وكالات – كتابات :
لم تتوقف وتيرة التسريبات الخطيرة للمكالمات الهاتفية التي سُجّلت للمستشارة السابقة لرئيس الجمهورية التونسية؛ “نادية عكاشة”، وآخرها ذلك الذي يتعلق برئيس أركان جيش البر والمستشار العسكري السابق لرئيس الجمهورية؛ الجنرال “محمد صالح الحامدي”؛ حيث كشف التسجيل عن سخريتها وتهكمها من وزنه السياسي في البلاد، وعدم قدرته على الصمود أمام رئيسة الحزب (الدستوري الحر)؛ “عبير موسي”، أو “نزار الشعري”، المنتج التلفزيوني وأحد الطامحين لرئاسة الجمهورية في “تونس”؛ (يحظى بنسبة تأييد ضعيفة).
لكن هذا التسريب يُعد بلا قيمة، رغم أهمية الشخصية المعنية به، أمام باقي التسريبات التي كشفت فيها “عكاشة” عن مرض الرئيس وتدهور صحته النفسية والعصبية، بالإضافة إلى إثارتها لمسائل عائلية تتعلق بتدخل أفراد عائلة “قيس سعيد”؛ وأصهاره في إدارة الحكم، وعلاقة الرئيس المتوترة بالسفير الأميركي السابق بتونس؛ “دونالد بلوم”.
الصندوق الأسود للرئيس..
لم يكن أحد يتوقع أن ينفتح الصندوق الأسود للرئيس، كما يُفضل خصومها توصيف “عكاشة” به، بهذه الطريقة العلنية والمفرطة في كشف المعلومة والأسرار المتعلقة بأمن واستقرار الدولة التونسية دون تحفظ أو مواربة، مثلما يفعل جل المسؤولين الذين يُغادرون السلطة بعد تأدية مهامهم، خصوصًا أنها كانت مقربة من الرئيس؛ “قيس سعيد”، وتُعد ذراعه اليمنى.
تطورات خطيرة تطرح عدة تساؤلات حول جودة المسؤولين الذين يختارهم الرئيس لمواقع قيادية في الدولة، في ظل وضع اقتصادي وسياسي هو الأصعب منذ قيام الثورة سنة 2010 إلى اليوم، حسب خبراء ومحللين.
فكيف ستنعكس هذه التطورات على الوضع السياسي في البلاد ؟.. وهل أفلح الرئيس عندما قدم مقياس الولاءات على الكفاءات عند اختياره لمحيطه السياسي ؟.. وما السبب وراء انقلاب أقرب مستشاريه ومسؤوليه عليه ؟.. وما النتائج المتوقعة ؟
تسريبات غير مسبوقة في تاريخ “تونس”..
لطالما عُدّت رئيسة ديوان الرئيس السابقة؛ “نادية عكاشة”، بظهورها الصامت وندرة تصريحاتها، الصندوق الأسود وكاتمة أسراره المثالية، قبل أن تكشف في التسريبات التليفونية أهم أسرار “قصر قرطاج”، وما كان يُطبخ في الخفاء عن العامة والنخب على حدٍ سواء.
وكانت “عكاشة” تُرافق “سعيّد” في كل أنشطته، حتى تلك المتعلقة بمقابلة الرؤساء وكبار الشخصيات، فضلًا عن حضورها اجتماعات “مجلس الأمن القومي”.
البعض عدَّ ما جاء في كلامها: “حركة انتقامية”، والبعض آخر رأى فيها: “سقطة أخلاقية” لا تسامح فيها، خصوصًا أنها جاءت من مديرة ديوان “سعيّد” السابقة، والمؤتمنة على شؤون الرئاسة والبلاد دون تحفظ ولا شعور بالمسؤولية، إلا أن الأخطر في الموضوع أن المعلومات التي جاءت في كلامها تُهدد بجديّة أمن واستقرار البلاد وهيبة الدولة عند تطرقها للحالة الصحية للرئيس.
وجاء في التسجيل الصوتي، المتداول على منصات وسائل التواصل الاجتماعي بشكل واسع، أنّ: “نهاية سعيّد ستكون وخيمة جدًا؛ لأنه مريض ولا يُريد أن يعترف بمرضه، ويُصرّ على ذلك”، وأقسمت “عكاشة” أنه: “يُعاني على المستوى الشخصي والنفسي بشكل كبير جدًا”.
