وكالات – كتابات :
أظهرت النتائج الأولية لفرز مراكز الاقتراع؛ فوز الرئيس الفرنسي؛ “إيمانويل ماكرون”، على مرشحة اليمين المتطرف؛ “مريان لوبان”، بنسبة: 58.2%؛ في الانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام 2022، والتي انتهى التصويت فيها مع ساعات الأولى من فجر اليوم، وتُعد هذه النتيحة، أفضل نسبة سجلها اليمين المتطرف في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية؛ في الجمهورية الخامسة على الإطلاق؛ ما جعله انتصارًا تاريخيًا لـ”ماكرون”، لكنه بطعم مرير، كما وصفته صحيفة الـ (لوموند) الفرنسية.
ومن المتوقع أن يظهر “ماكرون” على الهواء مباشرة على شاشة التلفزيون الفرنسي، بعدما أغلقت مراكز الاقتراع الفرنسية أبوابها في المدن الكبرى. بينما لم يجر فرز جميع الأصوات بعد، إلا أنه على عكس غالبية الدول الأوروبية التي تعتمد استطلاعات الرأي لإعلان الفائزين في الانتخابات، تعتمد “فرنسا” على فرز بطاقات الاقتراع من معظم البلديات التي أغلقت أبوابها في الساعة السابعة مساءً الأحد؛ بتوقيت “فرنسا”، عدا: “باريس ومارسيليا” اللتين تغلقان أبوابهما في الساعة الثامنة؛ ما يمنح المنظمين تقديرات أولية مع فارق ضئيل، دون ترك مجال للمفاجآت، حتى إعلان النتائج الرسمية؛ يوم 27 نيسان/إبريل.
لم يكن فوز “ماكرون”؛ بولاية ثانية، أمرًا مؤكدًا، بسبب انفجار أزمة اقتصادية أطاحت أساسيات المعيشة خلال ولايته الأولى، إلا أن الناخبين الفرنسيين لم يروا في المتقدمين للانتخابات، المرشحين الذين أرادوهم، وذلك بعد نتائج يوم الأحد 10 نيسان/إبريل 2022، التي أظهرت تقدم “ماكرون” على منافسته؛ “مريان لوبان”، بفارق خمس نقاط مئوية فقط، بحصوله على: 27.6% من الأصوات؛ ما رآه الكثير عودة بالزمن لانتخابات عام 2017، لكن بفارق أقل في الأصوات مما كان عليه قبل خمس سنوات – عندما فاز “ماكرون” – وذلك بسبب تغيير اليمين المتطرف خطابه العدواني إلى خطاب شعبي، وبينما كان من المتوقع أن يفوز “ماكرون” في الجولة الثانية، كان لدى “لوبان” فرصة حقيقية هذه المرة، لكن كيف فعلها اللاعب الذي يُجيد الرقص على كل الحبال ؟
01 – “ماكرون” استثناء نادر وكلمة السر “منع التطرف”..
لم يتول رئيس فرنسي يتمتع بأغلبية برلمانية ولاية ثانية؛ منذ عام 1958، في ظل الدستور الجمهوري الخامس، الذي بدأ العمل به في عهد؛ “شارل ديغول”. وقد قلص استفتاء عام 2000، فترات الرئاسة الفرنسية من سبع سنوات إلى خمس سنوات، وأتاحت الإصلاحات الدستورية؛ في عام 2008، فرصة للرؤساء للحكم ولايتين متتاليتين فقط، لكن لم ينجح أحد. كان الرئيسان الوحيدان اللذان أعيد انتخابهما من أحزاب المعارضة، التي تفتقر للأغلبية البرلمانية، وهما: “فرانسوا ميتران”؛ في عام 1988، و”جاك شيراك”؛ عام 2002، ولم ينتخب الشعب الفرنسي أي رئيس له لولاية ثانية، منذ ذلك الحين، حتى إعلان فوز “ماكرون”.
