ما معنى أن يكون المرء مثقفا”في خضم تدافع السرديات الأدبية ، وانثيال المرويات التاريخية ، وتدفق الخطابات الاعلامية ، وتراكم الإنشاءات المعرفية ، وتزاحم النتاجات الاجتماعية ، وتصارع الإيديولوجيات السياسية ؟! . هل يكفي المرء أن يكون حائزا”على شهادة جامعية أو حاصلا”على تعليم عال ، حتى ينال شرف أن يصبح مثقفا”؟ . بالتأكيد كلا . وهل يكفي المرء أن يسعفه الحظ وتسنح له الفرصة ليؤلف كتبا”أو يدبج بحثا”أو يكتب مقالة ، حتى نسبغ عليه هالة كونه بات مثقفا”؟ بالمطلق كلا . وهل يكفي المرء أن يتيح له تحصيله المعرفي ليقرأ نصا”أو يترجم دراسة أو يحقق مؤلفا”، حتى نجلله بغار الوقار الإبداعي كمثقف ؟ قطعا”لا ، وهنا تصح ملاحظة مؤلف ؛ سوسيولوجيا الأدب (روبير اسكاربيت) التي مؤداها إن (( الكاتب إذا ما نظر إليه (كمجرد منتج للكلام) لا تكون له قيمة أدبية )) . ما المعيار ، إذن ، الذي يمكن اعتماده لاستخلاص مواصفات هذا الكائن العجائبي ، الذي كتب عنه وقيل حوله وأسبغ عليه ما لا يحصى من النعوت والأوصاف ، أو بالأحرى ما هي المزايا التي إذا ما حظي بها المرء استحق إن ينال هذه الصفة ؟ . ونحن إذ نؤجل الحديث عن القارئ ، الذي هو مدار موضوعنا هنا ونشرع كبداية بالمثقف ، فلأننا على قناعة تامة وإيمان راسخ بأن هذا الأخير ما هو إلاّ نتاج معرفي راق واستحالة نوعية متقدمة للأول ، بعد أن عركته التجربة وألهمته المعاناة لاجتاز تلك المراحل التي من خلالها ؛ صقلت مواهبه وتوسعت مداركه وتنوعت معارفه وترصنت لغته وتشذبت نوازعه . ذلك لأن كل مثقف هو قارئ – وقارئ جيد – بالضرورة ، وبخلافه فلا مناص من أن يتيبس نسغ أفكاره ، ويجف نبع عطاءه ، وينطفئ وهج وعيه ، ويضمحل رصيد لغته ، ويأفل بريق هالته ، ويتحول من ثم إلى ما دون خصائص المثقف التقليدي ، لا بالمعنى الطبقي / الغرامشي ، وإنما بالدلالة المعرفية / الحضارية . إذ طبقا”لرأي الناقد الألماني (فولفغانغ آيزر) انه بسبب ((إن جميع النصوص تتضمن عناصر اللاتحديد ، أو (الفجوات) ، يتعين على فعّالية القارئ أن تكون إبداعية : ففي السعي وراء ملء الفجوات النصية – الفجوات التي تعمل على مستويات متعددة وبضمنها المستوى الدلالي – يحقق القارئ العمل )) . ولكن بالمقابل ليس كل قارئ هو مثقف بالضرورة ، بحيث يغدو مرشحا”للاندراج ضمن خانته والتمتع باعتبار حضوته ، والا لفقد مفهوم الثقافة طابعه التنويري ، وجردت المعرفة من خاصيتها الارتقائية ، وأسقط الفكر عن عرش سلطانه . والحقيقة التي قد لا يستسيغها الجميع – والأحرى لا يدركونها بصورة واضحة – هي إن جودة المثقف في صياغة نصه / خطابه ، وتميزه في سبك أفكاره وطرح تصوراته ، تعتمد اعتمادا”كليا”على نمط القارئ الذي يقرأه وليس العكس كما قد يتبادر إلى الذهن . وآية ذلك إن نباهة القارئ في تعامله مع ما تستبطنه النصوص من معاني ودلالات ، ورهافة وعيه في سبر أغوار ما تشيعه الخطابات من قيم وعلاقات ، قمينة بحمل المثقف – لكي لا يقع في مأزق الإسفاف اللغوي والضحالة الفكرية – إلى اغناء خطابه بالمعاني ، وإثراء أفكاره بالإيحاءات ، وإشباع سرده بالقراءات ، بحيث تنطبق عليه مقولة المفكر الإيطالي (أمبرتو ايكو) التي مفادها إن (( النص كما يلاحظ هو نفسه آلة كسلانة تتطلب من القارئ اشتراكا”حثيثا”لملء فضاءات المسكوت عنه أو المقّول سلفا”التي تبقى عبارة عن بياض )) . ونظرا”لأهمية هذا الدور الذي بات القارئ يمثله والوظيفة التي تسند إليه ، ليس فقط على صعيد تحفيز قدرات الكاتب الإبداعية وشحذ ملكاته المعرفية لكي ينتج النصوص ويصوغ الخطابات فحسب ، وإنما توجيه المجتمع صوب عقلنة تصوراته وانسنة علاقاته وشرعنة تطلعاته . فقد شهدت الآونة الأخيرة توجه ملفت للنظر ، وزيادة ملحوظة في منحى النظريات الأدبية والفرضيات اللسانية والدراسات الجمالية ، التي تؤكد على ضرورة الإقلاع عن تلك النظرة التقليدية ، التي كانت تتعامل مع القارئ كما لو أنه صفحة بيضاء ، لا وظيفة لها سوى تلقي إيحاءات الكاتب وتلقف انطباعاته والتماهي مع توجهاته . وهو الأمر الذي رصدت ملامحه أستاذة الأدب المقارن في جامعة هارفارد الأمريكية (سوزان روبين) محررة كتاب (القارئ في النص) ، حين كتبت تقول (( اليوم قلما يلتقط المرء مجلة أدبية على أي من جانبي الأطلنطي من دون أن يجد مقالات (وفي الغالب عددا”خاصا”من المجلة) مكرسة لنشاط القراءة ، ودور الشعور ، ومتغيرية الاستجابة الفردية ، والمواجهة ، والتعامل ، والاستنطاق بين النصوص والقراء ، وطبيعة التأويل وحدوده : وهذه المسائل تعتمد صياغتها على وعي جديد بالجمهور بوصفه كيانا”لا انفكاك له عن مفهوم النصوص الفنية )) . على إننا حين نجعل من خاصية (النقد) وما تنطوي عليه من مشاكسة في التأويل ومعاكسة في التحليل ، قرينة للقارئ الفاعل في القراءة ودالة على مستوى نضجه لما يقرأ ، لا نروم إلزامه بمعاقرة مظاهر المخالفة الدلالية والمعارضة القصدية ، لمجرد العوم ضد التيار السائد والتوجه المهيمن ، سواء في مجال الفكر أو الثقافة أو الايديولوجيا ، باعتبار إن هذه الأخيرة منتجات قابلة للتلوث بنوازع الذات المتعالية ودوافع الأنا الأوحد . بقدر ما نتوخى له أن يستبطن فضائل المنهجية التفكيكية ، التي لا تتعامل مع النص كما لو أنه معطى مفارق لإرهاصات الواقع ومغاير لهواجس المجتمع ، بحيث يبدو وكأنه يتموضع خارج سياقات المكان الذي ولد فيه والزمان الذي يتحدث عنه ، بزعم إن النص أو السرد ما أن يخرج من دهاليز التصورات والخيالات إلى عوالم المنطوقات والملفوظات ، حتى يمتلك كينونته في ذاته ويحتفظ بحقيقته لنفسه ، كما تدعي أغلب المقاربات النصانية التي أستعرضها الأستاذ (عبد الكريم شرفي) ، ضمن كتابه الممتع ؛ من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة ، مشيرا”إلى تمحورها حول فرضية (( إن النصوص الأدبية تمتلك (ماهيتها) و (دلالاتها) في ذاتها ، وبكيفية (جوهرية) و (لاتاريخية) ، وتتعلق ببنية النصوص ذاتها )) . في حين أنها (= المنهجية التفكيكية) تستلزم ، لكي تفتح مغاليق النص المموهة ، وتستدرج المعاني المخفية ، وتستنطق الغايات المحجوبة ، تحليل بنية السرد إلى عناصره الأولية ، واكتناه شفراته الرمزية ، وتعرية تحولاته الدلالية ، واكتشاف فضاءاته المخيالية . ذلك لأن التفكيك – بحسب دريدا- (( لا يعني البحث عن قصد وعن مؤلف وراء قصد . فالناقد التفكيكي لا يبحث عن انسجام ، بل من مبادئه غياب هذا الانسجام الكلي . فالتفكيكية تقوم بتفجير النص ، وتواجه النص بالنص . فأن تفكك يعني التساؤل عن التعارضات والتراتبيات ، واستخراج التناقضات وعدم الارتباط ، ويعني البحث عن منطق متشكك لا نريد في حقيقة الأمر شرحه ، ولكننا نريد بالأساس أن نتعرف عليه )) . ولما كان مسعى المنهجية التفكيكية ومقصودها يتبأور حول فهم (الفائض في المعنى) و(الانثيال في الدلالات) التي تنطوي عليها النصوص المنتجة ، عبر آليات الشرح والاستنطاق التي تبيحها القراءات المتعددة والمقاربات المتنوعة – وفقا”للقاعدة الريكورية (نسبة إلى الفيلسوف بول ريكور) ، التي مؤداها ((أن تشرح أكثر يعني أن تفهم أفضل)) – فان حصيلة النقد التي يباشرها القارئ حيال تلك النصوص أو السرديات ، سوف تبقى بائسة وغير مثمرة ما لم تتزامن معها وتتضمن فيها ، فاعلية (تأويلية) تتخطى مسبقات الوعي الذاتي وتتجاوز مسلمات الواقع الموضوعي ، صوب عوالم من الوجود والرؤى قل أن يقال عنها إنها تترك القارئ يكابد صدمات ؛ تزاحم التفسيرات وتراكم الانطباعات وتعاظم التمظهرات ، بحيث ما أن يدلف نحو رحاب النص لاصطياد المعنى الذي يحجبه وأسر الدلالة التي يخفيها ، حتى يلفى نفسه أمام غابة من المعاني المتداخلة والدلالات المتشابكة ، التي ما أن يحط رحاله عند هذه حتى تحيله إلى تلك ، وما أن يظن انه أدرك مراده هنا حتى تستدرجه غواية أخرى ، وما أن يتوقع انه بلغ نهاية المطاف حتى يواجه ببداية مستأنفة وهكذا بتتابع زاخر بالحركة وملئ بالمفاجآت ومترع بالانزياحات . ولذلك يبدو إن المعنى الذي يستهدفه القارئ الفاعل ، لم يعد – كما يوضح (ريتشارد كريني) / مؤلف كتاب ؛ دوائر الهيرمينوطيقا : عن بول ريكور – ((مبنيا”بوصفه جوهرا”يمكن حدسه (هوسرل) ، ولا شرطا”متعاليا”يمكن أن ينعكس بمقتضاه المعنى (كانط) ، وبالتالي يرى ريكور إن النص يقتحم محيط تفكيرنا الداخلي ؛ ويضعنا أمام آفاق من الذوات المتفاعلة (بين – ذاتية) في اللغة والتاريخ )) .
[email protected]