وأضافت: “هناك طبيب يُتابع حالته الصحية أكد أنه سيتعرض لأزمة كبيرة مع هذا النوع من الأمراض، في حين أنه لا يتلقى علاجًا يُذكر”. وتابعت أنّ: “المحيطين به من عائلته، وذكرت عاتكة؛ (شقيقة زوجة الرئيس إشراف شبيل)، وشقيقه نوفل سعيّد، زادوا من معاناته”، مستنتجة أنه: “من الطبيعي أن يصل إلى أزمة”.
وقد طالب منسق حملة (مواطنون ضد الانقلاب)؛ “جوهر بن مبارك”، بالكشف عن الوضع الصحي لرئيس الجمهورية؛ “قيس سعيد”: “الوضع الصحي يجب أن يكون موضوعًا عامًا، الأمر لا يتعلق بأمر شخصي، بل بقدرته على القيادة، فقد تكون الاضطرابات النفسية خطرًا على البلاد…”.
وأضاف “بن مبارك”؛ في حديث لإذاعة محلية: “من يُعين نفسه أميرًا وإمبراطورًا؛ عليه إتاحة تقرير عن وضعه الصحي للشعب، وهذا ليس فيه مس بهيبة الدولة”، على حد تعبيره.
وسخرت “عكاشة” من طريقة تعامل؛ “قيس سعيّد”، مع السفير الأميركي الأسبق في تونس؛ “دونالد بلوم”، حيث قالت باللهجة العاميّة بما معناه أن السفير الأميركي في أحد لقاءاته بالرئيس لم يكن مرتاحًا لكلامه، وبأنها كانت تُبادله الشعور نفسه، وطلبت منه عند الرحيل بألا يُقيم له اعتبارًا: “ما تاخوش عليه”، وبأن الرئيس قال لها بأنه سيعُلمه أنه لم يُعد مرغوبًا فيه في “تونس”: “معادش حاشتنا بيه نحنا في تونس”، قبل أن يتراجع عن ذلك بطلب منها.
ويرى مراقبون أن “عكاشة” أخرجت، في هذه المكالمة الهاتفية، ما كان يدور خلف أسوار “قصر قرطاج” من صراع للأجنحة بين عائلة الرئيس ووزير داخليته؛ “توفيق شرف الدين”، وبين “نادية عكاشة” وشبكة المحيطين بها، مرة واحدة بشكل لافت وغير متوقع.
وقال “عماد الخميري”، الناطق الرسمي باسم (حركة النهضة)، في تصريح لإذاعة (شمس إف. إم): “هذه التسريبات تؤكد التصدع والانشقاقات داخل قصر قرطاج”، مضيفًا: “وتضعنا أيضًا أمام صورة جديدة كانت مخفية عن التونسيين، وهي دليل أيضًا على أن الرئيس لديه مشكلة حقيقية في إدارة الموارد البشرية في الديوان الرئاسي”، بحسب تصريحه.
خيانات المقربين.. من المسؤول ؟
يقول “نيكولاس ميكيافيلي”؛ في كتابه الشهير: (الأمير): “إذا أردت اختبار ذكاء الحاكم؛ انظر إلى مستشاريه”.
تُشير مختلف المعطيات والبيانات حول تجربة الرئيس؛ “قيس سعيد”، عند اختيار مستشاريه والمسؤولين القياديين في الدولة، أنه يُقدم الولاءات السياسية على الكفاءة والخبرة في العمل السياسي، وهو ما أدى تباعًا لاستقالة أغلبهم وانقلابهم عليهم، مثلما فعل رئيس الحكومة السابق؛ “هشام المشيشي”، الذي أعلن ولاءه لخصوم الرئيس من (حركة النهضة) وحزب (قلب تونس) وائتلاف (الكرامة)، في أول يوم من التصويت لصالحه في البرلمان، بعدما كان يشغل خطة مستشار قانوني في “قصر قرطاج”، قبل أن يقترحه “سعيّد” رئيسًا للحكومة إثر سقوط حكومة “إلياس الفخفاخ”، على الرغم من خبرته السياسية التي تكاد تكون معدومة، وتجاربه في ميدانه التي تقتصر على وظيفة إدارية سابقة في إحدى المصالح الحكومية.
الرئيس يُريد “تعبئة” الشارع..
