يمكن قراءة الزيارة الاخيرة لوزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف الى العراق من زاويتين، زاوية العلاقات العراقية-الايرانية، والزاوية الاقليمية بأبعادها المتعددة.
ومع ان واقع العلاقات الثنائية وطبيعة مساراتها ومعوقاتها تنطوي على اهمية كبيرة جدا بالنسبة للطرفين العراقي والايراني على السواء، الا ان البحث اليوم في هذا الملف بعنوانه السياسي او الامني او الاقتصادي بات مرتبطا الى حد كبير -بل ومتداخلا- مع ماتشهده المنطقة من تداعيات وتفاعلات حساسة وخطيرة، تؤثر في مجملها ان سلبا او ايجابا على مختلف اطراف المنطقة، ومن بينها العراق وايران.
ولعل ما يعطي زيارة ظريف الى بغداد بعدا اقليميا، هو انها جاءت ضمن جولة اقليمية ابتدأها ببيروت لتشمل عمان ودمشق وعواصم عربية اخرى معنية بدرجات متفاوتة بما يجري من احداث ووقائع في المنطقة، لا سيما الازمة السورية، هذا اولا ، وثانيا، ان الازمة السورية تصدرت مباحثات الوزير الايراني مع كبار المسؤولين العراقيين، واقترنت بها العمليات العسكرية التي ينفذها الجيش العراقي وابناء العشائر في محافظة الانبار منذ عدة اسابيع ضد تنظيم ما يسمى بالدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش)، ولا شك ان ما يشهده العراق من تحديات امنية تنطوي في جانب منها على قدر غير قليل من القلق، لا ينفصل بأي حال من الاحوال عن تفاعلات الوضع السوري، وثالثا، مرحلة ما قبل مؤتمر جنيف 2 الذي لم يتبق على موعد انعقاده سوى اسبوع واحد، تحتاج الى المزيد من البحث والنقاش بين المعنيين به، سواء شاركوا فيه او لم يشاركوا، وطهران التي لم تتأكد حتى الان مشاركتها، لن تقف مكتوفة الايدي تنتظر ما يرسمه ويقرره الاخرون.
والنقطة المهمة والجوهرية في هذا الجانب، هي ان لكل من بغداد وطهران رؤى متقاربة ان لم تكن متطابقة بخصوص التعاطي مع الازمة السورية، وهذا ما اشار اليه ظريف في تصريحاته الاخيرة من بغداد، وكذلك ما اشار اليه من التفاهم فيها.
ومنذ وقت مبكر فان طهران تفاعلت الى حد كبير منع المبادرة العراقية لحل الازمة السورية التي طرحها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي خلال مؤتمر قمة دول عدم الانحياز الذي عقد في العاصمة الايرانية اواخر شهر اب/اغسطس من عام 2012، ورأت فيها مخرجا مناسبا وحلا واقعيا وعمليا بالنسبة لكل الاطراف، بيد ان القوى الدولية والاقليمية التي كانت تراهن على اسقاط نظام الرئيس السوري بشار الاسد، واقامة نظام جديد بدلا عنه، لم ترق لها المبادرة العراقية، وكان ترى ان بغداد وطهران يعملان على منع سقوط الاسد.
ولكن بعد مرور ما يقارب ثلاثة اعوام على تفجر الازمة السورية، وبروز حقائق ومعطيات جديدة لم تكن متوقعة، ابرزها صمود النظام السوري، وتفكك وتشظي المعارضة السورية المسلحة، واختلاف الاطراف الداعمة والمساندة لها، بدا للكثير من المعنيين ان الرؤى العراقية والايرانية هي الاكثر واقعية، وان لم يصرحوا بذلك، فمجرد الذهاب الى جنيف 2 ، في ظل استعادة النظام السوري لكثير من عناصر القوة التي فقدها في وقت من الاوقات، وتصاعد حدة الصراع بين معارضيه الى مستوى القتال المسلح، فضلا عن التوافقات والتفاهمات الدولية بين روسيا والولايات المتحدة الاميركية، يعني فيما يعنيه ان المحور الاقليمي -ان صح التعبير- المتمثل بإيران والعراق، ومعه اطراف اخرى مثل حزب الله اللبناني، معززا بمواقف دولية حازمة من قبل موسكو وبكين، قد حقق الغلبة على المحور المتفكك الاخر (السعودية-قطر-تركيا).
