خاص : بقلم – سعيد العليمي :
وقد كان الاحتجاج والإذعان عنصرين متناقضين دائمًا حتى في تاريخ التصوف ذاته. وهنا يتواجه “الحلاج” و”الشبلي” وكأنهما ممثلي هذين التيارين اللذين تصارعا في الفكر الإسلامي تحت اسمي: “القدرية” (القائلون بالاختيار) و”الجبرية”. بل إننا يمكن أن نقول أن جانبي التصوف قد تصارعا داخل “الحلاج” ذاته، وقد عبرعن شكوكه حين كان “الشبلي” يُحدثه عن الشرور الكونية وضرورة أن يكون الخلاص فرديًا.
دعني أتأمل فيما قلت الآن
يا شبلي ها أنت تزلزلني في داري
والسوق يزلزلني أن أترك داري
كلماتك تجذبني يمنة
وعيني تجذبني يسرة.
وسوف تكون هذه الشكوك التي لا تُعبر عن عمق الإيمان إحدى فروع الشجرة التي يُصلب عليها “الحلاج”.
وتمتد الأذرع الأخطبوطية لروح “الشبلي” لتلتف حول عنقي التاجر والواعظ، فالأول يعتبر الكون قد قام على العدوان، ولا يبقى سوى الاحتيال عليه، والثاني يُقرن الضراعة إلى رب العرش بالحكمة غير البلغية في كل أنظمة الاستبداد الشرقي.
والعاقل من يٌحرز في كلماته لا يعرض بالسوء لنظام أو شخص أو وضع أو قانون أو قاضٍ أو والٍ أو محتسب أو حاكم.
ويبدو “الحلاج” باحثًا عن الشهادة كنية مبيتة، وهو يُشيط بدمه ويحرض الأغيار على قتله؛ فإذا غسلت هامته بالدماء فقد توضأ وضوء الأنبياء – على حد قوله – إنه يُريد أن يضمن حياة كلماته ويبرئها من عقم الألفاظ فيرويها دمًا. أمن الحتمي أن تحتاج الكلمات إلى دم حتى تحيا أم يكفيها أن تحيا بين الناس بكل ما تحمل الحياة من معنى ومن دلالة.
والمأساة تفترض تناقضًا لا يقبل الحل من الناحية الموضوعية. و”الحلاج” إذ يعرف وقع كلماته التي يتحدد أثرها بمعزل عنه، يُدرك أيضًا من ضمن آثارها أنها قد تودي به، بل إنه يقطع بذلك. فالمصير الذي يُلاقية هنا، منطقي لا يفاجئنا، كما أنه لا يُفجعنا، ومن ثم لا نحس بعناصر المأساة بمعناها التقليدي، فـ”الحلاج” يصرخ في المساجد والأسواق بأنه: “الحق”، ويُعلن: إعلموا أن الله تعالى قد أباح لكم دمي فأقتلوني… وعلى دين الصليب يكون موتي.
وكأن من يقتلني مُحقق مشيئتي
ومُنفذ إرادة الرحمن
لأنه يصوغ من تراب رجل فان أسطورة وفكرة
يبدو القسم الأول من المسرحية؛ “الكلمة”، كلوحة مستطيلة مسطحة خالية من أي حدث وينمو من الأدنى إلى الأعلى عبر صراع، “ولأن المسرحية ذات طابع فكري فهي تطمس ملامح الشخصيات وكأنها أفكار قد فقدت الحياة، وليس من الصعب أن نجد معادلاً فكريًا لكل شخصية، حتى أننا نرى الشرطة وقد تمثلت وعيًا فلسفيًا عميقًا، فهم يعرفون مسائل علم الكلام وقضايا الفلسفة، فيناظرون الحلاج ويستدرجونه مقدمين وثيقة اتهامه “الإيديولوجي” فأحدهما يتحدث عن: “المعطلة” والآخر عن: “الحلول”.
ويبوح “الحلاج” بالسر: “لقد أحببت من أنصف، فأعطاني كما أعطيت”، وهكذا أخذ من زهوه إلى حتفه. من أجل حديث الحب أم من أجل حديث القحط، هذا ما لا يدريه “الحلاج” ذاته !.. فهو يضع قدمًا في ضباب السحب وقدمًا في الأرض، ويتعثر تارة في الأوهام وتارة في أحلام الحياة.
