وكالات – كتابات :
طالما نُظر إلى “فتحي باشاغا”، أو رجل “مصراتة” القوي، على أنه العنصر الحاسم في الصراع الليبي، خاصةً في مرحلة المواجهات العسكرية بين معسكري الشرق والغرب؛ فهو الآمر صاحب النفوذ الكبير بين كتائب “مصراتة”، والتي منحت معسكر الغرب ثقلًا عسكريًا مكّنه من الصمود أمام الآلة العسكرية لـ”حفتر”؛ على مدار السنوات الماضية.
اليوم وبعد تعيين برلمان طبرق؛ لـ”فتحي باشاغا”، في العاشر من شباط/فبراير 2022، رئيسًا للوزراء، على حساب “عبدالحميد الدبيبة”؛ هل ينقسم معسكر الغرب ؟.. وهل يكون معسكر الشرق، بقيادة “خليفة حفتر” و”عقيلة صالح”، قد نجح في إزاحة كافة منافسيه عن ساحات التنافس السياسي، سواء على مستوى رئاسة الوزراء أو مؤسسة الرئاسة فيما هو قادم ؟
“فتحي باشاغا”.. خطوة نحو معسكر الشرق ؟
كان تأجيل الانتخابات العامة الليبية عن موعدها، والذي كان مفترض إجراؤها في 24 كانون أول/ديسمبر 2021، نذيرًا بأن الأزمة ربما تعود إلى نقطة الصفر مرة أخرى، على المستويين السياسي والعسكري، وأن منجزات المرحلة الانتقالية، التي بدأت في شباط/فبراير 2021؛ بانتخاب سلطة تنفيذية جديدة، ستتلاشى إلى غير رجعة، وبالتالي كان التساؤل الذي دار في كانون أول/ديسمبر 2021؛ هو: ما مصدر الأزمة القادمة ؟.. وما شكلها المتوقع ؟.. خاصةً أن الأزمة الليبية تباغتنا في كل مرحلة بأشكال وتطورات مختلفة للأزمة.

إذ توقعت بعض التقارير أن يتحرك “حفتر” عسكريًا مرة أخرى، أو أن يترصّد “عقيلة صالح”، رئيس “البرلمان الليبي” بطبرق، مرة أخرى بحكومة “الدبيبة” قانونيًا، لكن أن يكون مصدر الأزمة هو أحد رجالات معسكر الغرب الليبي، فهذا لم يكن في حُسبان أي طرف.
و”فتحي باشاغا”، محور الأزمة الحالية بعد تحوله لأداة بيد “حفتر” و”عقيلة”، قائد عسكري بارز، وهو صاحب النفوذ الأكبر على ميليشيات “مصراتة”، بما تمتلكه من قوة عسكرية أثّرت في مسار النزاع العسكري في “ليبيا”، وكان وزيرًا للداخلية في “حكومة الوفاق الوطني” الليبية؛ عام 2018، بالإضافة إلى عدة مناصب عسكرية تولاها في الفترة ما بين: 2011 و2018، ما بين رئيس لدائرة المعلومات والإحداثيات في المجلس العسكري، ثم متحدثًا باسم المجلس في “مصراتة”، وأخيرًا عضوًا في “مجلس النواب” عن مدينة “مصراتة”؛ عام 2014.
وعُرف عن “فتحي باشاغا” ميوله الإسلامية، ودعمه طويل الأجل لمعسكر الغرب الليبي، ضد معسكر “حفتر” في الشرق، ولكن خلال السنوات الأخيرة، بدا أن “فتحي باشاغا” لم يكن على وفاق تام مع قادة الغرب الليبي، وبدأ يُظهر قدرًا من الاستقلالية في قراراته وسلوكه السياسي، دون أن يتخلى عن دعم الغرب عسكريًا، ولكن بعد توقف الحرب، وتشكيل حكومة “الدبيبة”؛ في آذار/مارس 2021، ظهرت هذه الاستقلالية من خلال تواصله المباشر وتنسيقه مع قوات الجيش التابعة لـ”حفتر”، وهي خطوة يبدو أنها شجّعت معسكر “حفتر” على جذب “فتحي باشاغا” إلى صفها.
ففي أعقاب فشل العملية الانتخابية، أراد “حفتر” و”عقيلة صالح” الإجهاز على “الدبيبة”، ضمن خطتهم لتفتيت معسكر الغرب، ليس فقط عن طريق سحب الشرعية من حكومة “الدبيبة”، ولكن عن طريق تعيين بديل ضمن نفس المعسكر، رغبةً في تشتيت قوى الغرب الليبي، وربما إشعال الفتنة فيما بينهم، لدرجة نشوب نزاعات مسلحة.
