وكالات – كتابات :
شكلت دعوة الرئيس الجزائري؛ “عبدالمجيد تبون”، لنظيره الفرنسي؛ “إيمانويل ماكرون”، بزيارة بلاده: “قريبًا”، عقب فوزه بولاية رئاسية ثانية، مفاجأة بالنظر إلى الأزمة غير المسبوقة التي عصفت بالعلاقات بين البلدين، الخريف الماضي.
أكثر المتفائلين لم يكن يتوقع أن تتعافى العلاقات بين البلدين بهذه السرعة، رغم أنه سبقتها عدة خطوات للتهدئة بين الجانبين؛ ما يدعو للتساؤل حول السر وراء هذه “القفزة” في العلاقات، إلى الدرجة التي وصف فيها “تبون”، “ماكرون”، في رسالة التهنئة: بـ”الصديق العزيز”.
رسائل “تبون” لـ”ماكرون”.. طي لصفحة الخلاف الأخير بين فرنسا والجزائر..
عبّر “تبون”، عن إرتياحه لجودة: “علاقته الشخصية”؛ بـ”ماكرون”، والتي يُعدها تتسم: بـ”الثقة”، لكنه بالمقابل وصف تطور الشراكة “الجزائرية-الفرنسية”: بـ”النسبي”؛ ما يُعبر عن عدم رضاه للمستوى الذي وصلت إليه هذه الشراكة.
وربط “تبون”، دعوة “ماكرون” لزيارة “الجزائر”، برغبة في إطلاق: “ديناميكية تدفع إلى التقدم في معالجة الملفات الكبرى”. وحدد هذه الملفات في: “الذاكرة والعلاقات الإنسانية، والمشاورات السياسية، والاستشراف الإستراتيجي، والتعاون الاقتصادي”. حسب تعبيره.
ولم ينس الرئيس الجزائري اشتراط أن تنطلق هذه الشراكة من: “احترام السيادة، وتوازن المصالح”، في إشارة إلى تصريحات “ماكرون”؛ التي عدتها “الجزائر” مسيئة لها.
ويقول تحليل لوكالة (الأناضول) التركية: إنه يمكن اعتبار رسالة “تبون” الأخيرة، طيًا لصفحة الأزمة التي أشعلتها تصريحات الرئيس الفرنسي؛ في تشرين أول/أكتوبر 2021، والتي لا يمكن فصلها عن الحملة الانتخابية الفرنسية المسبقة التي حاول فيها “ماكرون” استمالة اليمين المتطرف إلى صفه.
الولاية الأولى لـ”ماكرون”.. خطوات “رمزية” لإصلاح العلاقات مع الجزائر..
وكانت الولاية الرئاسية الأولى لـ”ماكرون”، مرتبطة بعدة إلتزامات وضغوط اليمين المتطرف الذي تتزايد شعبيته، فإن فوزه بولاية رئاسية ثانية وغير قابلة للتجديد؛ تجعله متحررًا من الضغوط الانتخابية، التي قد تكون أحد أسباب تهجمه على تاريخ “الجزائر”، بحسب (الأناضول).
ففي الوقت الذي كان من المنتظر أن يُعلن “ماكرون”، إعتذاره عن الجرائم الاستعمارية التي ارتكبتها “فرنسا” في “الجزائر”، خاصة أنه وصف الاستعمار بأنه: “جريمة ضد الإنسانية”؛ خلال حملته الانتخابية في 2017، إلا أنه تراجع تحت ضغط لوبي اليمين المتطرف.
واكتفى “ماكرون”؛ في ولايته الأولى، ببضع خطوات رمزية، على غرار فتح جزئي للأرشيف الجزائري في الحقبة الاستعمارية، وإدانته: “لجرائم لا مبرر لها للجمهورية”؛ عند إحيائه للذكرى الستين لقتل الشرطة الفرنسية متظاهرين جزائريين في “باريس”، في 17 تشرين أول/أكتوبر 1961.
وتطمح “الجزائر” أن يتخذ “ماكرون”؛ خلال ولايته الثانية، خطوات أكثر جدية في ملف: “الذاكرة المشتركة”، وذلك لن يكون إلا باعترافه، باسم “الجمهورية الفرنسية”، عن جرائم استعمار بلاده لـ”الجزائر” طيلة: 132 سنة.
وقد يكون هذ ا ما لمّح له الرئيس الجزائري في رسالة التهنئة لـ”ماكرون”، عندما قال: “أقدِّر أهمية الفرصة التاريخية المتاحة لنا لاستشراف المستقبل، والتكفل بطموحاتنا بشجاعة ومسؤولية”. مضيفًا أنه: “لا يمكن للشراكة الإستراتيجية بين الطرفين أن تَتَمتَّن إلا بمعالجة جراح الذاكرة بشجاعة”.
خسارة “لوبان” تصب في مصلحة الجزائر..
على الرغم من خيبة الأمل التي خلفتها الولاية الرئاسية الأولى لـ”ماكرون” لدى الحكومة الجزائرية، بالنظر إلى الخلافات بين البلدين في عدة قضايا وملفات، إلا أن ذلك لم يُغير من حقيقة أن فوز زعيمة اليمين المتطرف؛ “مارين لوبان”، برئاسة “فرنسا”، كان يُمثل أسوأ احتمال يمكن تخيله بالنسبة للجزائريين.
فـ”الجزائر” تملك أكبر جالية في “فرنسا”، جزء كبير منها يحق له التصويت، أو ما يُعادل نحو: 1.2 مليون ناخب، وهي كتلة تصويتية لا يُستهان بها.
وبحسب (الأناضول)؛ فإن زيارة وزير الخارجية الفرنسية الثانية إلى “الجزائر”، بعد 04 أيام من انتخابات الجولة الأولى للرئاسيات الفرنسية، وقبيل 10 أيام من الجولة الثانية، “كانت تحمل في طياتها عدة ملفات، وليس من المستبعد أن يكون دعم ماكرون ضد لوبان، إحدى المسائل التي بُحثت”.
وتجلى ذلك من خلال دعوة عميد “مسجد باريس الكبير”، بعد هذه الزيارة، المسلمين للتصويت لصالح “ماكرون” ضد “لوبان”. ويحظى “مسجد باريس الكبير” بتمويل “الجزائر”، التي لها حق الاعتراض في تعيين عميد المسجد، الذي عادة ما يكون من أصول جزائرية.
كما أن برنامج “لوبان”، الذي يُضيّق على المهاجرين والمسلمين، لا يخدم مصالح “الجزائر”؛ التي تملك جالية كبيرة تُقدر بنحو: 04 ملايين، جزء منهم مجنسون، وآخرون يملكون حق الإقامة الدائمة، ونسبة ليست قليلة بدون وثائق إقامة. لذلك فهزيمة “لوبان”، هي انتصار لـ”الجزائر”، ولكن دعمها لـ”ماكرون” لا بد أن يكون له ثمن، بحسب تقرير الوكالة التركية.
الأزمة مع إسبانيا تدفع الجزائر لرأب صدع العلاقة مع فرنسا..
أحد الأسباب التي تدفع “الجزائر” للمسارعة في رأب صدع العلاقات مع “فرنسا”، انفجار أزمة غير متوقعة مع “إسبانيا”، عقب إعلان رئيس الوزراء الإسباني؛ “بيدرو سانشيز”، دعمه لخطة الحكم الذاتي التي طرحتها “الرباط”؛ قبل سنوات، لتسوية النزاع في “إقليم الصحراء”.
واستدعت “الجزائر” سفيرها لدى “مدريد”، للتشاور احتجاجًا على الموقف الإسباني الجديد من “قضية الصحراء”، كما قررت رفع أسعار “الغاز الطبيعي” المُصدّر إليها دون غيرها من بقية زبائنها، ومن المرتقب أن تفرض مزيدًا من العقوبات على غرار تقليص وارداتها من اللحوم من “إسبانيا”، وتجميد تعاونها مع “مدريد” فيما يتعلق بالهجرة.