تناول تقرير الـ (إيكونوميست) عدة تفسيرات للولع الفرنسي بعدم انتخاب رئيس لولايتين، وجاء في المقدمة تراجع رضا الناخبين وارتفاع نسب الإمتناع عن التصويت في الانتخابات الفرنسية؛ فسجلت الانتخابات الرئاسية الفرنسية؛ عام 2017، نسبة إمتناع تجاوزت: 25% من الناخبين، وأمتنع: 50% خلال الانتخابات التشريعية التي تبعتها، ثم فشل “إيمانويل ماكرون” في بث الإيمان بالعملية السياسية في قلوب الفرنسيين خلال فترة ولايته، إذ شهدت إثنتان من كل ثلاثة انتخابات، معدلات إمتناع قياسية عن التصويت، وانتهت بأقل نسبة مشاركة في الانتخابات الرئاسية، خلال الجولة الأولى؛ في 10 نيسان/إبريل الجاري، بنسبة إمتناع بلغت: 35%؛ ما شكك في احتمالية فوز “ماكرون”.
لم يفز “ماكرون” من منطلق الإقتناع به، لكن: “لمنع التطرف”؛ فكان من اللافت أن ما حدث، محاكاة لمواجهة “جاك شيراك”؛ في الجولة الثانية لـ”جان ماري لوبان”، زعيم (الجبهة الوطنية)؛ في عام 2002، ووالد “مريان لوبان”، الزعيمة الحالية لـ (الجبهة الوطنية)، التي خسرت في الجولة الثانية أمام؛ “إيمانويل ماكرون”؛ عام 2017، ثم خسرت مرة أخرى؛ في نيسان/إبريل 2022، وكان تطرف “لوبان” الأب واضطهاده للمهاجرين وعنصريته ضد الأجانب؛ سببًا قويًا في انحياز الناخبين لإعادة انتخاب؛ “جاك شيراك”، لولاية ثانية؛ ما تكرر هذه المرة، بعد تصريح الابنة المتطرفة بنيتها منع الحجاب والهجرة.
02 – مناظرة “السيدة والماركيز” والتلويح ببطاقة الحرب الأهلية..
كانت المناظرة التي جرت عام 2017؛ بين “إيمانويل ماكرون” و”مريان لوبان”، سببًا في خسارة “لوبان” في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، بعدما أظهرت عدوانية مفرطة، قابلها “ماكرون” بهدوء ليُشير إلى مفاهيمها الخاطئة، وأوجه قصورها في العمل السياسي، حتى خرجت “لوبان” عن السيطرة، واصفة “ماكرون”: بـ”مرشح العولمة غير المنضبطة، والهشاشة الاجتماعية، والعمالة المؤقتة”، لكن هدوء “ماكرون” مكنه من استغلال انفعالها لصالحه دون الدفاع عن سياساته.
تكررت المناظرة بالغة الخطورة التي استمرت ساعتين ونصف؛ قبل أيام من الجولة الثانية لانتخابات عام 2022، وكانت فرصة ذهبية لـ”لوبان” لتفادي تكرار الأداء السييء والمشوش والعدواني الذي حسم هزيمتها؛ في نهاية المطاف عام 2017. تلك المرة، رغم هدوئها المصطنع، وغطرسة “ماكرون”، استغل الأخير وعود “لوبان”: “الخيالية”، والمشاكل، والتناقضات، والمستحيلات في برنامجها، وفشلت “لوبان” – في المقابل – في استغلال سجله الحافل بالفشل في إدارة الدولة.
على جانب آخر، ساعدت التنازلات التي قدمها “ماكرون”؛ بشأن آرائه التعسفية، مثل رفع سن التقاعد، في استعادة بعض الأصوات، وذلك وفقًا لاستطلاعات الرأي التي تلت المناظرة، وظهرت فيها “لوبان” تتربع على مقعد الخاسر المؤكد.