ومن بين المسؤولين السابقين الذين انتفضوا على “سعيّد”، “رؤوف بالطيب”، مدير ديوانه الأسبق، الذي انضم لاحقًا لمبادرة (مواطنون ضد الانقلاب)، وصولاً لـ”نادية عكاشة”.
وللتذكير؛ فقد بلغ عدد المسؤولين السياسيين الذين استقالوا أو أقالهم الرئيس: لـ 12 شخصية، من بينهم: “قيس قبطني”؛ السفير السابق بـ”منظمة الأمم المتحدة”، الذي لم يبق في منصبه أكثر من: 07 أشهر، وقبله السفير السابق بالمنظمة؛ “المنصف بعتي”، الذي اتّهمته الرئاسة التونسية بدعم الفلسطينيين في أحد الملفات على حساب علاقة بلده بـ”الولايات المتّحدة”.
وحسب خبراء في الشأن التونسي، فإن الخيط الرابط بين أغلب الذين عينهم “سعيّد” في مناصب سامية وقيادية هو قِصَر تجربتهم السياسية وانعدامها أحيانًا، مثلما هو الحال مع؛ “نادية عكاشة”، وسيرهم الذاتية المتوسطة والمحدودة التي لا تصلح لمواقع قيادية، وإنما لمناصب إدارية أو سياسية دنيا.
إلى ذلك، عدَّ القيادي في حركة (تونسيون من أجل الديمقراطية)؛ ووزير الصحة الأسبق؛ “عبداللطيف المكي”، تعقيبًا منه على تسريبات مديرة ديوان رئيس الجمهورية السابقة؛ “نادية عكاشة”: “قيادة الدولة عندها أصول، والمواقع القيادية ممكن تتطلع على مجالس وأسرار الدولة، لا يمكن أن نُعين فيها نكرات”.
هل يصمد الرئيس ؟
قال الرئيس؛ “قيس سعيد”، في ساعة متأخرة من ليلة الخميس 05 آيار/مايو الجاري، بنبرة غاضبة ومتشنجة كعادته في مواقف مشابهة: إنه لن يسكت على هتك الأعراض ونشر الأخبار الزائفة، في إشارة لحديث “عكاشة” عن عائلته، مشيرًا إلى أن القضاء والأمن سيتدخل لمحاسبة من يقف وراءها.
وكانت النيابة العمومية قد قررت في وقت سابق؛ تعهيد “الوحدة الوطنية” للبحث في جرائم الإرهاب والجريمة الماسة بسلامة التراب الوطني، بالبحث وإجراء التساخير الفنية المستوجبة، بخصوص محتوى التسجيلات الصوتية الواقع تداولها عبر شبكات التواصل الاجتماعي، والمنسوب مضمونها إلى مديرة الديوان الرئاسي سابقًا.
وتُشير مصادر إلى أن التصدع الذي حصل على مستوى محيط الرئيس، قد يُدخل “سعيّد” مرحلة من الشك في مواصلة: “مشروعه السياسي”، مع تعالي الانتقادات بخصوصه في الداخل والخارج.
تُجدر الإشارة إلى أن المواقف الدولية غيرت من لغتها الدبلوماسية مع “تونس”؛ لتنتقل إلى الحديث بنبرة سياسية واضحة، خصوصًا مع التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الأميركي؛ “آنتوني بلينكن”، التي اشترط فيها: “العودة للمسار الديمقراطي مقابل الدعم المادي”.
كل ذلك يُراكم الضغوط على الرئيس؛ “سعيّد”، التي تتزامن مع اندلاع عشرات الحرائق في العديد من المحافظات التونسية، وتصاعد القلق الشعبي بمرور الوقت بسبب غياب الإنجازات، وارتفاع نسبة التضخم، وإشتعال الأسعار، وفقدان المواد الأولية من الأسواق.
كما أن المعارضة زادت في وتيرة لقاءاتها والتنسيق فيما بينها في المواقف والبرامج؛ لقيادة سلسلة من التحركات والاحتجاجات في قادم الأيام.
أيام صعبة يمر بها الرئيس؛ “قيس سعيد”، بمثل صعوبة الوضع السياسي والاقتصادي الذي تعيشه البلاد، وزادت التسريبات الأخيرة لمستشارته السابقة؛ “نادية عكاشة”، من تعقيد الوضع حوله وعزله عن محيطه الخارجي، وهو ما يطرح الكثير من الاستفهامات عن مدى قدرته على الصمود في هذا البحر من الرمال المتحركة.