اعتادت الطبقة السياسية الحاكمة في العراق منذ عام 2003 على ممارسة ثقافة التخوين والتشرب في نسيجها السياسي المتهرئ بثقافة المؤامرة وهي آلية سيكولوجية لممارسة الأسقاط وتحميل الآخر كل اخفاقات السياسة, فهي تعودت على احتكار الأنجاز” إن وجد ” لها وحدها أما الفشل والأخفاق فهو لصيق بالشعب وحده وبالقوى الخارجية العظمى التي تتآمر على العراق ليل نهار ولا تسمح للقوى الحاكمة بأنجاز مشاريعها في “التنمية الأقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية” حتى وصل الأمر الى اعادة تشكيل معادلة سياسية نفسية مشوهة قوامها أن الظالم مظلوم والمظلوم ظالم, وبالتالي تطالب الطبقة السياسية الظالمة بأنصافها وتخليصها من ظلم الشعب لها, فهو لم يمنحها الفرصة الكافية لأظهار امكانياتها في البناء والتقدم ومحاربة الفساد, وهي الحاكمة منذ 2003 والغارقة في الفساد حد نخاع العظم والتي عاثت فسادا في المال العام والفساد الأداري وتدهور الخدمات الأنسانية ووصولها الى حدودها الدنيا حتى وصل العجز الى تلكؤ السلطات الحكومية بدفع المرتبات الشهرية للمواطنين في دولة تمتلك احتياطي عالمي من النفط والثروات الطبيعية.
لقد حمل العراقيون على كاهلهم عقدين من فساد حكم المحاصصة الملوث بكل الانهيارات الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية, سبقتها عقود من الظلم والحروب والفساد, لقد مارس نظام المحاصصة الطائفي والأثني الأسلاموي والعرقي كل ألوان القهر والعبث والنفاق والدجل والكذب وجميعها مظاهر من القهر والأذلال التي تمارسها القوى الحاكمة ضد الشعب, لقد تسممت حياة مجتمع بكامله جراء القهر والقمع الذي يمارسه نظام المحاصصة الفاسد اخلاقيا وسياسيا حتى انتج هذا النظام القمعي دوائر متشعبة ومتداخلة من القهر والقمع المستديم لا يمكن الخلاص منها, فالموظف يقمع المراجع ويضعه امام شروط قاسية لأنجاز احتياجاته, والموظف الأكبر يضع شروط القهر على الموظف الأصغر ويهدده بلقمة عيشه ان لم يستجيب لشروطه, وهكذا وصولا الى اعلى تراتيبية في الحكم والسلطات والصلاحيات, حتى اقتنع الجميع ان الفساد هو المخرج وليست محاربته هو الحل, ولا نستغرب من مواطن لا يجد حل لمعضلة ومشكل العيش في العراق ان يلجأ بعد نفاد صبره الى التجاوز وتدمير الممتلكات العامة وحرق المؤسسات الحكومية بعد احساسه انها ليست ممتلكاته بل هي ممتلكات نخب فاسدة, انها ليست سيكولوجيا مواطن عراقي مخرب بطبيعته كما اراد لها بعض الكتاب ان يصوره ويستسهله على العراقيين, بل انها ردة الفعل على جلاديه وسرقة امواله ومستقبله, وهي ردة فعل لجروح سيكولوجية عميقة تم فيها اذلال الشخصية العراقية, وبالتالي فأن ميكانيزمات الدفاع عن النفس تختلف بأختلاف الوعي والتنظيم الذاتي.
