خاص : بقلم – د. عبدالهادي محمد عبدالهادي :
إنتقل النقد البيئي؛ بعد “ماركس” و”إنغلز”، إلى مرحلة أرقى مع عالم الكيمياء ورائد الاقتصاد البيئي البريطاني؛ “فريدريك سودي” -الحائز على جائزة “نوبل” في الكيمياء؛ عام 1921، تقديرًا لمساهماته في معرفتنا لكيمياء المواد المشعة وتحقيقاته في أصل وطبيعة النظائر.
لكنه؛ لم يكن عالمًا في الكيمياء والفيزياء فقط، بل عالمًا موسوعيًا وكاتبًا جديرًا بالقراءة. نشر “سودي” عددًا من الكتب منها: (النشاط الإشعاعي)؛ 1904، (تفسير الراديوم)؛ 1909، (المادة والطاقة)؛ 1912، (كيمياء العناصر المشعة)؛ 1912 – 1914، (العلوم والحياة)؛ 1920، (الاقتصاد الديكارتي)؛ 1922، (الثروة والثروة الافتراضية والديون)؛ 1926، (تفسير الذرة)؛ 1932، (قصة الطاقة الذرية)؛ 1949، (التحويل الذري)؛ 1953.
في أوائل القرن العشرين؛ تعرف “سودي”، خلال أكثر فتراته حياته إنتاجية ككيميائي في “غلاسكو”؛ بـ”إسكتلندا”، على الأفكار الاشتراكية، وبشكل أساس: الاشتراكية البلدية – أو المحلية – وكانت المصادر الرئيسة للإلهام في ذلك الوقت شخصيات؛ مثل: “بيرسي بيش شيلي”؛ و”توماس كارلايل”؛ و”جون روسكين”؛ و”والت ويتمان”؛ و”ويليام موريس”.
في عام 1911 – 1912؛ أدى إضراب عمال المناجم إلى إصابة الصناعة البريطانية بالشلل، وسلط ذلك الإضراب الضوء على مدى اعتماد الإنتاج على طاقة “الوقود الأحفوري”، في ذلك الوقت، أشار “سودي” إلى أن العالم الاقتصادي المعاصر، قد وجد أساسه في هذا النمط المعين من تحولات المادة/الطاقة منخفضة الـ (إنتروبيا).
منذ وقت مبكر كان “سودي” قلقًا بشأن الإمكانات المدمرة لاكتشاف “الطاقة الذرية”؛ وإمكانية استخدامها في الحروب، فأشار في كتابه: (الثروة والثروة الافتراضية والديون)؛ عام 1926، إلى أن إطلاق “الطاقة الذرية” سيدفع كل دول العالم إلى التسابق في تطبيقها في الحرب، تمامًا كما يفعلون الآن مع الغازات السامة والأسلحة الكيميائية المطورة حديثًا، وأن التنافس على امتلاك “الطاقة الذرية” واستخدامها في ظل الظروف الاقتصادية الحالية سيؤدي إلى إنهيار الحضارة العلمية وإبادة سريعة بدلاً من الإنهيار التدريجي.
ارتبط “سودي” لسنوات بحزب (العمل المستقل)، وفي عام 1918، انضم إلى (الاتحاد الوطني للعمال العلميين)؛ الذي تم تأسيسه حديثًا، والذي أصبح من خلاله على صلة وثيقة؛ بـ”هنري ليستر جيمسون”، عالم الحيوان والماركسي الراديكالي، الذي أجرى معه “سودي” مراسلات مكثفة. ناقش “سودي” في مراسلاته؛ مع “جيمسون”، أفكار “ماركس” و”روسكين”، بالإضافة إلى أعمال المُنّظر المصرفي؛ “هنري ماكلويد”.
وكانت محصلة هذه المراسلات هي كتابه: (الاقتصاد الديكارتي)؛ الذي نُشر عام 1922، ويتكون الكتاب في الأصل من محاضرتين كان قد ألقاهما لاتحادات الطلاب في كليتي “بيركبيك” وكلية “لندن” للاقتصاد. وشكل هذا الكتاب منعطفًا حاسمًا في تحول عمله من الكيمياء إلى نقد الاقتصاد ودور النقود من وجهة نظر العلوم الطبيعية والديناميكا الحرارية.
في مقاربته للاقتصاد من وجهة نظر العلوم الطبيعية، أعاد “سودي” إحياء فكرة أن الثروة الحقيقية هي التجسيد المفيد لتحولات المادة “المادة/الطاقة”، وأن الثروة هي عملية تحول أو استقلاب مرتبطة بالاستخدام العقلاني لتدفقات الطاقة، المشتقة في النهاية من الشمس.
ويتفق مع “ماركس” في أن كل الإنتاج البشري له أساس مادي متجذر في الطبيعة والعمل المادي، في تحولات المادة والطاقة، وأن استغلال قوة العمل هو المصدر الوحيد للقيمة التبادلية للمنتجات. أعاد “سودي” أيضًا إحياء منظور القيمة الاستعمالية للأشياء للاقتصاد السياسي الكلاسيكي. ولفت إلى أنه يجب التمييز بين الثروة الحقيقية، التي تتكون من قيم الاستعمال للمواد الطبيعية، وبين الثروة الافتراضية، التي تنبني على القيم التبادلية في الأسواق.
كما سلط الضوء على: “مفارقة لودرديل”، التي كتب عنها؛ “جون ستيوارت ميل”. المفارقة سُميت كذلك نسبة إلى؛ “جيمس ميتلاند إيرل لودرديل الثامن”، وتلخص في أن تدمير الثروة العامة يؤدي إلى زيادة الثروات الخاصة. وفي توضيحه لـ”مفارقة لودرديل”، أشار “ميل”، إلى الكارثة التي يُمثلها الوضع الذي يُصبح فيه الهواء النظيف نادرًا جدًا وقابلًا للاحتكار، بحيث يمكن تحويله إلى سلعة، وبالتالي، تعزيز الثروات الخاصة على حساب المجتمع من خلال تسييل: “الهدايا المجانية” للطبيعة.
الخطأ الرئيس للاقتصاد الرأسمالي، في نظر “سودي”، هو الخلط بين الثروة الحقيقية، التي تحكمها قوانين الفيزياء، مع “المال/الديون”، والتي هي مجرد رموز أو كميات رياضية. في حالة المال، لا يتم تطبيق “قانون الإنتروبيا” – ميل الأنظمة الفيزيائية إلى اضطراب أكبر، ويستبدل “قانون الإنتروبيا” بسحر الفائدة المركبة. ينبغي النظر للنقود نفسها على أنها إمتياز على الإنتاج المستقبلي، وبالتالي، فهي دين مصدر العُملة لحامل النقود. الرياضيات بدلاً من الفيزياء، بالتالي، هي منفصلة عن الحدود والعمليات الفيزيائية، بينما العمليات الفيزيائية التي تصنع الثروة الحقيقية محدودة مهما تغيرت طرقها وأشكالها، وتخضع لـ”قانون الإنتروبيا”.
يرى “سودي”؛ أن الاقتصاد كما تُمارسه الرأسمالية قد تحول إلى مجرد “فن الاكتساب”، بدلاً من: “إدارة الأسرة” أو (Oikonomia)؛ (الكلمة اللاتينية التي اشتق منها كل من الاقتصاد والبيئة). وقال أن النجاحات الاقتصادية في “بريطانيا” والاقتصادات المتقدمة الأخرى قامت بشكل أساس على تسخير طاقة “الوقود الأحفوري” وممارسة الإمبريالية المعاصرة، وليس على أسطورة القوة الفطرية لرأس المال. كان يعتقد أن التخيلات المتطرفة لرأس المال والتمويل تقود العالم نحو كارثة نهائية، فاشتبك مع أفكار “ماكلويد”؛ التي ترى أن العُملة – أو النقود – رأس مال مستبعًدا مسألة القيمة، وأنه لا ينبغي النظر إلى الدين ككمية سلبية، بل يجب اعتباره قيمة إيجابية، فالديون – في نظر “ماكلويد” – هي سلع قابلة للبيع، والمصارف ما هي إلا متاجر لغرض وحيد هو بيع وشراء الديون.
إنتقد “سودي” النظرة الأسطورية القائلة بأن الفائدة المركبة لها أساس حقيقي في الواقع المادي، في تحدٍ لـ”قانون الإنتروبيا”.
وقال أن الديون والفوائد المركبة خلقت مجموعة من العلاقات الاقتصادية غير المستقرة؛ التي تُهدد الحياة البشرية، وأن النظام الاقتصادي الرأسمالي، وخاصة اقتصاد الديون الذي يُشجعه، هو أكبر خطر يُهدد استقرار العالم، و أنه: “إذا لم يتم وضع الاقتصاد على أساس مادي متين، فإن نمو اقتصاد الديون سيدفع البشرية إلى الكارثة”. في هذه الفترة، احتدم السعي للنمو دون حساب، وزادت حدة المنافسة بين الدول على امتلاك السلاح النووي، واندفعت الكرة الأرضية نحو حرب عالمية أخرى.
الثروة الحقيقية الناشئة عن الطبيعة والمشتقة في نهاية المطاف من الشمس لها حدود، وتخضع لـ”قانون الإنتروبيا”، ولا يمكن أن تولد نموًا سريعًا بلا نهاية، كما هو الحال في الثروة الافتراضية، المال والديون. وبينما يواصل اقتصاد النمو الرأسمالي جني الأرباح على حساب تدمير الأرض واستنفاد الموارد الطبيعية واستغلال العمل، يواجه حدودًا مادية لنظام الأرض، الذي لا يمكن أن يتزايد أضعافًا مضاعفة مثل الفائدة المركبة، وبالتالي، يرى “سودي” أن الصراع بين التوسع الاقتصادي القائم على التمويل والأساس البيئي للمجتمع هو أمر حتمي.
أشار “سودي” أكثر من مرة؛ إلى إعجابه بتحليل “ماركس”، وتعلمه من المفكرين الماركسيين، إلا أنه لم يكن يعتبر نفسه ماركسيًا، وبحلول ثلاثينيات القرن الماضي، كان قد أبتعد تمامًا عن النقد الاشتراكي للرأسمالية؛ واتجه نحو أفكار ومخططات الإصلاح النقدي، وربما يرجع ذلك إلى الصراع والتناقض الداخلي بين الرؤية الضيقة لعالم الكيمياء، الذي يعتقد أن النباتات المنخرطة في التمثيل الضوئي هي المصادر النهائية للثروة، وبين النقد الاجتماعي الذي يبحث عن ويصنع البديل.
على العلم أن: “يتكلم بالحق رغم سقوط السماء” – هكذا قال “فريدريك سودي”.