إن “الحلاج” يضرب بجذوره في أعمال “صلاح عبدالصبور” السابقة. لقد تخلقت عناصره قبلاً، وإكتملت في مسرحيته هذه. وخاصة في ديوانه الثالث: (أقول لكم). وفى قصيدته: (القديس)، نرى العظام الدقيقة للصوفي المقبل وهي تتخلق. كما نرى أيضًا ذلك المعنى الذي يمنحه “صلاح عبدالصبور” للكلمة في: (أقول لكم)، فهي التي تصنع النقمة أو الفرحة كما أنها ملاذ وسهم، أما علاقة الكلمة بالفعل فهي أن تُقال فقط كشكل وحيد من أشكال “الفعل”. فالقلب إذا غمغم، والحلق إذا همهم، والريح إذا نقلت: “فقد فعلت، فقد فعلت” وفق ما يقول شاعرنا في قصيدته الكلمات. وهذا المعنى للكلمة هو ما سيدور حوله الصراع في القسم الثاني؛ المعنون: “الموت” في مسرحية (مأساة الحلاج)، حيث لم يتطور مفهوم شاعرنا لها من خلال رحلته من: (أقول لكم) حتى المأساة الراهنة.
الكلمة والفعل.. سيف النقد ونقد السيف..
في القسم الثاني: (الموت)، يدخل “الحلاج” (دار الهجرة)، أي السجن، وهناك يلتقي بأحد السجناء الثائرين من مُحرضي العامة، ويدور بينهما حوار يُمثل إمتدادًا لتناقضات “الحلاج” الداخلية، فالكلمة التي يُعنيها ليست أكثر من إدانه العصر من خلال شهادة تُقدمها نفس ذات حساسية مرهفة، وفي أفضل الأحوال، قد يأتي من يقتنع بها، وهو على أي حال لا ينتمي للعامة الغوغاء، إنما لولاة الأمر، المتصارعين على السلطة. وإذ يتعذب “الحلاج” صامدًا صابرًا صامتًا إزاء البلاء الذي يقع عليه، فإنما يُصر على ممارسة إغترابه، فهو بلاء من الله، ومحنة يُختبر بها، لأنه أفضى بسر الأسرار، لأن: “المسك إنسكب بقلب الحلاج وذاع”، ولا تُفلح كل الآلام الأرضية في أن تجذبه حقًا إلى مجالها، إلا عبر هذا الشكل الصوفي المتنكر. وحين يتحدث “الحلاج” مع السجين الثائر عن أحلامه جنين الواقع، فإنها تبدو شاحبة باهتة، وزائدة ملحقة بعالمه الوجداني، ويواصل تركيزه على الكلمة، ويرفض الثائر ذلك المنطق الطوباوي، فهو قد عانى وخبر مرارة الحياة وآلامها، ويعرف أن الكلمة إن لم يساندها فعل فلا قيمة لها، كما أنها لا تُخيف أحدًا، ولا تُغير شيئًا، وهو ليس مجرد نفس غضبى كما يتوهم “الحلاج”، فهو يعرف هدفه تمامًا، إنه يُريد تغييرًا جذريًا، وهو أمر لا يتحقق إلا بإستئصال الشر المشخص والمتعين، وهو يملك أيضًا معيارًا للقيم يُرشده فيميز الشر من غيره. أما “الحلاج” فيتخبط، فهو لا يعي حتى ما يتعلق بما سُجن من أجله ويتساءل في بؤس من مزقته الحيرة.