أن ما تعرضه منظمة هيومن رايتس ووتش والمعنية بحقوق الأنسان يجسد جزء من مأساة الشعب العراقي خلال ما يقارب اكثرمن عقد والنصف عاما الماضية, والتي من خلالها على الأقل لايمكن القبول بالعملية السياسية وبأحزابها الفاسدة التي اسهمت بتبديد الثروات الطبيعيةة منها والبشرية, وتؤكد المنظمة: أن هناك ثلاثة ملايين وأربعمائة ألف مهجر موزعون على أربع وستين دولة. أربعة ملايين ومائة ألف نازح داخل العراق. مليون وسبعمائة ألف يعيشون في مخيمات مختلفة. خمسة ملايين وستمائة ألف يتيم” تتراوح اعمارهم ما بين شهر و17 عام “. مليونا أرملة” اعمارهن ما بين 15 و25 عاما”. ستة ملايين عراقي لا يجيدون القراءة والكتابة” تتصدرهم البصرة وبغداد والنجف وواسط والأنبار “.بلغت نسبة البطالة 31%” الأنبار والمثنى وديالى وبابل في الصدارة تليها بغداد وكربلاء ونينوى”. 35% من العراقيين تحت خط الفقر” اقل من خمسة دولارات”. 6% معدل تعاطي الحشيش والمواد المخدرة” بغداد في الصدارة تليها البصرة والنجف وديالى وبابل وواسط”. 9% نسبة عمالة الأطفال دون 15 عاما. انتشار 39 مرضا ووباء, أبرزها الكوليرا وشلل الأطفال والكبد الفيروسي وارتفاع نسبة الأصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية. توقف 13 ألف و328 معملا ومصنعا ومؤسسة انتاجية. تراجع مساحة الأراضي المزروعة من 48 مليون دونم الى 12 مليون دونم. استيراد. استيراد 75% من المواد الغذائية و 91% من المواد الأخرى. التعليم الأساسي في أسوأ حالاته: 14 ألف و658 مدرسة, تسعة آلاف منها متضررة, و800 طينية, والحاجة الى 11 ألف مدرسة جديدة. الديون العراقية 124 مليار دولار من 29 دولة. واردات النفط للفترة 2003ـ2017 بلغت ألف واربعمائة مليار دولار, لم تسهم هذه الاموال الطائلة في حل مشكلات الحياة الاساسية, بل ذهب معظمها في عمليات الفساد ونهب المال العام.
وقد قدم شعبنا في الاحتجاجات التي اندلعت في اكتوبر عام 2019 ما لا يمكن توقعه في حراك سلمي مشروع بعرف القيم الانسانية او كما يرد في دستور العراق الذي يكفل حق التظاهر والاحتجاج والتعبير عن الرأي, وقد بلغ شهداء الأحتجاجات اكثر من 750 شهيدا وما يقارب من 30 ألف جريح, من بينهم اكثر من 700 اعاقة منتهية, وكذلك اكثر من 2000 معتقل. وقد استندت السلطات الحاكمة الى اعتمادها القمع الدموي الى افتعال ” نظرية المؤامرة ” التي تستهدف العراق كما ترويه السلطة الحاكمة, وهي تعرف تماما ان سيادة العراق منتهكة من دول الأقليم وأمريكا, وقد مارست السلطة في سلوكها اسقاطا سيكولوجيا لاحدود له في تحميل المحتجين عيوب النظام وامراضه المزمنة, فتوغلت في القتل والتصفيات الجسدية وممارسة شتى صنوف العنف واساليبه اللأانسانية.
لقد تأكد للجميع أن نظام المحاصصة الطائفية والعرقية خلال ما يقرب من العقدين من الزمن وما أنتجه من تعصب أعمى، ومنذ ولادته بعد 2003 لحد اليوم كان عائقا ومعطلا للعملية السياسية، حيث حلت في الممارسة العملية الانتماءات الضيقة محل ” علم السياسة ” لإدارة شؤون البلاد، مما جعل من أحزاب الطوائف والأعراق أمكنة للحشود البشرية وليست أمكنة لانتقاء وتدريب النخب السياسية لقيادة البلاد، وكأنها تعمل على قاعدة أن الحزب يساوي كل أبناء الطائفة أو العرق بما فيها من خيرين وأشرار، وتحولت إلى أمكنة للاحتماء بدلا من الاحتماء بالدولة والقضاء كمقومات للدولة العصرية، مما فوت الفرصة على الانتقاء والفرز على أساس الكفاءة السياسية والنزاهة، وليست لاعتبارات لا صلة لها ببناء دولة المواطنة، أنه سلوك يؤسس لمختلف الاختراقات السياسية والأمنية وشتى ألوان الاندساس.
في ظل تلك المأساة المستديمة والمستعصية والتي لا يوجد لها اي حل مشرف في الأفق القريب أن يقوم بعض الناشطين في منظمات المجتمع المدني ومنهم السيدة هناء أدور في تعريف المجتمع الدولي بما يعانيه العراق وشعبه, فذلك ليست عيبا او تدخل في الشأن الداخلي العراقي كما ارادت له قوى الفساد ان تصوره لمحاولة حجب الحقائق عن المجتمع الدولي عن ما يجري في العراق, فالعراق ليست في كوكب آخر ومعزول عن محيطه الأقليمي والدولي, بل ان العراق اليوم اقرب مما مضى في تفاعلاته الخارجية والداخلية.