وقد بدا واضحًا من تسلسل عملية اختيار “فتحي باشاغا”؛ لرئاسة الوزراء، من طرف “برلمان طبرق”، أنها لم تكن عملية قانونية محايدة، وإنما كانت أشبه بعملية تعيين، غُلفت بأطر قانونية، ففي السابع من شباط/فبراير 2022، أعلن “عقيلة صالح” وجود سبعة مرشحين محتملين لرئاسة الوزراء، وقد جرى استبعاد خمسة منهم لعدم استيفاءهم للشروط، ليتبقى على رأس القائمة، “فتحي باشاغا”، والمسؤول السابق في “وزارة الداخلية” الليبية؛ “خالد البيباص”، ثم سرعان ما أعلن “صالح”؛ أن “البيباص” انسحب من الترشح لصالح؛ “فتحي باشاغا”، وهو الأمر الذي نفاه “البيباص” لاحقًا، مُكذِّبًا إدعاءات “صالح”.
وفي يوم التصويت، وهو العاشر من شباط/فبراير 2022، كانت جلسة البرلمان مُذاعة على الهواء مباشرةً، ولكن البث انقطع قبل إجراء التصويت، وعاد بعد انتهائه ليُعلن “صالح”؛ أن “فتحي باشاغا”، صار رئيسًا جديدًا للحكومة الليبية.
لكن ما أثار الريبة هو موقف “المجلس الأعلى للدولة”، ورئيسه “خالد المشري”، ففي كلمة مصورة، نُشرت على الصفحة الرسمية للمجلس على (فيس بوك)، في 12 شباط/فبراير، أعلن “خالد المشري” تأييده للخطوات القانونية التي اتخذها “برلمان طبرق”، بما يعني تأييده لتعيين “فتحي باشاغا”؛ رئيسًا للوزراء، بل استهجن “المشري” رد فعل “الدبيبة”، الرافض لتسليم السلطة؛ بحسب تقارير صحافية غربية.
ولكن في اليوم التالي مباشرةً، أي في 13 شباط/فبراير، صدر بيان رسمي عن “المجلس الأعلى للدولة”، مُوقّع من طرف “المشري”، يُهنيء الأمة الليبية بذكرى الثورة، ويُعلن أن قرارات البرلمان بشأن تعيين رئيسًا جديدًا للوزراء ليست نهائية، وأن المجلس لديه ملاحظات حولها.
وتراجع “المشري” عن تصريحاته، إنما يُشير إلى أحد احتمالين: أولًا؛ أن موقف “المشري” بالموافقة في البداية كان مبادرة فردية، وأن تنسيقه مع “برلمان طبرق” جرى من خلال شخصه هو، وليس من خلال قنوات المجلس، ويبدو أن إعلان “المشري” رسميًا تأييده لقرارات “برلمان طبرق” أغضب أعضاء المجلس؛ مما أجبره عن التراجع.
والاحتمال الثاني؛ هو أن يكون “المشري” قد اتفق على مقايضة مع “برلمان طبرق”، تقضي بأنه مقابل تأييد تعيين “فتحي باشاغا”؛ رئيسًا للحكومة، فإنه يكون للمجلس الأعلى دور أكبر في التعديل الوشيك للدستور، وربما فشلت هذه الصفقة، فتراجع “المشري” ومجلسه عن تأييد “فتحي باشاغا”.
وكما كان متوقعًا؛ رحّب الجنرال “خليفة حفتر” بقرار البرلمان، مؤيدًا تعيين “فتحي باشاغا”؛ رئيسًا للحكومة، فيما أعلن “عبدالحميد الدبيبة”؛ في العاشر من شباط/فبراير، أنه لن يُسلِّم السلطة لرئيس وزراء جديد، فيما أكد أنه نجا للتو من محاولة اغتيال قام بها خصومه، في الطريق إلى منزله في العاصمة؛ “طرابلس”.
طموح لا يهدأ.. طريق “فتحي باشاغا” إلى السلطة..
لم يكن ترشح “فتحي باشاغا” في الانتخابات الرئاسية الليبية؛ (غير المكتملة)، الدليل الوحيد على طموحه السياسي، ولكنها كانت تتويجًا لمسارات عدة اتخذها لحيازة سمعة دولية طيبة تسمح له بالوصول إلى السلطة، لنجده اليوم يحظى بدعم خارجي من “مصر، وفرنسا، وبريطانيا”.