لم يكن اتهام “ماكرون”؛ لـ”لوبان”، بالتبعية لـ”موسكو” مفاجئًا، فقد أشار لتبعيتها لـ”روسيا”، وإعجابها بـ”بوتين”، والقرض الذي تبلغ قيمته: 09 مليون يورو، وتحصلت عليه مرشحة اليمين المتطرف من بنك روسي؛ عام 2014، وهو القرض الذي لم يكن نقطة ضعف، لولا الحرب الدائرة في “أوكرانيا”. فقد اتهم “ماكرون”؛ منافسته، باعتمادها على القوة الروسية، وشكك في إيمانها بالمصالح الفرنسية؛ لأن اهتماماتها منصبة على إرضاء الرئيس الروسي؛ “فلاديمير بوتين”، بعد زيارتها له في “موسكو”؛ عام 2017.
استغل “ماكرون” أيضًا خطاب “لوبان” العنصري، ووصف رغبتها بحظر الحجاب في الأماكن العامة بالمعادية للحرية والتسامح، والمنتهكة لحرية التعبير الديني المنصوص عليها في القانون الفرنسي، وخيانة للروح الفرنسية، ومن شأنها أن تتسبب في حرب أهلية؛ ما ساعد “ماكرون” في إقناع الناخبين المسلمين المترددين بالتصويت له.
أفزع “ماكرون”؛ الفرنسيين، خلال المناظرة بربطه فوز “لوبان” باحتمالية خروج “فرنسا” من “الاتحاد الأوروبي”؛ بسبب اقتراحها إجراء استفتاء حول: “المواطنة، والهجرة، والهوية”، والذي يهدف إلى وضع مجموعة من السياسات الوطنية: “الفرنسية أولًا”، ومن شأنه أن يولد أزمة دستورية، ويحول “فرنسا” إلى دولة مارقة في “الاتحاد الأوروبي”، وتمزيق الوحدة الغربية في أصعب أوقاتها.
03 – والشعب الفرنسي وجد من “يحنو عليه” في اللحظات الأخيرة !
كان أمام “ماكرون” أسبوعان لإقناع الفرنسيين بمنحه فرصة أخرى في الجولة الثانية، بدلًا عن المقامرة بمستقبل “فرنسا” مع رؤية “لوبان” المتطرفة. كانت المحطة الأولى لـ”ماكرون” بلدة “دينين” الشمالية، والتي تتميز بكونها أفقر بلدية في “فرنسا”، والتي صوتت لصالح “لوبان” في الجولة الأولى، وأظهر “ماكرون” تواضعًا في الملبس والأسلوب مع أهل البلدة لاستمالة عواطفهم الغاضبة من اهتمامه بالنخبة على حساب الفقراء.
جاء ذلك التحول في شخصيته بعدما أشار استطلاع رأي أجرته شركة (إبسوس-IPSOS) إلى تغير أولويات الفرنسيين في الأيام الأخيرة قبل الاقتراع، وتقدم القوة الشرائية بنسبة: 65%، تليها الهجرة بنسبة: 53%، والمعاشات التعاقدية بنسبة: 30%.
جاءت التعديلات السريعة في برنامج الرئيس المنتخب لمواجهة “لوبان”؛ التي أصرت مرارًا على أنها ستُعيد أموال الفرنسيين للفرنسيين، فأعاد “ماكرون” تخطيط ميزانيته العمومية، وعرض برنامجًا يهتم بالقوة الشرائية للفرنسيين، فور ترشحه للجولة الثانية من الانتخابات، بعدما كانت قضية القوة الشرائية غائبة عن برنامجه الانتخابي، بسبب تركيزه على الحرب “الروسية-الأوكرانية”، لكنه أدرك خطأه قبل أيام من الجولة الثانية، وأعلن عن زيادات أكبر في المعاشات التقاعدية وأسرع مما أعلن قبل ذلك، وعن اهتمامه بالطبقة الوسطى، وتخفيضات ضريبية، وتحسين القوة الشرائية للفرنسيين، وهو المصطلح الذي غاب عن ذهنه طوال شهر ونصف.
04 – وأخيرًا.. السييء يفوز على الأسوأ..
كان فوز “ماكرون” نتيجة يملؤها الأسف لعدم وجود خيارات أخرى، ورغبة في تجنب الأسوأ، فرغم أن سياسة “ماكرون” معيبة بلا شك، تبدو “لوبان” في نظر اليسار والوسط شرًا متجسدًا؛ ما دفع أغلب النشطاء ن من أنصار مرشح اليسار المتطرف، “جان لوك ميلنشون”، إلى اتخاذ قرار بالإمتناع عن التصويت أو إبطال أصواتهم في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية بين: “ماكرون” و”لوبان”؛ كما دعا “ميلنشون” أنصاره لعدم التصويت لـ”مريان لوبان”، لكنه لم يوجههم إلى التصويت لـ”ماكرون”.
بدت علامات الحسرة في تراجع إقبال الفرنسيين على الاقتراع، خاصة الشباب الذين نقلت صحيفة الـ (لوموند) اختيارهم قضاء عطلتهم بعيدًا عن صناديق الاقتراع؛ فيحق لما يقرب من: 49 مليون فرنسي التوجه إلى صناديق الاقتراع، لكن كانت نسبة الإقبال في منتصف نهار يوم الأحد؛ للبت في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية: 26.41%، وفق ما أعلنته “وزارة الداخلية” الفرنسية، ما يقل بنقطتين عن عام 2017، وأربع نقاط عن عام 2012، لكنها ارتفعت بدرجة طفيفة عن نسبة المشاركة بالجولة الأولى قبل أسبوعين، والتي سجلت: 25.48%، مع خوف أكبر من نسبة الأصوات الباطلة والفارغة تعبيرًا عن رفض كلا المرشحين، ثم نقلت صحيفة الـ (لوموند) إعلان “وزارة الداخلية” الفرنسية ارتفاع نسبة المشاركة لفترة ما بعد الظهيرة إلى: 63.2%؛ ما يقل بنقطتين عن المشاركة المسجلة في التوقيت نفسه بالجولة الأولى.
لم يرد بعض الناخبين الاختيار بين: “ماكرون” و”لوبان” في الجولة الثانية، وفضلوا ترك ورق الاقتراع فارغًا، وجدير بالذكر أن نسبة التصويت الفارغ بـ”فرنسا” يجري احتسابها، ومن المتوقع أن يُسجل التصويت الفارغ رقمًا قياسيا في الجولة الثانية من انتخابات العام الجاري، بعدما حطمت الجولة الثانية في الانتخابات الرئاسية لعام 2017؛ رقمًا قياسيًا يعود لعام 1969.
لا يجري النظر إلى الإمتناع عن التصويت وإبطال الصوت بوصفه خيار سياسي واعٍ، رغم الارتفاع المتزايد لنسبة الممتنعين؛ لأنه قد يعكس عدم القدرة على الذهاب لمراكز الاقتراع، أما التصويت الفارغ فمعترف به منذ قانون 21 شباط/فبراير 2014، لكن لا يمكن حسابه ضمن الأصوات الصحيحة؛ فينص الدستور الفرنسي على أن حصول رئيس الجمهورية على: 50%+1 من الأصوات هو شرط لا غنى عنه للفوز؛ ما دفع بعض مرشحي المرحلة الأولى، مثل: “آن هيدالغو، وجان لوك ميلينشون”، لاقتراح الأخذ بالأصوات الفارغة، وإلغاء نتائج الانتخابات في حالة عدم وجود أغلبية مطلقة لصالح مرشح ما، لكن أعلن “إيمانويل ماكرون” أنه لن يهتم بها.