من فينا الشرير.. ومن فينا الخير ؟
من فينا يستأصله سيفك، أو يُعفيه ويستبقيه ؟
وإذ يعرف الثائر ضرورة حمل السيف من أجل الناس، وهو التتمه الضرورية والمنطقية لسيف الكلمة، يبدو متسقًا تمامًا مع أفكاره التي تُمثل نورًا يُرشد سيفه. ويصل تناقض “الحلاج” إلى ذروته حتى يبلغ حد العجز، فلم يُعد يدري المظلومين من الظلمة، حتى أنواع الظلم تختلط ليفقد الظلم الاجتماعي معناه:
أو لم يظلم أحد المظلومين
جارًا أو زوجًا أو طفلاً أو جارية أو عبدًا ؟
ويُريد “الحلاج” في قمة إنهياره وحيرته “السيف المبصر” المميز، وكأن السيف يُبصر بذاته، دون نور، دون فكر يتسم بالإتساق يُرشده. وفي الواقع فإننا نحس بالرثاء لـ”الحلاج. أكثر مما نحس بالتعاطف معه، فقد قتلته تناقضاته، فهو لا يعرف ما يُريد، هل يرفع صوته أم يرفع سيفه ؟ ويتوهم أن خياره كامن هنا، ولكن المسألة هي أي “صوت” يرفعه أي ما هي نوعية الأفكار التي يطرحها. إن “القديس” والطفل السماوي قد وهب نفسه فداءً لخطايا البشر، وحين أصبح عند آخر معبر يربط الحياة بالموت، راح يتساءل عن معنى كل الأشياء، وكأن حياته قد ضاعت سُدى. فإذا كانت محكمة الفقهاء تُريد أن تنزع عن حياته معناها، فهو في الواقع ينزع قبلها هذا المعنى بريبته وشكوكه وتردده وضعفه القاتل وحين يُدعى إلى الهرب من السجن، والقيام بعمل خلاق حي مع العامة، فهو يستنكف في إباء سقراطي، ويُمعن في الإغراق داخل همومه الذاتية. وهكذا لف “الحلاج” المشنقة بنفسه حول عنقه، ولم يقتله أحد بأكثر مما قتله عجزه. وقد أهدر بذلك كل معنى يمكن أن يُستقى من حياته، أو أن يُصبح مصدر إلهام. وإذ تواطأ الجميع على قتله بالكلمات، العامة، والصوفية، ورفيق طريقه؛ “الشبلي”، فقد كان يمكن قتله بالصمت أيضًا، فالصمت موقف. والثائر وجماعة من العامة هم الوحيدون الذين يُحاولون التدخل الفعلي لإنقاذه، ورغم فشلهم / فإننا نرى في ذلك قيمة ومعنى، أكثر مما نرى في تلك التهويمات الروحية، و”الحلاج” تتكشف أحلامه عن تلهفه لحاكم عادل، كإمتداد طبيعي لتلك المراهنة الخائبة على خلافات “الأخوة الأعداء”، أي التناقضات داخل السلطة السياسية السائدة، فالعدل يأتي به أفراد ملهمون متفردون، يهبون من أعلى، فلا حاجة إذًا لأي تغيير جذري يستأصل الشر على ما يقول الثائر، فيكفي أن يكون هذا العادل بديلاً لذلك المستبد وتستقيم الأحوال، وما أغنانا عن حل يأتي من خارج الإطار القائم، ما دمنا نستطيع إيجاد حل من داخله، يُغني العامة عن الفعل، ويحيا الجميع في ملكوت العصر الألفي السعيد.
لقد أبرز الشاعر الراحل؛ “صلاح عبدالصبور”؛ “الحلاج”، أكثر مما أبرز الثائر، وهو أمر يُعبر عن اختيار ذي دلالة لشاعرعظيم حقًا وقضية خاسرة.
فماذا يقول “صلاح عبدالصبور”؛ عن (مأساة الحلاج) بعيدًا عن مسرحيته الشعرية ؟.. في الواقع تتطابق رؤيته الفكرية تمامًا مع المسرحية، فهو يرى أن سقطة “الحلاج” كامنة في أنه باح بعلاقته الحميمة بالله، باتحاده، وحلوله، فأباح لله وللأغيار دمه. وهو يعتقد أن ذلك كله ليس إلا: “بناء أو شكل”؛ فما هي القضية إذاً ؟.. يقول “صلاح”:
“أما القضية التي تطرحها؛ فقد كانت قضية خلاصي الشخصي. فقد كنت أعاني حيرة مدمرة إزاء كثير من ظواهر عصرنا؛ وكانت الأسئلة تزدحم في خاطري إزدحامًا مضطربًا، وكنت أسأل نفسي السؤال الذي سأله الحلاج لنفسه: ماذا أفعل ؟.. وهنا ألغت المسرحية دور الفنان في المجتمع، وكانت إجابة الحلاج هي أن يتكلم… ويموت… ويضيف: كان عذاب الحلاج طرحًا لعذاب المفكرين فى معظم المجتمعات الحديثة، وحيرتهم بين السيف والكلمة، بعد أن يرفضوا أن يكون خلاصهم الشخصي بإطراح مشكلات الكون والإنسان عن كواهلهم هو غايتهم، وبعد أن يؤثروا أن يحملوا عبْ الإنسانية على كواهلهم”….
