24 فبراير، 2025 9:05 ص

“فرنان إيفتون” في رسائله إلى زوجته وابنه .. “الجزائر” في آخِر الأمر ستنتصر !

“فرنان إيفتون” في رسائله إلى زوجته وابنه .. “الجزائر” في آخِر الأمر ستنتصر !

خاص : قراءة يقدمها – محمد بوزرواطة :

كَم هي عذبة ورقيقة رسائل المناضل الشيوعي الفرنسي؛ “فرنان إيفتون”، (1926 – 1957)، إلى زوجته وابنه، شهورًا قليلةً قبل أن يُنفّذَ فيه حُكم الإعدام؛ بتاريخ: 11/02/1957،  بالساحة المركزية بسجن “سركاغي” بالعاصمة. رسائل تنطوي على مِقدار كبير من رهافة الحِسِّ وفيض متدفق من العواطف والمشاعر السخيّة والصادقة، تُجَاه زوجته وابنه الوحيد، كما يُعثر “القاريء” دون كبير عناءٍ على نزعة الإلتزام والارتباط العضوي، مع الشعب الجزائري البسيط في دفاعه المُستميت من أجل الحرية والكرامة المهدورة.

الروائي الكبير؛ “رشيد بوجدرة”، أعاد النبْشَ في الدفاتر القديمة، والحفر في تضاريس الذاكرة المنسية، من خلال العودة إلى رسائل “فرنان إيفتون” إلى زوجته وابنه الوحيد، عبر روايته: (فوضى الأشياء)؛ (1991)، ليستثيرَ المُخيّلة، ويضعُنا – وجهًا لوجه – أمام غطرسة الآلة الاستعمارية، وما ألحقتهُ من تنكيلٍ وضيمٍ في حق هؤلاء من “أصدقاء” الثورة الجزائرية مِمَّن دفعوا أرواحهم قُربانًا لها.

خصَّص “بوجدرة”؛ فصلاً كاملاً موسُومًا: بـ”11/02/1957″، أي اليوم الذي شَهِدَ فيه حُكم الإعدام بالمقصلة على؛ “فرنان إيفتون”، طبعًا جاء ذلك في سياق روائي مُحْكَم تنسجم فيه رؤية “بوجدرة” الإبداعية مع سياق الأحداث وتداخُلِها، مع انتقالٍ ذكي بين الأزمنة والأمكنة، بدون إفتعالٍ أو تعسُفٍ، ولذا جاء عمله مُتساوِقًا، لم يخرج عن مُقتضيات التاريخ، أو مُتطلبات الفن الروائي الحديث، بل أَضحَت روايتُه – (فوضى الأشياء) – برمّتِها مَحَكًا لاستحضار الأشياء المنسية، وأداةً للكشف والمُساءلة والتعرية ؟

بعبقرية الروائي وصَنعَة الفنان الماهر، يُعيد “بوجدرة” ترميم الذاكرة واستعادة تلك اللحظات المِفصلية في حياة رجل، ومناضل نزيه، عاش داخل متاهة شائكة من الحيرة والتساؤلات، قادتْه في نهاية المطاف إلى الحسم النهائي والوقوف مع الشعب ضد مُغتصبيه، يرصد “بوجدرة” التفاصيل الدقيقة التي تَغافَل عنها المؤرخون، عبر سيرة هذا المناضل الفذ، الذي رحل عن سن: (31 سنة)، دون أن يتمكّن من رؤية الأعلام الجزائرية وهي تُرفرف بأناشيد الحرية، في الشوارع والطرقات وسطوح البيوت.

“رشيد بوجدرة”؛ يلِجُ حميميات “فرنان إيفتون”، ولا يترك صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصَاها، في روايته، فالغرفة التي يثوي بداخلها “النزيل” تحمل رقم (63)؛ والسجين يحمل رقم (1122)، أمَّا اللحظة الحاسمة لتنفيذ قرار الإعدام، فهي الإثنين 11 فيفري من عام 1957؛ على الساعة الخامسة صباحًا وعشر دقائق، بِمثل هذه المُلامَسَة الدقيقة والتصوير المُذهِل للحَدَث الفاجع، استطاع “بوجدرة” بإقتدارِ كبير الإحاطة بالمشهد التراجيدي من كُل الجوانب والزوايا.

