تواصل القوات العسكرية العراقية شن حملة عسكرية واسعة النطاق ضد مدينتين رئيسيتين من مدن محافظة الأنبار العراقية هما الفلوجة والرمادي وما يحيط بهما من قرى وقصبات ، ورغم عدم ظهور أية ملامح لهيمنة تنظيم القاعدة الأرهابي على المشهد الفعلي للأحداث على الأرض ، ورغم عدم تأكيد المراسليين الصحفيين وشهود العيان من داخل هذه المدن ، لوجود وسيطرة مقاتلي داعش أو القاعدة (المفترض) على الموقف ، إلا أن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ، وجد في تسويق خطر الإرهاب الذي تحدث عنه كثيرا خلال زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة ونجاحه في إقناع الرئيس الأميركي بإن السبب في تصاعد العنف في العراق هو امتداد تأثير المواجهة المسلحة في سوريا بين النظام السوري والمعارضة، ثم تكريس صورة أن الوضع في سوريا سمح لمقاتلي القاعدة ( داعش) أن يدخلوا إلى العراق ويؤسسوا قواعد لهم ، رغم رؤية المشرعين والقادة العسكريين الأميركيين أن سبب تصاعد العنف في العراق هو فشل حكومة المالكي في إشراك القوى السياسية بكافة مكوناتها .
لقد قام المالكي بعد عودته من واشنطن مباشرة بزيارة إلى طهران ، ولحساسية النظرة الى هذا البلد الجار للعراق من قبل الكثير من ساسة العراق وشعبه ، فقد تعرضت هذه الزيارة لكثير من النقد وجيرّت بالكامل ، بحسب تحليلات المشتركين في العملية السياسية في العراق على أنها مسعى من المالكي للحصول على دعم إيران له للحصول على ولاية ثالثة ، وربما يكون هذا بعض الغرض من الزيارة ، لكن الغرض الرئيس ، والذي يرتبط فعلا بنتائج زيارته لواشنطن ، هو ، الحصول على التنسيق والدعم الكاملين من قبل طهران من أجل القيام بعملية عسكرية حاسمة في المناطق ذات الأغلبية السنية والتي تمتلك القدرة والقوة على منع تنفيذ المخطط الإيراني في المنطقة والعراق تحديدا ، وقال المالكي في زيارته تلك للقادة الإيرانيين ؛إن لي بضعة أشهر في حكم العراق ويجب أن نستغل هذه الأشهر للقضاء على القوة الضاربة للسنة في العراق ، وهم في الأنبار والموصل تحديدا وأحتاج إلى دعمكم بعدما أقنعت الولايات المتحدة بوجود عناصر القاعدة بين صفوفهم .
تلك هي بإختصار فلسفة المواجهة بين القوات الحكومية والمليشيات الطائفية المدعومة من المالكي وإيران ، وبين القوى العشائرية التي أستخدمت جميع الوسائل السلمية ( وبضمنها المشاركة بالعملية السياسية) ، للتعبير عن حجم التهميش والمظلومية والآستهداف الأمني لإكثر من ثماني سنوات ، هي بالتمام فترة حكم نوري المالكي للعراق . ولعل المالكي في آخر لقاء له مع وكالة “رويترز” (منتصف كانون الثاني الجاري) يغالط الكثير من الحقائق على الأرض حينما قال أنه “يريد أن ينهي وجود المتشددين دون إراقة دماء ” ! فالدماء تراق كل يوم ، والمدفعية والدبابات والطائرات تقصف أحياءا في الفلوجة والرمادي والخالدية وأبو غريب وغيرها ، وسط غياب تام (مقصود) لجميع وسائل الإعلام العالمية والمحلية ! ، ثم أن المالكي بصفته رئيسا للوزراء وقائدا عاما للقوات المسلحة وضع أسس لعقدة خطيرة ، لم يستطع أي حاكم في العراق منذ عهد الدولة العراقية الأولى عام ١٩٢١ وحتى عهد آخر حكومة وطنية ( أسقطها الأحتلال الأميركي عام ٢٠٠٣) ، تلك العقدة هي ، إستخدام الجيش العراقي لقتال شعبه ، نعم ، فهذا الأمر لم يقع أبدا بالطريقة التي يتعامل بها الجيش العراقي الآن مع المدنيين في المدن المحاصرة من قبله بما يوحي لسكانها ، وللمراقبين ، بشكل واضح تماما ، أن أتجاهات الحرب على الأنبار ذات سمة طائفية بإمتياز ، رغم نفي المالكي لذلك ووصفه لمن يرى العملية بهذا التوصيف بأنه “وباء كبير” !
