ليس غريبا”القول بان ظاهرة العدوان واستخدام العنف في المجتمعات البشرية قديمة قدم الإنسان ذاته . فهي لصيقة بطبيعة وجوده ، وشاهد على اعتلال بيئته واعتلال علاقاته ، ودليلا”على قصور وعيه وانتكاس أعرافه ، ومؤشرا”على تقهقر معاييره وانحراف قيمه . ولكنه ، وبرغم ذلك ، ما أن يضع أولى خطواته على سلم الحضارة ، ويلج عوالمها المتنوعة ويستبطن فضائلها المتعددة ، حتى يشرع بتشذيب أنماط سلوكه ، وتقويم معايير أخلاقه ، ويهتم بتلطيف حدة طباعه ، ويميل ، من ثم ، إلى الكفّ عن التطرف في ضروب الفكر والامتناع عن العنف في ميادين الواقع . بيد أن الغريب حقا”في هذه المسألة ، هو أن يتحول العنف إلى واقعة مستديمة تتحكم بآفاق مصيره وتقرر مآل خياراته ، الأمر الذي يتطلب البحث عن جذور تلك الظاهرة ، ويتقصى عوامل تكوينها في المجتمعات المأزومة سياسيا”والمخترقة حضاريا”، لا في إطار الأوضاع القائمة والظروف الراهنة ، التي قد توحي بأنها المسؤولة عن اندلاع تلك النزعات وانفلات زمامها وتفاقم ميولها ، وإنما بالتنقيب عن بواعثها الاجتماعية ، والحفر في طبقاتها النفسية ، والكشف عن ملابساتها السياسية . (( فالعنف – كما يؤكد أحد علماء الاجتماع الغربيين (فيليب برنو) – يقوم حيثما تخضع القيم والأهداف التي تخص فردا”أو جماعة ، والتي تنطوي على معنى عام كلي ،لقمع يمارسه حيالها فردا”آخر أو جماعة أخرى )) . ولا ريب فقد اجتهدت العديد من النظريات النفسية والفلسفات الاجتماعية ، في تفسير هذه الظاهرة لجهة حصر أسبابها وتقنين منطلقاتها ، بحيث ذهب البعض منها إلى الزعم بان ارتباط العنف بالإنسان هو من باب ارتباط العلة بالمعلول ، على اعتبار إن السلوك العدواني هو منزع بيولوجي مقرر في طبيعة الكائن الاجتماعي . هذا ما تؤكده ، على سبيل المثال لا الحصر ، نظرية (التحليل النفسي) من خلال تمسكها بالأطروحة القائلة ؛ إن العدوانية ليست أمرا”عارضا”،بل هي من المقومات الانطولوجية للكائن البشري . هذا في حين إن بعضها الآخر يعتقد إن ظاهرة العنف المصاحبة للإنسان والممسكة بتلابيبه ، تشكل قرينة رمزية على تفاقم أزماته الحضارية ، وأحد أوجه محاولاته للتغلب على معاناة استلابه القيمي ، والإفلات من دومات اغترابه الاجتماعي . وقد عبر عن هذا الاتجاه أحد مفكري النظرية السوسيولوجية (تونيز) حين كتب يقول (( طالما إن كل شخص يبحث في المجتمع عن فائدته ، ويجاري الآخرين إلى المدى والوقت الذي يبحثون فيه مثله عن نفس الفوائد ، فان علاقة الكل بالكل ، فوق ووراء الاتفاق يمكن اعتبارها عداوة مقنعة أو حرب مستترة )) . وبصرف النظر عن القيمة العلمية لتلك الطروحات ، ومتانة الأسس المنهجية التي تقوم عليها وتنطلق منها ، في رصد مقومات ظاهرة العنف وتحليل أنماطها ، فأنها ستجانب الصواب وتنأى عن السداد إن هي أهدرت حقيقة الاختلاف النوعي بين المجتمعات ، وتجاهلت واقعة التفاوت الحضاري بين الأمم . الشيء إلي يستلزم التروي في صياغة الأحكام الجازمة ، والحذر من إطلاق التعميمات القطعية ، حيال البحث عن بداهات نشوء تلك الظاهرة وتعيين منطلقات تكوينها ، فضلا”عن استخلاص الكيفيات المسؤولة عن