وفق نظام الإنتاج الرأسمالي التقليدي الذي رسم ملامحه العامة آدم سميث في كتابه ثروة الأمم الصادر في العام 1776 فإن جل القيمة الفائضة تعود إلى الرأسمالي المالك لوسائل الإنتاج والمتحكم بقوى الإنتاج، وبحيث لا يترك للعامل سوى ما يبقيه على قيد الحياة لاستغلال قوة عمله في اليوم التالي وحصد القيمة الفائضة عن ذلك العمل في ربح يتم مراكمته بشكل وحشي قد يكون أفضل من كثفه ووصفه بشكل دقيق الأقنومان كارل ماركس وفريدريك إنجلز في عدد من مؤلفاتهما وخاصة في كتاب رأس المال بأجزائه الثلاثة. وعلى الرغم من ذلك الواقع المضني الذي كان يعانيه العامل في ظل ذلك النموذج من الرأسمالية، فقد كان هناك فسحة من الأمل تتمثل في إمكانية استخدام العمال لسلاحهم الوحيد والأمضى متمثلاً في الإضراب عن العمل، والذي كان غالباً ما يتصادف مع نشاط وانخراط للمضربين في العمل في نقابة تنظيمية أو رابطة ما تجمعهم، والتي كان من المحتمل في بعض الحالات التاريخية السالفة أن تكون حزباً عمالياً حاملاً ومدافعاً عن حقوق الشغيلة، وهو ما أدى في عدة منعطفات تاريخية إلى اضطرار الرأسماليين إلى التراجع عدة خطوات إلى الوراء، خاصة مثلما كان في تحولات الربيع الأوربي الذي انطلق في العام 1848 مفضياً إلى نموذج من الديموقراطية التمثيلية البرلمانية، وإلى نموذج دولة الرفاه التي أطلقها بسمارك عقب توحيده للإمارات والدول الألمانية في العام 1886، وتشكيله لنموذج الدولة الأوربية الحديثة كما كان في ألمانيا بعد تلك الحقبة.
ولكن بعد صعود طوفان العولمة وصنوها المتمثل بإيديولوجيا الليبرالية المستحدثة «النيو ليبرالية» في ثمانينيات القرن المنصرم، فقد حدث تطور على شكل تجمع من الطفرات الخبيثة حولت النموذج الاحتكاري للرأسمالية إلى شكل عابر للقارات بأذرع أخطبوطية، وقدرات فائقة للعادة مخترقة لكل تفاصيل المجتمعات التي تهيمن على كل حركياتها عمقاً وسطحاً وعمودياً وأفقياً، مما أفرز تآكل واندثار العديد من المؤسسات الرأسمالية الصغرى والمتوسطة سواء عبر اندماجها أو الاستحواذ عليها من شركات عملاقة عابرة للقارات، أو عبر تصحر مصادر دخلها وعدم قدرتها على منافسة نتاج الشركات العابرة للقارات.
وهو واقع مأزوم أفصح عن نفسه في حيز تراجع قدرة العمال الفعلية على استخدام سلاحهم الوحيد الذي أشرنا إليه آنفاً، وهو «الإضراب عن العمل أو التهديد به»، وذلك جراء التراجع المهول لقدرات العمل النقابي على المستوى الكوني بسبب الهجمات الشعواء التي تعرضت لها خلال حقبة الليبرالية المستحدثة من النخب السياسية التي تصدرت الساحة السياسية على المستوى الكوني، والتي معظمها مصنع وتم تلميعه بأموال الشركات العابرة للقارات نفسها كمقدمة للقيام بواجبها بخدمة أولياء أمرها ونعمتها في تلك الشركات نفسها، بالتوازي مع بروز نسق الإنتاج العولمي الذي أصبح يرتكز أساساً على تحويل الإنتاج إلى دول نامية قمعية مثل الصين وفيتنام وإندونيسيا والبرازيل للاستفادة من اضطرار المفقرين المظلومين في تلك الدول للعمل بأجور بخسة دون القدرة على المطالبة بتحسينها بأي شكل كان سواء عبر العرائض والمطالبات المهادنة أو عبر الإضراب وما كان على شاكلته لاستحالة تحققه في ظل هيمنة قوى الاستبداد وأدوات العنف على المشهد الاجتماعي في تلك الدول بشكل قد يعني الفناء البيولوجي لكل من قد يتفكر بالجهر بمعاناته و المطالبة بحلول لها، كما كان حال قمع كل الإضرابات العمالية في غير موضع من الصين خلال العقود الأربعة الأخيرة منذ تبينها نموذج اقتصاد السوق الحر وانخراطها في نمط الإنتاج العولمي.