إن الحرب في الأنبار التي يغذيها منطق رئيس الوزراء العراقي والقوى الدولية التي تتحالف معه أو تلك التي أوهمها بفرضياتها العسكرية ، سمحت بتمرير مشروعه الطائفي الخطير في هذه الحرب بشكل عام على جميع أبناء الطائفة التي تمثلها الأنبار والموصل وغيرها ، ولعل هذا المشروع توضحت صورته حينما برز الشعار السيء الصيت والذي رفعه بين أبناء مكونه تكريسا لحضوره الأنتخابي المقبل ، ذلك الشعار هو : ((أنصار الحسين ضد انصار يزيد)) ، فلا عجب إذن أن يسوق المالكي حربه على الأنبار بواجهتين ؛ واجهة إعلامية ورسمية تقول إنها (حرب على الأرهاب) ، وهو الأمر الذي يفزع الغرب وبخاصة الولايات المتحدة ، والأخرى بين أبناء مكونه الطائفي ليقول لهم : (أنا من يستطيع فقط تقزيم السنة في العراق وحمايتكم (الشيعة) من خطر حصولهم على حكم العراق من جديد ) ، وبالطبع بين الواجهتين بون واسع لا يفهمه إلا من يرى الصورة عن قرب ومن غير نفس طائفي ، وكذلك من يعلم حجم المأساة التي يعاني منها العراقيين جميعا تحت مظلة مكافحة الإرهاب ، وربما بعض من يعرف جزءا من هذه الحقيقة الأمين العام للأمم المتحدة ، الذي لامس حدودها حينما قال في مؤتمره الصحفي مع المالكي يوم زيارته لبغداد ( ١٣ كانون الثاني الجاري):«أود أن أحث قادة البلاد على معالجة أسباب المشكلات من جذورها» ، وأضاف «يجب عليهم ضمان ألا يهمل أحد»، وأدان ” بشدة الهجمات المروعة التي استهدفت المدنيين»، داعيا إلى «اتخاذ تدابير لتعزيز النسيج الاجتماعي في البلاد ، من خلال المشاركة السياسية والمؤسسات الديمقراطية، واحترام سيادة القانون وحقوق الإنسان، والتنمية الشاملة ” ، وهو ما لم يرق لرئيس الوزراء العراقي فرد على الفور إن “الحديث عن تغليب لغة الحوار في الأنبار مرفوض لأننا لا نحاور القاعدة وأن ما يجري في الأنبار وحد العراقيين في حربهم ضد القاعدة”.
الخبير الألماني بشؤون الشرق الأوسط جيدو شتاينبرج يؤكد وهو يراقب عمليات الحرب على الأنبار في تصريح لإذاعة “دويتشلاند راديو كولتور” الألمانية أن ” تنظيم القاعدة كان قد هزم، ولكن المالكي قضى على النجاح الذي حققه الأميركيون بهذا الشأن ، نتيجة للسياسة الخاطئة التي ينتهجها “. ورأى شتاينبرج أن لجوء الولايات المتحدة لتزويد العراق بالكثير من الأسلحة ليس إلا حلاً طارئاً وأن الأميركيين مضطرون لدعم سياسة يرونها خاطئة لتصحيح أسوأ عواقبها.
اذاً ما يجري في الأنبار وفق رؤية المالكي ، تؤكد إنها حرب أكثر من طائفية لإنها تسم كل معارض بالإرهاب أو القاعدة ، لكنه يستخدمها لإكثر من غرض قبيل موعد الأنتخابات المقبلة ، ولهذا سيقت مجاميع من الشباب ( من مكون المالكي) للتطوع بهذه الحرب على أنها حرب مقدسة ، وسخر الإعلام لدعم القوات المسلحة بحجة قيامها بجهد قتالي وطني لتخليص البلاد من الإرهاب ، ووظف الخطاب السياسي للسياسيين ( كتلة المالكي وحلفاؤها) المنظوين في العملية السياسية من داخل البرلمان العراقي ومن خارجه ، لتأييد الحرب على الأنبار ، ثم أخيرا الأستعانة بعناصر الصحوات في الأنبار والتي مكنت المحتل الأميركي عام ٢٠٠٦ من ألتقاط أنفاسه بمعاونة قواته على محاربة المقاومة الوطنية العراقية هناك والتي أوقعت أكبر الخسائر البشرية بصفوف الجيش الأميركي وأفقدته هيبته العالمية ، وإمداد قادتهم بالوعود السياسية و بالمال والسلاح .
لعل المؤسف حقا أن يزور الأمين العام للأمم المتحدة بغداد وأربيل ويلتقي المالكي والبرزاني دون أن يكلف نفسه لقاء ممثلين عن وجهاء الأنبار التي تتعرض محافظتهم لحرب ضروس قابلة للتطور والتمدد لكافة أنحاء العراق ، ومؤسف أيضا ، غياب الجهد العربي الذي يعلم تماما حجم المشروع الذي يقوده المالكي في المنطقة وليس في العراق فقط ، فبعضها يخشى غضبة إيران التي تدعم علنا وبقوة نظام رئيس الوزراء العراقي ، والآخر يقول أن الموضوع عراقي بحت ولا يقترب من أمنه القومي بدرجة ما ، وآخرين أخذهم الخوف من تنظيمات الأخوان المسلمين ويخشون أن تكون لهم يد ما في أنتفاضة الأنبار ! وغير ذلك من مبررات ناهيك عن الصامتين ومنهم ،على غير العادة ، مؤسسة جامعة الدول العربية ، التي لم تتخذ أي إجراء عملي أو إعلامي تجاه الأحداث الدامية في العراق ، ولإن المشروع تم تسويقه والإعداد له بشكل جيد من قبل المالكي والولايات المتحدة فقد شهدت عمليات التغطيات الإعلامية قصورا واضحا من قبل جميع الوكالات والفضائيات التي تنتظر مثل هذه الأحداث في العالم عادة ، ولم نشهد حضورا لإي مراسل عربي أو أجنبي داخل المدن الأنبارية التي تتعرض لعمليات قتل وتهجير بإستخدام القوات المسلحة والأمكانات العراقية بالكامل !