لم تقل هناء ادور بشيئ يمس السيادة العراقية وأمنها فهي قالت: “إزاء الواقع المرير الذي نعيشه، والمحفوف بالمخاطر، بات الإصلاح والتغيير حاجة آنية ماسة، لتحقيق الاستقرار والأمن والتعايش السلمي بين العراقيين، وفق عقد اجتماعي جديد، يضمن المواطنة المتساوية الحاضنة للتنوع والعدالة الاجتماعية والتداول السلمي للسلطة في إطار دولة مدنية.” وقالت: “أناشد المجتمع الدولي، قبل فوات الأوان، للقيام بمبادرة مدروسة، ضمن سقف زمني محدد، باتجاه الضغط على السلطات العراقية وصناع القرار من السياسيين، للعمل الجدي لتجاوز حالة الجمود السياسي والانقسامات فيما بينهم، وتغليب مصالح الشعب العراقي على مصالحهم الفئوية الضيقة، واحترام التزاماتهم الدولية لاتفاقيات حقوق الإنسان”, وقد تحدثت هناء ادور عن فساد الطبقة السياسية والفساد وسرقة المال العام وسيطرة السلاح المنفلت واضطهاد المتظاهرين والاعتقالات الكيفية بحق الرأي المعارض للفساد ونظام الحكم المحصصاتي. وهي مطالب عراقية عجز فيها الشعب العراقي عن تنفيذ الحد الأدنى منها, وجميعها حقائق ميدانية لا تخفى عن الرأي العام المحلي والأقليمي والدولي.
اما ما قالته بلاسخارت الممثلة الأممية في العراق امام مجلس الأمن متزامنا مع ما قالته السيدة هناء ادور فهذا بعض منه: أن الجوانب السلبية من الحياة السياسية العراقية لا تزال تعيد نفسها في حلقة مستمرة على ما يبدو من سياسة المحصلة الصفرية وان العراقيين ما زالوا في انتظار طبقة سياسية تسعى بدل الاكتفاء بمعارك السلطة التي عفا عليها الزمن إلى أن تشمر عن سواعدها لإحراز تقدم في تحقيق القائمة الطويلة من الأولويات المحلية المعلَّقة في البلد, ولفتت الى ان دبلوماسية الصواريخ أفعال متهورة، مع ما قد يترتب عليها من عواقب مدمرة محتملة, وقد اكدت العراق ليس بحاجة إلى حكام مسلحين ينصبون أنفسهم زعماء”، مشددة على الأهمية البالغة لتأكيد سلطة الدولة وتشخيص الجناة”.
هذه مطالب عراقية عجز شعبنا عن تنفيذها طوال عقدين من الزمن في ظل طبقة سياسية فاسدة ومتهورة ومستهترة, ولا نستغرب من الحملة الشعواء التي تستهدف هناء ادوار والتحريض على القصاص منها لأنها تحدثت بصوت عالمي مسموع عن الفساد في العراق بعد عجز العراقيون فيما بينهم لأيجاد حلول لمحنتهم في العيش الكريم, بل ان من الأسلامويات البرلمانيات يدعون الى محاسبة أدور بحجة من خولها للحديث بأسم العراق, بل ذهبن بعيدا للنبش في دين ادور كونها تنتمي لغير الأسلام وبالتالي كما يقول الفاسدون ” مركتنة على زياكنا حلال: اي فسادنا بيننا نحن الأسلامويين حلال ولكن حرام على الملل الأخرى كشفه والحديث عنه.
اما احتجاج الأسلاموين على بلاسخارت فليست بجديد, فهي إن مدحتهم وألتقت بهم فكانت خير ممثل للأمم المتحدة في العراق, وإن اشهرت بفاسدهم واعلنته على الملئ فكانت عميلة للغرب والأمريكان ومبعوثة لتخريب وتأزيم الوضع في العراق, علما ان الممثلة الأممية ألتقت بأغلب القيادات الأسلاموية وعبروا عن ارتياحهم بها ولدورها الأممي, وقد التقت ايضا بالسيد السيستاني وتمت الأشادة بدورها الأممي في خدمة استقرار العراق, والطبقة السياسية الحاكمة في العراق ينطبق عليها المثل: إن اعطيت القرد موزا وضع يده على رأسه شاكرا وإن لم تعطيه وضع يده على مؤخرته مستنكرا.