغلت الأساطير الدّينيّة؛ لجمع يهود الشّتات وإقامة دولة اسرائيل، وهي لا تزال وستبقى تستغلّ الدّين لتحقيق أطماعها الإستيطانيّة التّوسّعيّة، وبما أنّ الأطماع الصّهيونيّة طويلة المدى فهم ليسوا على عجلة من أمرهم في تطبيقها، ومع أنّ الصّراعات بين الأحزاب والتّنظيمات اليهوديّة في اسرائيل تتنافس لكسب تأييد وأصوات رعاع ناخبيهم، من خلال السّباق في قتل المزيد من العرب، ومصادرة أراضيهم واستيطانها، فإنّ أحدا من القيادات الصّهيونيّة لا يحاول الوقوف في وجه المتزمّتين المتدينين، بل يتسابقون في تلبية طلباتهم المادّيّة والدّينيّة والإستيطانيّة، تماما مثلما تجري تربية مواطنيهم على غرس مفاهيمهم الفوقيّة التي تتعالى على بقيّة الأجناس البشريّة وأتباع الدّيانات الأخرى، ويغرسون في عقولهم عقدة الخوف من الآخرين؛ لتبقى أيديهم على زناد الأسلحة، إيمانا منهم بأنّهم يدافعون عن أنفسهم! ويشجّعهم على هذا دعم أمريكا وحلفائها الأوروبّيّين اللامحدود لاسرائيل في المجالات كافّة، وما شطب الإدارة الأمريكيّة لحرة”كاخ” الفاشيّة العنصريّة من قائمة الإرهاب، وزيارة السّفير الأمريكي للبؤرة الإستيطانيّة في قلب مدينة الخليل المحتلة، ليست عفويّة، بل تحمل رسائل كبيرة وكثيرة. وهذا لا ينفصل عن تخاذل أنظمة عربيّة لا علاقة لها بالعروبة ولا بالدّين الإسلامي الذي يتظاهرون بأنّهم حماته، ويحتمون بأمريكا وإسرائيل بدلا من الاحتماء بشعوبهم، ولا يهمّهم سوى الإستمرار في الحكم ونهب ثروات شعوبهم، وتنفيذ ما يصدر لهم من تعليمات حماتهم دون نقاش، ولم ولن يرفّ لهم جفن وهم يزعمون أنّ قراراتهم “سياديّة”! وقد صدق شمعون بيريس رئيس اسرائيل الأسبق عندما وصفهم بــ “كنوز اسرائيل الإستراتيجيّة.”
وبما أنّ قادة اسرائيل بغضّ النّظر عن انتماءاتهم الحزبيّة يجيدون فنّ إدارة الصّراع، ويعرفون تماما كيف يستغلّون الفرص لتحقيق أهدافهم، فإنّهم يتّخذون قراراتهم دون أن يأخذوا أيّ اعتبار أو حساب لأيّ نظام عربيّ، لأنّهم يعرفون أنّ ردود الفعل العربيّة الرّسميّة لن تتعدّى الجعجعة الكلاميّة؛ لاسترضاء شعوبهم. إلّا أنّهم -قادة اسرائيل- يحسبون ألف حساب لردّات فعل الشّعوب العربيّة، وفي مقدّمتها الشّعب الفلسطينيّ الذي لا يتردّد في بذل الغالي والنّفيس دفاعا عن المسجد الأقصى وغيره من المقدّسات، فإنّني أرى أنّ الحكومة الإسرائيليّة رغم ضعفها لن ترتكب حماقة تنفيذ قرار محكمة الصّلح الإسرائيليّة بالسّماح لليهود بتأدية الصّلوات التّلموديّة في الأقصى في هذه المرحلة، لأنّها تعلم جيّدا أنّ الشّعب الفلسطينيّ سيخرج بقضّه وقضيضه دفاعا عن مقدّساته، وهي في وضع لا يسمح لها بالدّخول في هكذا معركة، كما أنّها تعلم أنّ أيّ مسّ بالمسجد الأقصى سيدخل المنطقة في صراعات دامية. وإذا ما كانت الشّعوب العربيّة والإسلاميّة مضلّلة سياسيّا، فإنّه لا يمكن محو مكانة المسجد الأقصى الدّينيّة من معتقداتهم، وهذه الشّعوب تعي تماما أنّ التّفريط بالمسجد الأقصى سيتبعه التّفريط بالكعبة والمسجد النّبويّ، تماما مثلما هو التّفريط بالعاصمة الفلسطينيّة القدس لم يترك عصمة لأيّ عاصمة عربيّة، فقد جرى احتلال وتدمير بيروت عام 1982، واحتلال وتدمير بغداد عام 2003، وحرق وتدمير دمشق منذ العام 2012، وطرابلس الغرب عام 2011.