ويبقى بعد ذلك أن نقول هل وفق؛ “صلاح عبدالصبور”، في اختيار “الحلاج” مُعبرًا عن موقف المثقفين وقت صدور المسرحية في الستينيات ؟
لقد كان التاريخ دائمًا مصدر إستلهام الأدباء والشعراء والفنانين، وعمل “صلاح” لا يستهدف به التعريف بأحد الشخصيات الصوفية التاريخية، ولا تقديم فترة عاصفة حفلت بالتناقضات، وإنما كان التاريخ وشخصياته بمثابة إطار لطرح مشاكل معاصرة، وأداة لإبراز قيم خاصة ذات دلالات متميزة، وأن وضع هذه المسرحية الشعرية في إطارها يمكننا من فهمها على نحو أفضل. إنها في الواقع تعكس تناقضات الواقع المصري في الفترة التى ظهرت فيها…
فقد كانت هناك سلطة قومية سائدة، وهذه السلطة التي حققت إنجازات هامة من ناحية، اختارت أن تُصفي الحياة السياسية من ناحية أخرى، فأضعفت القوى الوحيدة التي كانت قادرة على حماية هذه الإنجازات حين جاء أوان الاعتداء عليها. لقد كان وجود سلطة تحقق من أعلى وبطريقتها ولمصلحتها أيضًا كل: “الآمال” نيابة عن الجميع وباسم الجميع، طريقًا ونهجًا يؤدي بذاته إلى كتم أي صوت معارض، وقد عانى المثقفون كثيرًا آنذاك؛ أولاً ليفهموا طبيعة ما هو قائم، ويذهلوا بالشعارات التي تُعلن عن نفسها وتناقض الواقع. كانت رأسمالية الدولة قد ولدت دون وعي المثقفين بها، فبعضهم وقف بمعزل عن المهمات التاريخية الفعلية التي أناطها بها مجرى الأحداث، والبعض الآخر. صفق وهلل واندمج بالموكب الجديد بعد أن كان قد ذاق ويلات الإبعاد، وانتهى به الأمر إلى الذوبان، وخلت الساحة إلا من شيع صغيرة يتبلور وعيها عبر تحسس الطرق الشائكة. لقد عجز الكثيرون حقًا عن فهم ما يجري، وكان “الحلاج” بمأساته هو الصدى المشوه لواقع مشوه. الفرد الأوحد يمسك مقاليد الأمور، وبطانة واسعة تسلب الناس باسم أسمى القيم. والناس مسرحون ومبعدون بفعل الوعي الزائف من جانب. وإستنادًا إلى إنجازات قومية حقيقية من جانب آخر. وتحول ذلك الكائن الجمعي إلى صورة لا ملامح لها، وهنا بدت أزمة المثقفين غير الذائبين بعزلتهم عن الناس، وعزلة الناس عنهم. وكانت: “الكلمة” التي تقتطع من العمر سنوات لا تُثير أكثر من التعاطف الشخصي لا أكثر. لقد راهن كثير المثقفين على هذا الجناح أو ذاك، وانقضى وقت طويل قبل أن يتبدد هذا الوهم. (هل تبدد ؟!).
والآن لابد أن تكون الكلمة فعلاً، والعدالة من صنع الناس، لقد سقط الماضي، وضحاياه هم من يُدافعون عن إنجازاته، بينما أصيب أنبياؤه وحكماؤه بالردة. لقد عرف الخير من الشر ودور الكلمة ووظيفة السيف، وبقي على “الحلاج” أن يُدرك المرحلة الراهنة فيتخلى عن تلك الوصفات البالية لخلاص الإنسانية، وأن يعرف التقي الصوفي وسائل نيل الحرية، أن يتخلص من “الماضي-الحاضر” بأوهامه غير الناضجة. لقد عكست (مأساة الحلاج) واقع الستينيات، لكنها لم تعكس ذلك التطور والنمو الحتمي للثائر الذي مثل نقيض “الحلاج”؛ حتى وإن كان آنذاك يخطو خطوات الميلاد الأولى.
وبعد.. يمكن القول أن ذلك القالب الصوفي لـ (مأساة الحلاج) قد خنق برموزه العالم الواقعي، ولم يستطع الشاعر إلا أن يضع الجانبين متجاورين معًا تجاور التناقضات الهامدة إن جاز القول.. وكل النماذج الصوفية تُزيف الواقع ذاته بدرجات متفاوتة يُمثل طرفيها الأساسيين: “الحلاج” و”الشبلي”؛ ومهما يكن من أمر فليس التصوف، بالذات هو الراية التي يمكن باسمها المناداة بالعدل الإجتماعي – كما فعلت فرق دينية أخرى – وهنا نواجه بتناقضات حادة تتفسخ تحت وطأتها شخوص المسرحية، وخاصة “الحلاج”، وهي من ثم تبدو كشخصيات عرجاء لأنها تعتمد طريقين متابنين. وربما لو كان العمر قد أمتد بشاعرنا لتوصل لمعنى “الكلمة-الفعل” ولحمل في يده ذلك السيف المبصر.