نشرت في جريدة الخليج (الإماراتية) والزمان (العراقية) في 27 نيسان / إبريل 2022.
عشية أعياد الميلاد العام 1979 اجتاحت القوات السوفيتية أفغانستان تحت عنوان “النجدة الأممية” لمساعدة الحليف الشيوعي بعد الإطاحة بحكم الرئيس محمد داود خان الذي سبق له أن انقلب على الملك محمد ظاهر شاه العام 1973، وشهدت كابول في الفترة ما بعد العام 1978 ثلاث إنقلابات عسكرية توالى على دستها “الأخوة الأعداء” باستعارة رواية المبدع اليوناني كازانتزاكيس، حيث احتربت القبائل الماركسية فيما بينها.
وخلّف الغزو السوفيتي أكثر من مليون قتيل من الأفغان وما يزيد عن 5 ملايين لاجئ، ناهيك عن تدمير البنية التحتية والهياكل الإرتكازية. وأعادني الغزو الروسي اليوم إلى أوكرانيا إلى ذات المشهد على الرغم من اختلاف طبيعة النظام السياسي (السوفيتي عن الروسي)، لكن المصالح الاستراتيجية تبقى واحدة بغض النظر عن ذلك.
وإذا كانت الورطة الأفغانية التي وقعت فيها موسكو معروفة النتائج، فهل يمكن التكهّن بمآلات الورطة الأوكرانية؟ ويوم اضطّرت القوات السوفيتية للإنسحاب من أفغانستان، كان ثمّة نظام دولي جديد يتكوّن وهو الذي شهد هزيمة موسكو وحلفائها في حرب عالمية لم تطلق فيها رصاصة واحدة، فماذا ستكون نتائج الغزو الروسي لأوكرانيا؟ فهل ثمّة نظام عالمي جديد في الأفق؟ وأين سيكون موقع روسيا فيه، خصوصاً بصعود دور الصين ومنافستها الإقتصادية للولايات المتحدة؟
في اليوم التالي لدخول القوات السوفيتية إلى أفغانستان ترك بريجينسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي رسالة من سطرين على طاولة الرئيس كارتر مفادها أن الإتحاد السوفيتي أصبح على وشك الوصول إلى “المياه الدافئة” وقصد بذلك الخليج العربي بما يملكه من ثروة نفطية، ومن المؤكد إنه قصد بهذا التعبير الرغبة في توريط موسكو بما يشبه ورطة واشنطن وهزيمتها في الفيتنام وبالتالي إجبارها على دفع التكلفة.
اصطدمت القوات السوفيتية بسكان معادين لها، بل مستعدين لخوض قتال لا حدود له معها، حيث اتجهت مجاميع معارضة من الأيام الأولى لخوض حرب عصابات طويلة الأمد، فما بالك حين حصلت على إمدادات ودعم مالي وعسكري من بلدان مختلفة ومتعارضة، سواء الولايات المتحدة أو الصين، إضافة إلى بلدان إسلامية بما فيها عربية، فضلاً عن دول جوار وفي مقدمتها الباكستان.
كان التقدير السوفيتي أن مهمة القوات المسلحة لا تتعدّى أسابيع قليلة، وهو التقدير ذاته الذي كان يعتقد أن تنتهي فيه عملية اجتياح أوكرانيا، لكن القادة العسكريين أيقنوا أنه لا حل عسكري للأزمة الأفغانية ولا حظوظ للنصر، مثلما هو المأزق الأوكراني، فعلى الرغم من تحطيم الجزء الأكبر من القدرات العسكرية الأوكرانية وتدمير العديد من المنشآت والمرافق الحيوية، إضافة إلى الخسائر في الأرواح، فما زال الحل العسكري بعيد المنال، خصوصاً في ظلّ أوضاع دولية مناوئة للتدخّل الروسي وعقوبات شديدة ومقاومة أوكرانية باستثناء المناطق التي تغلب فيها القومية الروسية وهذه إضافة إلى شبه جزيرة القرم التي تم استعادتها بتدخّل عسكري العام 2014 تشكّل نقاط ارتكاز للجيش الروسي، لكنها تبقى غير كافية حتى بدت روسيا في مطالبها “المشروعة”، برفضها نصب صواريخ على حدودها وانخراط أوكرانيا في حلف الناتو، وكأنها تحارب شعباً بكامله.
في أفغانستان تذرّعت موسكو “إذا لم نبادر نحن بالتصرّف سيبادرون هم” (المقصود واشنطن)، وتجد جزءًا من هذه الذريعة في الأزمة الأوكرانية، وحاول الروس استباق واشنطن قبل أن تكمل خططها، فتوغّلوا نحو كييف.
لقد أصبح السوفييت باجتياحهم أفغانستان رهينة لقوى غير ناضجة وفقدت القدرة على السيطرة، وهكذا وقعت موسكو في الفخ، لدرجة أن سوسولوف وبوناماريوف وهما من كبار المفكرين والمسؤولين الحزبيين اعتبرا أفغانستان دولة اشتراكية جديدة على الطريق. وبعد نحو 10 سنوات تراجعت القوات السوفيتية معترفة بعدم الجدوى بعد أن ذاقت المرارة بفضل قرار غورباتشوف.
وإذا كانت مواقف الدول تتحدّد طبقاً لمصالحها، لذلك فإن موقف الصين وحتى الهند بالنسبة للأزمة الأوكرانية يختلف تماماً عن موقف واشنطن ولندن، الذي يتمايز عن موقف برلين وباريس، ناهيك عن موقف الإتحاد الأوروبي بشكل عام وبعض دوله مثل بولندا التي استقبلت نحو 4 ملايين لاجئ أوكراني، لكن المثير في الأمر مواقف بعض النخب العربية، فبعضها أصبح أكثر روسية من الروس أنفسهم، بل أخذ يكيل للأوكرانيين على الرغم من تعرّضهم إلى مآسي وويلات ودمار لا حصر له.
أما البعض الآخر فقد اندفع على نحو لا مثيل له، وربما أكثر أمريكية من الأمريكان لتبرير إجراءات واشنطن العقابية والتي أصبحت ويا للمفارقة المدافعة عن حقوق الإنسان وحق الشعوب في السيادة، بنسيان ما حدث للعراق وقبل ذلك لأفغانستان بعد احتلالهما.
وإذا كان التاريخ لا يصمت، فهل سيقول كلمته اليوم قبل الغد بشأن حل سريع وعاجل للأزمة الأوكرانية؟ وهل سينسحب الروس من كييف؟ وسيتم التوصل إلى تسوية سياسية تضمن احترام سيادة أوكرانيا من جهة وعدم وقوعها تحت هيمنة الناتو وخططه المعادية لموسكو من جهة أخرى. وهل ثمة ملامح لنظام دولي جديد في طور التكوين!!؟