هي أربع رسائل – إذًا -، أمْكن لـ”بوجدرة” إدْراجَها في سياق روايته: (فوضى الأشياء)، رسالتان مُوجَّهتان إلى ابنه الصغير يُحثُّهُ فيهما بالتحلّي بالشجاعة والصبر، والإعتناء بالدراسة، ويُلفِتُ انتباهَه وهو – الصغير – بضرورة التضحية من أجل الآخرين والبسطاء على نحوٍ خاص.. يقول “فرنان إيفتون”؛ لطفله الوحيد: “المناضل الثوري.. يا بُني.. هو من يُضحِي ليس فقط من أجل مبادئه، بل من أجل سعادة الناس وبخاصة الفقراء منهم والبسطاء،….”. وفي رسالة ثالثة مُوَجهةٍ من زوجته؛ “بيّاتريس”، إلى زوجها المسجون بـ”سركاغي”، يقِف القاريء مَشدوهًا أمام عَظَمةِ هذه المرأة وصمودها مع زوجها في أحْلَكِ اللحظات وأصْعب المواقف والمحن، تقول في إحدى مقاطعها: “زوجي العزيز.. لقد أحزننِي موت أبيكَ، لكنه لم يُفاجِئني، والقرار الذي أقحمتَه في قلبِك، هزّني لكن لم يُدهِشنِي.. لم أكن أدري مَا الذي تصنعه في تلك الاجتماعات خارج المدينة الكبيرة ؟.. في  تلك اللحظة أدركتُ بأنَكَ تقومُ بشيء جاد وهام، بدأتَ على حين غِرة تصيرُ مُشابهًا لِأخيكَ المسكين، ولستُ أدري ماَ إذَا أدركتَ ذلكَ أم لا ؟ لم أنخدِع، كما تَرى،… لأننِي وثِقْتُ كُلَّ الثقة، من أنّه سوفَ يأتي يوم ننتقِم فيه لفقرنا ولفَقر هذا الشعب الطيب الذي يستحِق كل خير… زوجتك التي تُحبك”.

أما الرسالة الرابعة المُطوَّلة نسبيًا؛ فهي التي كتبَها؛ “فرنان إيفتون”، بتاريخ الجمعة: 07 كانون أول/ديسمبر 1956، قبل إعدامه بشهرين، يستشِّفُ “القاريء” منها تلك الهِمّة العالية والروح الوثّابَةِ المُتطلِعة نحو الحياة والأمل، يقول “فرنان إيفتون”: زوجتي العزيزة، “بيّاتريس”؛ صغيرتي المُدلّلة، فهمتُ من رسالتك الأخيرة، أنك بصدد بيع الأثاث وسخّانِ المَاء، إذا كُنتِ بحاجة إلى شيء من المال، فَمِنَ المعقُول أن تَبيعي مَا لديكِ، أعلمُ بأنّكِ طُردِتِ من مصنع “الخياطة”، بعد أن أُلْقِي عليَّ القبض، كما فهمتُ أنّ معنوياتِك هابطة، وكأنَّكِ فقدتِ كل أملٍ، أقولُ لكِ بأنَّنِي لم أَمُت بعد، وبأننِي متفائل، أنا المحكوم عليه بالإعدام، أُشجِّعُكِ وأطالِبُكِ بأن تَثقِي بالمستقبل، أرجوكِ عزيزتي تسلَّحِي بالشجاعة والصبر الجميل والإيمان الوطيد بقضيتنا، مثلمَا كان الأمر من قَبل، أنا واثْق من أن تلك الأزمة ستزول قريبا.. اتصلِي بالأصدقاء والرفاق أمثال: “كرديال” و”عربيب” و”بن علي”.. أذهبي إلى السينما من حين لآخَر، وقُصَارى القول، حاولي أن تعيشي حياة عادية، تشبّثي بالحياة حتى أجدُكِ بعد الإفراج عنِّي في صحة وعافية.

آخر كلمة تفوّه بها “فرنان إيفتون”؛ قبل أن يَمُدَّ رأسه للمقصلة، حَسْبَ شهادة الجزائري: “عبدالقادر قروج”، المحكوم عليه بالإعدام، قال: “إيفتون؛ الحياة لا تعني أيَّ شيء بالنسبة لي مَاَ لم تَكُن من أجل فرح وسعادة الآخرين… تحيا الجزائر”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة