قصة قصيرة
خاص : بقلم – عدة بن عطية الحاج (ابن الريف) :
في ليلة ليلاء شديدة الظلام والمطر يهطل بغزارة، طرد “وليد” من طرف زوجة أبيه، فصار يمشي في الطرقات يُطارد زخات المطر وتطارده، عمّ الهدوء المدينة كأنّها مدينة الأموات، وشعر “وليد” بالخوف الذي اعتراه وركبه ركوب الفارس لحصانه، صار يمشي بلا عقل وبلا روح وعندما أضناه التعب وشعر بالنعاس لجأ إلى الحديقة العمومية لكي ينام على إحدى كراسيها الرخامية، بينما هو نائم رأى والدته الراحلة في المنام تُهدهده بأغاني حزينة وتربت على كتفيه وتقول له: لا تحزن أنا معك، يا فلذة كبدي ويا قرّة عيني، إنّي كلّ يوم وكلّ ليلة أراك من السماء حيث أرقد هناك، هل ترى تلك النجمة المتلألئة في الأفق إنّني أنا أمّك الراحلة، لقد صرت بعد موتي نجمة لامعة وسأضيء لك دربك وسأدخلك مدينة السعادة التي فيها الفرح والسعادة والحبور، سأعرّفك على طائر السعادة الذي سيُحلّق بك في مدن الأحلام الوردية الناعمة، وسيدخلك جنّة السعادة الأبدية التي من دخلها لن يشعر بالشقاء والتعاسة أبدًا.
ـ قال “وليد” وهو مغتبط برؤية والدته الراحلة: يا أمّاه، منذ رحلت من هذه الجنّة الأرضية صرت لا أشعر بطعم السعادة، كلّ يوم أبكي دموعًا غزارًا تنساب على خدّي كالنهر المضطرب، صرت طفلاً بلا أحلام وردية، لقد ضاعت طفولتي بسبب زوجة أبي الظالمة، إنّها تضربني كلّ يوم بسبب وبدون سبب، بل صارت تربطني مع كلابها الضارية التي صارت تنهش جسدي كلّ يوم إلى أن جاء ذات يوم أسد الغابة وأنقذني من أنياب تلك الكلاب المسعورة.
ـ قال لي الأسد: يا بنيّ خذ حذرك واحترس من الكلاب الضارية إنّها تتضور جوعًا من أجل أن تفترسك أنت وأترابك اليتامى، سأصطحبك معي إلى الغابة وسترى العجب العجاب في تلك الغابة الساحرة.
ذهب “وليد” مع الأسد إلى الغابة وكان في استقبالهم الذئب والثعلب، فتعجب “وليد” من هذا الإستقبال العجيب، وقال للأسد: هل صار الذئب صديقك والثعلب نديمك ؟ قال الأسد: نعم، الذئب منذ أن انقرضت النعاج صار صديقي، وصار يصطاد الغزلان مثلي ويفترسها على حين غفلة منّي، أمّا الثعلب فصار صديقي عندما أصبحت أصطاد الدجاج مثله، بل علّمني هذا الثعلب الداهية المكر والخديعة والنفاق، هناك قال “وليد” للأسد: هذا فراق بيني وبينك، لن أعيش معك في هذه الغابة الموحشة لقد لبست مسوح الذئاب وارتديت ثياب الثعالب، الوداع أيّها الأسد المزيّف.
ـ قال الأسد وقد انتفخت أوداجه من شدّة الغضب: أغرب عن وجهي أيّها اللّعين البائس، أذهب إلى زوجة أبيك التي ستسومك سوء العذاب، أنا كنت أريد أن أنقذك من براثن تلك الذئبة الشّرسة، كنت أريد أن أجعلك ذئبًا بشريًّا أو ثعلبًا بشريًّا، ولكنّك اخترت أن تكون إنسانًا يعيش في هذا العالم البشع.
ـ قال “وليد” للأسد: كنت أريد أن أصبح أسدًا بشريًّا، لقد غرّني مظهرك الخارجي، كنت أخالك أسدًا ضاريًا، ولكنّك صرت صديقًا للذئاب والثعالب، وصارت مملكتك ملعبًا للنسور، لقد صرت موئلاً للخديعة وللمكر وللخداع وللبهتان.
ـ قال الأسد لـ”وليد” وهو يبكي: لقد تعرضت للخيانة ونسج الذئب مع الثعلب خيوط التآمر ضدّي وثاروا عليّ وجعلوا مملكتي تحت رحمتهم، لقد تنازلت لهم عن عرشي، فصار الذئب هو الملك والثعلب هو الوزير، أمّا أنا فصرت حاجبًا لصاحب الجلالة الملك الذئب.
ـ صاحت والدة “وليد” في وجه ابنها وقالت له: دعك من الأسد ومن مملكته الساذجة، أنا من سيكون إلى جانبك في أوقات الشدّة، وإذا داهمتك الخطوب فحجّ إلى قبري وسترى ما يسرّك، وداعًا يا بنيّ، سنلتقي في المقبرة.
أفاق “وليد” من سباته العميق وتوجه إلى المقبرة؛ حيث ترقد أمّه هناك، وناداها نداء التائه الضائع: يا أمّاه اشتقت إليك وإلى ذكرياتي المخملية معك، إنّي أريد الذهاب إليك، لكي أعيش مع النجوم وسط الغيوم الكئيبة.
ناداه صوت أمّه من أعماق القبر قائلاً له: لا تحزن يا عزيزي، سألقاك عندما يجنّ الليل ويرخي سدوله عليك، سأحوّلك إلى نجمة قطبية حتى تستطيع محادثتي والجلوس معي.
ها قد جاء الليل وتحوّل “وليد” إلى نجمة قطبية وجلس مع والدته وطفقا يسترجعان الذكريات المخملية قبل أن ينفجر الفجر وقبل أن يلفظ الليل أنفاسه الأخيرة، لقد شعر “وليد” بالسعادة عندما زار والدته في السماء وتسامرا معًا حتّى الهزيع الأخير من الليل، كانت ليلة مقمرة مرصّعة بالنجوم الحالمة بالسعادة السرمدية التي لا تضاهيها أيّ سعادة لا في عالم الواقع ولا في عالم الخيال، إنّها جنّة السعادة من دخلها كان آمنًا من الشقاوة ومن الحيرة ومن الضياع، إنّها جنّة أرضية وسماويّة فيها كلّ السعادة والهناء.