فقد سعى “فتحي باشاغا”؛ في شباط/فبراير 2021، لنيل منصب رئيس الوزراء خلال عملية انتخاب سلطة تنفيذية جديدة برعاية أممية، ولكن “الدبيبة” ظفر حينئذ بالمنصب، وفي آب/أغسطس 2021، كتب “فتحي باشاغا” مقالًا في صحيفة (فايننشيال تايمز) يُرحِّب فيه بالمزيد من الدعم الأميركي؛ لـ”ليبيا”، في ظل إدارة “بايدن”، كما جمعته علاقة عمل جيدة مع؛ “ستيفاني ويليامز”، التي عملت دبلوماسية أميركية كبيرة في “ليبيا” قبل تعيينها ممثلًا خاصًا لـ”الأمم المتحدة” في البلاد.
لكن ربما النقطة الأبرز في مسيرته السياسية كانت تتعلق بعلاقته مع “فرنسا”، فأثناء معركة “طرابلس”، والتي بدأت في نيسان/إبريل 2019، كان “فتحي باشاغا” وقواته في مواجهة “حفتر”، المدعوم فرنسيًا. وخلال القتال أعلن “فتحي باشاغا”؛ بشكل واضح، اتهامه لـ”باريس” بدعم ما اسماه: “إجرام حفتر” بلا هوادة، حتى أن “وزارة الداخلية” أوقفت الاتفاقيات الأمنية الثنائية مع “فرنسا”؛ بسبب هذا الاتهام.
وفي مقابلة مع صحيفة (الفيغارو)؛ في آيار/مايو 2019، قال وزير الخارجية الفرنسي؛ “جان إيف لودريان”، إن “فتحي باشاغا”: “يُهاجم فرنسا بانتظام”؛ وأنه يُحاول التقرب من “تركيا”، ولكن مع انحسار القتال، إنطلق “فتحي باشاغا” في جولة دبلوماسية عبر “أوروبا”، واجتمع عدة مرات مع كبار المسؤولين الفرنسيين، بما في ذلك؛ “جان إيف لودريان”، الأمر الذي ساهم في ضبط علاقته مع “باريس”، وظهور لغة تفاهم فيما بينه وبين المسؤولين هناك.
أما التحدي الحقيقي الذي يواجه “فتحي باشاغا” حاليًا؛ هو افتقاده للشرعية الدولية، فحتى هذه اللحظة تؤكد “الأمم المتحدة” إنها لا تزال تعترف برئيس الوزراء الليبي المؤقت؛ “عبدالحميد دبيبة”. وهو الموقف الذي، إن لم يتغيّر، فقد يُكبِّل تحركات “فتحي باشاغا”، ويمنح شرعية أكبر لـ”الدبيبة”، في حال انفجار الوضع.

ومن المتوقع أن تُناصب “أنقرة” العداء؛ لـ”فتحي باشاغا”؛ إذ على الرغم من أن الأخير قد نجح، خلال السنوات السابقة، في إقامة روابط وثيقة بنظام “إردوغان”، إلا أن “الدبيبة” لا يزال يُعتبر رجل “أنقرة” في “طرابلس”، ومن ثمّ سينظر إلى تعيين “باشاغا” على أنه تهديد لمصالح “تركيا” في البلاد.
هل يفُتت “فتحي باشاغا” معسكر الغرب الليبي ؟
بجذبهما لأحد أهم رجالات الغرب الليبي؛ وهو “فتحي باشاغا” إلى صفهما، فإن “حفتر” و”عقيلة صالح” نجحا بالفعل في تفتيت معسكر الغرب، لكن هل يستفيد “حفتر” و”عقيلة صالح” من هذه الخطوة في الانتخابات الرئاسية القادمة؛ بأن تُصبح الساحة مُهيأة أكثر لأحدهما ؟
ضمن تعيين “فتحي باشاغا”؛ رئيسًا للوزراء؛ لمعسكر الشرق، أن رجل “مصراتة” القوي لن يكون منافسًا انتخابيًا لهما في المستقبل، بعد اشتراط البرلمان أن يُوقع “باشاغا” على إقرار بعدم ترشحه للانتخابات العامة القادمة حال توليه رئاسة الوزراء.
