الافتقار إلى الله في حوارات إبراهيم -عليه السلام- مع قومه
لقد أنعم الله على إبراهيم – عليه السّلام – بعقل راشد يعرف النعمة لصاحبها ويتفطن إلى مواضع النعم ظاهرها وخفيّها، فانظر إلى قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80]. كيف لخص في كلمتين وضع الإنسان ووضع الله تعالى؛ فوضع الإنسان هو الفقر والحاجة، ووضع الله هو العطاء والإمداد والإغاثة، هذا هو الوعي السليم بحقائق الأمور كما تجري في الواقع الموضوعي، لا كما تجري في أذهان وأخيلة أولئك المرضى من البشر الذين يدعون القدرة والإرادة ويتحدثون عن الإنسان القاهر للطبيعة والصانع للمعجزات، فإذا أصابهم أدنى ألم رأيت وجوههم مسودة وقلوبهم الصخرية فارغة ليس فيها سوى الهواء بعد أن ضيّعوها في الكبر والاستعلاء، وتركوا دعوة الله تعالى واستجداء رحمته وهؤلاء من أسباب ما ينزل على الناس من بلاء؛ فالله عزّ وجل لا يعالج هؤلاء إلا بالبلوى تلو البلوى، والمصيبة تلو المصيبة حجة منه عليهم؛ لعلهم يرجعون قبل أن يأخذهم الفزع الأكبر. (درب إبراهيم عليه السلام، سعيد الشبلي، ص145)
إنَّ معظم الأمراض التي يعاني منها الناس اليوم إنما يعود سببها إلى خلل في تطبيق منهج الله عزّ وجل، فيذهب الإنسان إلى الطبيب، فيصف له الدواء فيشفى، فيتوهم أن هذا الطبيب هو الذي شفاه؛ لأنه عالجه، وينسى أن الله عزّ وجل هو الذي شفاه، فيتوجه بالشكر بكل طاقته إلى الطبيب مع أن خطأً صغيراً من الطبيب قد يودي بحياة المريض، نعم؛ اشكر الطبيب إذا خدمك، لكن لا تنسى فضل الله عزّ وجل. (تفسير النابلسي، راتب النابلسي، 8/369).
إن قوله تعالى {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} من أبلغ العبر، ولعلَّ بعض الأطباء يمرضون باختصاصهم، فإذا توهموا أنهم متمكّنون في اختصاصهم؛ لأنهم يأخذون بالأسباب أخذاً مبالغاً به، فإنهم يؤدّبون بأن يصابوا بأمراض هي من اختصاصهم.
وهناك ما يسمى عند الأطباء بالشفاء الذاتي، إذ يُحكم على المرض بأنه عضال، وأنه لا دواء له، وأن المريض لن يعيش إلا أسبوعين، فإذا به يعيش عشرين عاماً بعد قولهم، وإذا بهذا الطبيب الذي قال: لن يعيش إلا أسبوعين، يموت بعد خمس سنين فاسأل أهل الطب واسأل علماء الطب: كم من حالة شفاء ذاتي لا يستطيع العلم ولا الطب أن يفسّرها؟ يجب أن تعلم علم اليقين أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يشفيك مما أنت فيه، فلا يستطيع أحد أن يحول دون هذا الشفاء لقوله سبحانه: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ]فاطر:2[، فمهما كان المرض عضالاً، ومهما كانت المصيبة مؤلمة، فإن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، إذا أعطى أدهش.
ومن لوازم العلاج النفسي أن يقول الطبيب للمريض: ليس هناك دواء، فلا تتعب نفسك، فيلجأ المريض إلى الله عزّ وجل طالباً منه الشفاء، فإذا به يرى ما يدهشه، فهذه الآية تبثُّ الأمل في النفس، والإيمان يبثّ التفاؤل في النفس، ويبثُّ الرضا، ويبثُّ الإشراق، ولكن البعد عن الإيمان بلا إله يجعله منكمشاً على نفسه، لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} ]يوسف:87[، فأحياناً يقول الطبيب هذه علة دائمة، وهذا المرض ليس له دواء، وذلك مبلغه من العلم، ولو علم العلم الكامل الشامل لقال: معلوماتي التي درستها تقول كذا، وعند الله ما ليس عندي، هذا ما يقوله الطبيب المؤمن الذي أعرفه أن هذا المرض لا شفاء منه، ولكن الله عزّ وجل قادر على أن يشفيك منه، فتوجّه إلى الله بالدعاء، وأما إذا جزم بذلك، فهذا الطبيب لا يعرف ما عند الله. (تفسير النابلسي، راتب النابلسي، 8/370).
ملاحظة هامة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: ” إبراهيم أبو الأنبياء والمرسلين”، للدكتور علي محمد الصلابي، واستفاد المقال في أكثر مادته من كتاب: ” تدبر آيات لله في النفس والكون والحياة”، للدكتور راتب النابلسي.
المراجع:
درب إبراهيم عليه السلام، سعيد الشبلي، ام كي للنشر والتوزيع، ط1، 2019م.
تفسير النابلسي “تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة”، د. محمد راتب النابلسي، مؤسسة الفرسان، عمان، الأردن، ط1، 2017م- 1438ه.
إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.