22 نوفمبر، 2024 7:43 ص
Search
Close this search box.

مظفر النواب صناجة العراق

مظفر النواب صناجة العراق

الصناجة هو من يُكثر الضَّرب بالصُّنُوج، وهي صَفائحُ صفْرٍ صَغيرةٌ مستديرةٌ تُثَبَّتُ في أطرافِ الدُّفِّ أو في أَصابع الراقصة يُدقُّ بها عند الطَّرَب، وقد لقب أعشى قيس بصناجة العرب لكثرة ما تغنّت بشعره، وقيل لجودة شعره، والخصلتان متوافرتان في شعر مظفر النواب، فمن البنفسج، إلى المكير، إلى الريل وحمد، تكثر محطات التغني بشعره، وتدق عذوبة الكلمات، وتدافع الصور، وكثافة الألوان، حتى تخال نفسك، وأنت تسمع البنفسج، أنك تسبح في بحر من الألوان، خاصة وان البنفسج هو اللون الذي اجتمع فيه المتناقضان، فهو لون السياط وهي تعلم على الأجساد، وهو لون الأصابع، وهي تعلن الانتهاء من انتخاب ديمقراطي، وشتان ما بين هذا وذاك.

بعد وصولي إلى دمشق أوائل عام 1990م، التقيت مظفر النواب في مقهى الهافانا بدمشق، فمن أراد أن يلتقيه يجده تلك الأيام فيها، لم تتعد سنيني في الغربة أربعا، فقد غادرت العراق عام 1986م متسللا إلى المناطق الخارجة على سيطرة نظام صدام في كردستان العراق، كانت تلك السنين بالنسبة إلى كسنين يوسف، أمّا هو فيومها كان قد أمضى في الغربة ثماني وعشرين سنة، قال لي بالحرف: لقد أدمنت الغربة، واستدرك، فقال: لكنني في بعض الليالي، عندما تهدأ الحركة، وتخبو الأصوات، تعود بي الذاكرة إلى العراق، إلى بغداد ونهريها، والجنوب وأهواره، والشمال وجباله، فاخرج هائما على وجهي، أجوب شوارع دمشق وأزقتها، يتحدث وفي عينية بريق حزن عميق، شعرت حينها أنه قصيدة، أقرأ أبياتها في ملامحه، وبين بريق عيونه، وعلى إيماءات يديه، كان اللقاء معه ماتعا، وعندما خرجنا من المقهى، استوقفنا رجل عراقي أنيق عرف عن نفسه بالدكتور، نسيت الاسم، قال لمظفر: أحب شعرك العامي، وتجاذب معه أطراف حديث سريع، ثم أكملنا المسير، ودعته على أمل اللقاء ثانية، ولكن زحمة الحياة، ومصاعب الغربة، وانتقالي إلى بيروت حال دون ذلك، ولكن صلتي به لم تنقطع، تأتيني أخباره وتذهب إليه أخبارى، زار يوما مكان عملي في إحدى الاذاعات في بيروت، ولم أكن موجودا، وعندما عدت قال لي موظف الاستعلامات: سأل عنك شخص اسمه مظفر النواب، ولم يجدك فحملني اليك السلام، تألمت كثيرا، وقلت له لماذا لم تخبر مسؤولي الإذاعة، اتعلم من هو مظفر النواب، انه الشاعر الذي أجلس الحكام العرب على القازوق، يوم قال لهم: أولاد …، صرخ أهو ذاك؟ قلت نعم انه شاعر القدس عروس عروبتكم، ولكنني التقيته فيما بعد، في أمسية شعرية أقيمت له، كان يقرأ، وعندما يستبد به الحزن يرنم كلماته، فاسمع أنين القصب، ونشيج النهر، وعويل الجبال، وكانت العيون، عندما يترنم، ترمقه كأنها تقرأ نكت الشعر في ديوان العراق.

اليوم رحل مظفر النواب إلى عالمه الآخر، تحمله ملائكة الرحمة إن شاء الله، إن العدالة التي عاشها حلما سيجدها، عندما يلتقي عليا الذي ينتمي اليه بلا شروط، والحسين، والمسيح، وكل الراسمين بعذاباتهم الطريق إلى الله، فقد أدى ما عليه، يوم مشى من نقرة السلمان في عمق صحراء السماوة، ذلك السجن الذي أوكل الطغاة حراسته للذئاب الجائعة، الى آخر أصقاع الغربة، لا يحمل معه سوى وطن وقصائد، شعرت يوم التقيته، هو الشيوعي الذي لامست في عمقه البعيد ايمانا، ينفتح على مطلق لا يحد، وانا الداعية المتغرب المتحرر من قبضة الطغيان، شعرت أنا الذي أحب العراق، ولا أشك ابدا بحب النواب له، بأن مشتركات الانتماء بيننا كثيرة، أوسعها حضورا، العراقية، الهوية التي تجمعنا، أوضح معالم النواب، التي يشعر بها غير العراقيين، عندما يسألون عن معنى مفردة في احدى قصائدة، إنها مفردات عربية، لكن لها لكنة سومرية

إن الموت بوابة إلى عالم لا يحيط به سرد ولا نظم، عالم غارق في أصالة موغلة في جذور الإنسان، ومعاصرة حضورها طاغ في كل تفصيل يحدث، إنه الوجه الآخر للحياة، المتحر من كل تجاعيد الوجع، وندوب الانكسار، الوجه الذي تنهل عيونه من ضوء الله، تاركا وارءه تلك العيون التي اغرقتها عتمة الطغاة

يا صديقي العزيز، آمل أن تكون عيونك التي أبكاها الحزن، وجفف ماءها الفراق، تحدق الآن في لوحة النور الازلي، تأنس بلا شروط بكل الذين أعلنت انتماءك إليهم، رحمك الله، فإنك عبد من عبيده، لن يرضيه أبدا ما الحقه بك الطغاة.

إلى اللقاء في ذلك المشهد الجميل، إن شاء الله تعالى.

أحدث المقالات