لكن هذا لا ينزع عن الغرب قوته الانتخابية والمتمثلة أساسًا في؛ “عبدالحميد الدبيبة”، فرغم مكانة “فتحي باشاغا”، إلا أن نفوذه يقتصر على “مصراتة”، بينما اتسعت شعبية “الدبيبة”؛ خلال فترة حكمه، لتشمل كافة أرجاء الغرب الليبي، الذي يضم: 63% من السكان الليبيين، بما يُمثلونه من ثقل انتخابي.
فقد اكتسب “الدبيبة” شعبية واسعة بسبب سياساته الداخلية على مدار الأشهر الماضية، والتي تضمنت برامج ضخمة للإنفاق العام، بمعدلات غير مسبوقة؛ منذ عام 2001، فضلًا عن إنجازه لمشروعات كبيرة استفادت منها فئات مختلفة من الشعب الليبي.
يُضاف إلى ذلك أن ولاء سكان “مصراتة” وأصواتهم ليس من الضروري أن ينتقل إلى معسكر الشرق، خلف “فتحي باشاغا”، فأبناء “مصراتة” أنضوا في قتال شرس لسنوات ضد قوات “حفتر” وحلفائه الروس، ومن غير المتصور بين يوم وليلة أن يُصوِّتوا لصالح الجنرال أو لصالح رفيقه؛ “عقيلة صالح”، بل على العكس قد تذهب أصوات “مصراتة” إلى “الدبيبة”.
ومن ثَمَّ؛ فقد يكون انضمام “باشاغا” إلى معسكر الشرق، سببًا في توحيد أصوات “مصراتة” والغرب وراء “الدبيبة”، وعدم توزيع أصواتهم على مرشْحيْن، لكن كيف ذلك ؟.. وهل يستفيد معسكر الشرق الليبي من القوة العسكرية لـ”مصراتة”؛ والتي كانت خاضعة لنفوذ “فتحي باشاغا” ؟
من المؤكد أن “حفتر” و”عقيلة صالح” يسعيان إلى إضعاف القوة العسكرية لمعسكر الغرب الليبي، ولا شك أن حرمانه من القوة العسكرية لميليشيات “مصراتة” سيُعزز هذا المسعى، لكن لا يبدو أن قرب “فتحي باشاغا” إلى معسكر الشرق يعني انضمام ميليشيات “مصراتة” إلى الشرق، أو حتى تحييدها.
فـ”الدبيبة” في الأصل منافس شرس لنفوذ “باشاغا” في “مصراتة”، فهي مسقط رأسه، ولديه نفوذ واسع هناك، مع القبائل والإدارات المحلية وبعض المسؤولين العسكريين، وهو نفوذ تعمق خلال فترة حكمه؛ في العام الماضي (2021).
وفي معركته ضد “فتحي باشاغا” و”برلمان طبرق”، وصلت: 200 عربة عسكرية مُدججة بالسلاح، بينها إثنتان تركيتان من طراز (كيربي)، إلى “طرابلس” قادمة من “مصراتة”، لدعم “عبدالحميد الدبيبة”، في 12 شباط/فبراير 2022. وفي اليوم ذاته أدانت مجموعة قدّمت نفسها على أنها (قوة دعم الجيش الليبي) – في ساحة الشهداء – قرار “مجلس النواب” بتعيين “باشاغا”؛ رئيسًا جديدًا للوزراء.
وفي 11 شباط/فبراير؛ أعلن قادة وحكماء وأعيان من مدينة “مصراتة” رفضهم قرار “مجلس النواب” بتشكيل حكومة موازية، وأشاروا إلى جاهزية كل القوى العسكرية في المدينة للدفاع عن الشرعية، وهو الموقف نفسه الذي اتخذه (لواء الصمود) – في مصراتة – وقائده؛ “صلاح بادي”، الذي أيّد “الدبيبة”، ورفض أية محاولات لتشكيل حكومة بديلة.
وبالتالي، على الرغم من أن معسكر الشرق الليبي بقيادة “حفتر” و”عقيلة صالح” سعيا إلى إضعاف “الدبيبة” ومعسكره في الغرب، بحرمانه من مركز ثقل مثل “باشاغا”، وأن هذه الخطوة ستُثير القلاقل والفتن في الغرب، إلا أن عواقبها ليس من المضمون أن تصب في صالح معسكر الشرق، وربما يكون العكس هو الصحيح، فليس من المستبعد أن ينجح “الدبيبة” في السيطرة على الوضع، وأن يضم “مصراتة” – بنفوذها السياسي والعسكري – تحت لوائه مباشرةً.