وطبيعي ان نجاح مؤتمر جنيف 2 في توجيه الامور بالمسارات الصحيحة لمعالجة وحل الازمة السورية، يعني فتح الباب لترتيبات جديدة في المنطقة، سيكون لكل من العراق وايران دور مهم فيها، واذا كان من الخطأ الاستغراق في التفاؤل بالنتائج التي من الممكن ان يتمخض عنها المؤتمر، فإن ما ينبغي الالتفات اليه هو ان الجماعات الارهابية التي ستجد نفسها خاسرة في سوريا –ميدانيا او سياسيا او الاثنين معا-لابد لها ان تبحث عن ميادين اخرى، وما يساعدها على ذلك هو عدم توقف الدعم متعدد الاشكال لها من قبل الاطراف التي اوجدتها وتبنتها منذ البداية، وطبيعي ان العراق هو احد الميادين او الساحات البديلة لقوى ارهابية في سوريا، وتحديدا تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش)، وما يحصل حاليا في الانبار ، ومناطق اخرى غرب العراق، مؤشر واضح على ان الجماعات الارهابية التي تعرضت لضربات موجعة في سوريا فرت الى العراق مستفيدة من مواطئ القدم التي توفرها لها جهات سياسية وغير سياسية معينة تلتقي معها في الاجندات والمصالح والارتباطات.
وتصاعد العنف والارهاب في العراق مجددا يمكن ان يفرغ اية نتائج ايجابية في الملف السوري من محتواها، بالنسبة لبغداد وطهران وعموم قوى المنطقة التي تتقاطع الاجندات الارهابية مع توجهاتها ومصالحها.
ولان القضايا والملفات متداخلة، ولان طهران معنية بما يجري في محيطها الاقليمي، لذا فانها تحرص على ان تترافق المسارات والاتجاهات الايجابية في الملف السوري، مع ما يماثلها في مواقع اخرى مثل العراق ولبنان، وتدرك جيدا ان ذلك يحتاج الى تعاون وتنسيق على اعلى المستويات، وخصوصا مع اطراف تشكل بطريقة او بأخرى مفاتيح للتعاون والتنسيق الامني كالاردن وتركيا، اللتين مثلتا الشرايين الرئيسية لدعم وتمويل المعارضة السورية المسلحة طيلة الاعوام الثلاثة الماضية.
لم تشغل الملفات الثنائية -كالحدود والمياه وغيرها- بين بغداد وطهران حيزا كبيرا في مباحثات ظريف مع اصحاب القرار السياسي العراقي، وحتى حينما طرح صحفيون اسئلة بشأنها خلال المؤتمر الصحفي المشترك لظريف ونظيره زيباري، تجنب الاثنان الخوض في تلك الملفات، واكتفيا بالقول ان هناك لجانا فنية متخصصة تدرس وتتابع التفاصيل، وحرصا على عدم الابتعاد عن اجواء مؤتمر جنيف 2، ومخاطر الارهاب والتطرف، والاتفاق النووي بين ايران ومجموعة (5+1)، الذي حظي بتأييد وترحيب عراقي كبير في حينه.
طهران ومعها بغداد، يدركان ان الاساس اليوم هو ما تواجهه المنطقة من مخاطر وتحديات، وان النجاح في مواجهة تلك المخاطر والتحديات، سوف يهيئ الاجواء والمناخات المناسبة لتعزيز العلاقات الثنائية في كل المجالات، وتجاوز العقد والنقاط الخلافية او المعلقة في هذا الملف او ذاك، في ذات الوقت فإن تعزيز وتطوير العلاقات الثنائية في ظل اجواء ومناخات اقليمية مشحونة بالمشاكل والازمات وانعدام الثقة وهيمنة قوى التطرف والارهاب، لن يتيح لاي كان ان يحصد ثمار اتفاقيات ومعاهدات وترتيبات مع طرف ما.