وكان بالنتيجة من ذلك التحول إعادة تعضي نموذج الإنتاج الرأسمالي في حقبة العولمة الوحشية المنفلتة من كل عقال لتصبح فيه المؤسسات الرأسمالية مؤسسات «فاشية» بامتياز متسقة مع نمط الإدارة الفاشية القائم الهرمية وإصدار الأوامر من قمة الهرم إلى قاعدته، وبحيث تكون النخب المتسيدة قادرة على تحديد توجهات ومآلات الإنتاج بكليتها في قمة الهرم الإداري، وبحيث لا خيار لأولئك العمال الموجودين في قاعدة الهرم إلا استلام التوجيهات والأوامر والتعليمات وتنفيذها، حتى لو لم يتمكنوا من فهمها، أو لم يتفقوا معها، إذ أن وسائلهم الدفاعية شبه معدومة، ولا خيار لهم سوى بقبول التعليمات وتنفيذها بحذافيرها أو مغادرة العمل للبحث عن فرصة عمل في مؤسسة رأسمالية معولمة أخرى لا يختلف فيها نمط الإنتاج شيئاً عما هم فيه راهناً، مما يجعل العامل يتفكر ألف مرة قبل اتخاذ قرار ترك عمله، خاصة في ضوء انحسار فرص العمل المتاحة في ضوء تهجير الإنتاج الفعلي إلى الدول الاستبدادية في العالم المنهوب المفقر كما أشرنا إليه آنفاً، بالتوازي مع واقع الازدياد المضطرد لأعداد بني البشر، و الذي خلق حالة من فيض قوة العمل البشرية ووفرة في الراغبين «بتأجير أنفسهم بشكل مؤقت» لمن يرغب باستغلال قوة عملهم، مما يجعل عملياً كل الخيارات المتاحة لأي عامل مقهور مظلوم في نسق الإنتاج الرأسمالي بصورته العولمية الاحتكارية الوحشية محدودة يقع معظمها في حيز القبول بالبنية «الفاشية» للمؤسسة الرأسمالية التي يعمل في بنيانها كبرغي قابل للاستبدال متى ما انتهت صلاحيته، وهو عارف بأنه لا حول له ولا قوة في تغيير ذلك إلا بالانخراط في جهود جمعية شاملة قد يكون خيارها الوحيد قلب المعادلة كليانياً، وهو ما يعني «ثورة بنيوية» وتحقيق ديموقراطية حقيقية في بنيات وآليات توزيع السلطة والثروة في المجتمع، وذلك تغيير جذري سوف يتطلب جهوداً عابرة للقارات أيضاً على شكل «نضال أممي Internationalism» كما سماه المفكر نعوم تشومسكي والاقتصادي اليوناني يانس فاريوفاكيس يحد من قدرات الرأسمالية المعولمة على التهديد بإغلاق منصاتها الإنتاجية في مجتمع ما أصبحت الشروط القانونية والتنفيذية وحقوق العمال فيه لا تتناسب مع أهدافها في تحقيق أرباح عرمرمة على حساب العمال المستغلين المقهورين، والهجرة إلى مجتمعات أخرى ترغم الحاجة الماسة للبشر المقهورين فيها على القبول بأي شروط عمل مهما كانت بائسة ومجحفة. وذلك الخيار من التضامن الأممي والاجتهاد الشامل في قلب موازين المعادلة خيار صعب ووعر ومضني، والذي قد لا يكون سواه من خيار لتحسين شروط وطبيعة حياة المقهورين على وجه البسيطة على اختلاف حدة معاناة كل منهم.