وهذا الوضع يفرض على “الجزائر” عدم فتح جبهتين في الوقت نفسه مع دولتين أوروبيتين مهمتين في الضفة الشمالية لـ”البحر الأبيض المتوسط”، وسارعت إلى تخفيف الضغط على الجبهة الفرنسية، بل وزيادة التنسيق معها، بالموازاة مع تصعيد الضغوط على الجبهة الإسبانية.
وتوقيع “الجزائر” على اتفاق مع “إيطاليا” لرفع حجم صادراتها الغازية من: 21 مليار متر مكعب سنويًا، إلى: 30 مليار متر مكعب في آفاق: 2023 – 2024، أثار اهتمام “فرنسا” التي عجلت بإرسال “لودريان” إلى “الجزائر”، في 14 نيسان/إبريل، لضمان حصتها من “الغاز الجزائري”، إلى جانب بحث ملفات عديدة مشتركة. لذا قد تكون الأزمة “الإسبانية-الجزائرية” عجلت بشكل أو بآخر في تجاوز الخلاف “الجزائري-الفرنسي”.
الوضع الدولي المتقلب يفرض على الجزائر وباريس إعادة ترتيب علاقاتهما..
وتفجرت أزمة حادة بين “فرنسا” و”الجزائر”، في أيلول/سبتمبر الماضي، إثر تقليص “باريس” حصة التأشيرات الممنوحة للجزائريين، بذريعة عدم تعاون “الجزائر” في إعادة مهاجريها غير النظاميين.
وفي خطوة تصعيدية ثانية، شكك “ماكرون”، في تشرين أول/أكتوبر الماضي، في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؛ (1830 -1962). وفجرت هذه التصريحات إجراءات تصعيدية من قبل “الجزائر”، على غرار استدعاء السفير الجزائري للتشاور، ومنع عبور الطائرات العسكرية الفرنسية من الأجواء الجزائرية نحو “مالي”، وتقليص شحنات “القمح” المستوردة منها.
ولعب وزير الخارجية الفرنسي؛ “جون إيف لودريان”، دور رجل الإطفاء، عندما توجه إلى “الجزائر”، في 29 كانون أول/ديسمبر الماضي، للقاء الرئيس؛ “تبون”، في زيارة لم يُعلن عنها، أعرب خلالها عن رغبة بلاده في: “إذابة الجليد وسوء التفاهم” الحاصل مع “الجزائر”.
وسمحت هذه الزيارة بعودة السفير الجزائري إلى “باريس”، في 05 كانون ثان/يناير، بعد ثلاثة أشهر من استدعائه؛ ما شكل أول خطوة من “الجزائر” للقبول بالتهدئة التي سعت إليها “باريس”.
وفي 29 كانون ثان/يناير، جرت أول مكالمة بين الرئيسين: “ماكرون” و”تبون”، بعد أشهر من الأزمة، واستغل فيها الرئيس الفرنسي ترؤسه لـ”مجلس الاتحاد الأوروبي”، لتجديد الدعوة لنظيره الجزائري بحضور “القمة الإفريقية-الأوروبية”؛ بـ”بروكسل”، وبحثًا آفاق إنعقاد: “اللجنة العليا المشتركة”.
لم يحضر الرئيس؛ “تبون”، “القمة الإفريقية-الأوروبية”، لكن مبادرة “ماكرون” بالاتصال به أذابت بعض الجليد بين الرجلين، فبعد شهر من تلك المكالمة سمحت “الجزائر” للطائرات العسكرية الفرنسية بعبور أجوائها نحو “مالي” مجددًا.
ويبدو أن الوضع الدولي المتقلب، وتغير التحالفات وتشابك المصالح يفرض على كل من “الجزائر” و”باريس”، إعادة ترتيب علاقاتهما، بعد تجاوز إرتدادات الحملة الانتخابية الرئاسية في “فرنسا”.