تبلور عناصرها وانبعاث ملامحها ، عبر تشققات كيان المجتمع المعني وتمزقات وحدة نسيجه . صحيح أنها ( = ظاهرة العنف) من حيث المبدأ أضحت تشكل القاسم المشترك لمعظم شعوب العالم ، بمختلف أصولها وتباين أعراقها وتنوع ثقافاتها وتعدد أديانها . إلاّ إن مغزى دوافعها وزخم انفلاتها وشدة وطأتها ، تتفاوت من بلد لآخر ومن مجتمع لآخر ، لا بل إن إيقاعها لا يلبث أن يتغير من فترة لأخرى ضمن البلد الواحد وفي المجتمع نفسه . فتعاطي الإنسان الغربي ، على سبيل المثال ، مع ظاهرة العنف ، إبان فترة وقوعه تحت طائلة المنافسات الاقتصادية الضارية ، وانخراطه في أتون الصراعات السياسية الشرسة ، وانهماكه في دوامة الحروب الدينية القاسية ، لا يشبه في شيء إجراءات تعاطيه لذات الظاهرة في مراحل لاحقة ، بعدما بلغ مستوى الإشباع المادي لحاجاته ، وتخطى عتبة النضوج الفكري لطموحاته . وحقق ، بالإضافة لذلك ، حالة من التوازن السياسي والاستقرار الأمني والتعايش الاجتماعي ، بفعل جملة من الشروط الذاتية والتوافقات الموضوعية ، ليس هنا محل تناولها . بحيث إن بوصلة اهتماماته تحولت صوب البحث عن السبل القمينة بالإبقاء على مستوى رخائه الاقتصادي ، والمحافظة على وتيرة تطوره الاجتماعي ، والثبات على سياق رقيه الحضاري . ولهذا فان أي تغيير يطرأ على تلك الأوضاع ويطال تلك المستويات ، سرعان ما يعتبر بمثابة الصاعق الذي لا يلبث أن يفجر بواعث قلقه ويضاعف وساوس مخاوفه ، ويصعّد بالتالي محفزات تعاطيه للعنف ويسوغ مبررات انخراطه في العدوان . هذا في حين نجد بالمقابل ، إن مظاهر التعصب القومي والتطرف الديني ، التي تجتاح وجود الإنسان في المجتمعات الموصوفة بالتخلف الاجتماعي والممهورة بالطغيان السياسي ، ناهيك عما يتمخض عنها ويترتب عليها من استشراء نوازع العنف ودوافع العدوان ، تتغذى من مصادر أخرى وتمتح من أصول مغايرة ، لا تمت بصلة لتلك التي ألفيناها تحرك كوامن الظاهرة ، وتدير دفة اتجاهاتها في المجتمعات الغربية المتقدمة . إذ إن طبيعة النظم السياسية الحاكمة ، ونمط العلاقات الاجتماعية القائمة ، وشكل البنى الحضارية السائدة ، ومحتوى القواعد الأخلاقية الفاعلة ، وقيمة الرموز العرفية المهيمنة ، لا تفترض فقط حصول الاختلاف في نوع المدخلات القيمية ، المسؤولة عن ضبط العلاقة بين التوافق النفسي والتكامل الاجتماعي ، على صعيد (الذات – الأنا) لكل منهما فحسب ، وإنما تستوجب وقوع التعارض في نمط المخرجات السلوكية الموكول إليها تحقيق التوازن وبلوغ التكافؤ على مستوى النديّة مع (الآخر – الأنت) كذلك . وعلى هذا الأساس ، وبقدر ما يكون للعنف من أسباب ظاهرة مختلفة ودوافع خفية متباينة ، بقدر ما تكون الأوجه التي يتمظهر بها متنوعة ، والمسالك التي يتسرب منها متعددة . وإذا كان الإنسان في المجتمعات المتقدمة ، يمتلك آليات سياسية مشروعة ، ويمارس فعاليات اجتماعية متحضرة ، يستطيع من خلالها التعبير عما يشعر به من هموم ويطرح ما يعانيه من مشاكل ، الأمر الذي تتيح له (= الآليات والفعاليات) فرصة المشاركة ؛ في استخلاص أشكال خياراته ، واستنباط أنواع تطلعاته ، ورسم معالم مستقبله ، ضمن إطار دولة يحكمها القانون وتؤطرها المؤسسات ، قادرة على استيعاب إرهاصات الثقافات الفرعية ، واستدماج خصائصها في بوتقة الثقافة الوطنية الشاملة والموحدة ، حيث تنتفي الحساسيات العرقية وتختفي الصراعات الطائفية . نعم قد تندلع هنا أو هناك بعض مظاهر العنف على خلفية الأحقاد الاثنية أو الضغائن الدينية ، بيد إن ذلك يحصل من باب الاستثناء وليس القاعدة ، كما هو الشأن في المجتمعات المتخلفة ، التي أمسى تعاطي القوة في أوساطها ليس شائع فقط بل ومسوّغ أيضا”، حيث لغة العنف هي المفضلة وعرف العدوان هو السائد . ففي هذا الشطر من المجتمعات القابعة خلف التاريخ والزاهدة بمعطيات الحضارة ، تنقلب معالم الصور وتختلف معايير التصوّر، إذ إن مضاعفات الطغيان السياسي الدائم ، ومخلفات الحرمان الاقتصادي المزمن ، وتداعيات القهر الاجتماعي المتواصل ، وترسبات الكبت النفسي المستمر ، وتركات الجدب الثقافي المتطاول . كل هذه المساوئ وغيرها تركت بصماتها وحفرت آثارها في بنى هذه المجتمعات ، بحيث نخرت أسسها المادية وقوضت دعائمها المعنوية ، الشيء الذي أفضى – دائما”وفي مطلق الأحوال – إلى استدراج دوافع العنف واستدعاء مبررات العدوان . ذلك لأن الظروف في مثل هذه الأجواء الملبدة والأوضاع المكفهرّة ، تغدو مؤاتية لكي تعم الفوضى ويستشري الفساد ، في جميع مفاصل الدولة ومجمل قطاعات المجتمع ، بعدما يتم تغييب القانون وتعليق الشرعية من جهة ، وتخصيب نوازع شخصنة الثوابت الوطنية ، وازدراء القيم ونبذ المبادئ من جهة أخرى . على خلفية جملة من الأساليب والممارسات ، التي من أبرزها إن وسائل الإعلام ومؤسسات الرأي ، تتحول من أداة لتنوير الوعي وتثوير الواقع ، فضلا”عن إشاعة روح المواطنة وتربية حسّ المسؤولية الوطنية ، إلى مجرد مواخير لا وظيفة لها سوى المواظبة على ؛ غسل أدمغة المواطنين بالترهات ، وتسطيح وعيهم بالخرافات ، وشلّ إرادتهم بالممنوعات ، واخصاء شخصيتهم بالمحرمات . وحيث لا عاصم من بطش السلطة المستبدة وطغيانها الأمني ، ولا رادع لإرهاب الدولة الشمولية وجبروتها البوليسي ، ناهيك عن نسيج شباك علاقات الاستزلام والاستتباع ، التي تحاصر الفرد وتضيّق الخناق عليه في كل مفردة من مفردات حياته الخاصة والعامة . فانه لا حيلة له ولا خيار أمامه ، إزاء مجابهة فلتان الحاضر ومجهولية المستقبل ، بعد إن فقد غطاء القانون وجرّد من حماية الدولة وأقصي عن ولاء الوطن ، سوى اللجوء إلى سواتر ثقافاته الفرعية ، والانكفاء إلى قواعد علاقاته الأولية (الأسرية والقبلية) ، يطلب الحماية منها وينشد الأمان فيها ، وهنا إذاك تكمن المفارقة والمٍأساة معا”. ولما كان المجتمع المتخلف – في الغالب – مأزوم سياسيا”ومحتقن اجتماعيا”ومعبأ نفسيا”، فان ذلك يجعله عرضة لانهيار أمنه وتداعي استقراره ، ويصبح ، بالإضافة لذلك ، حقلا”لتفريخ الفتن وساحة لتصفية الحسابات بين (الملل والنحل) ، كما لاحظ ذلك أستاذ علم النفس الدكتور (مصطفى حجازي) حين كتب يقول (( يبقى إن المجتمع المتخلف يضج بالعنف ، يمارس على إنسانه ويصدر عنه في آن معا”، حتى في أكثر المظاهر سكونا”ودعة واستسلاما”)) . وفي ظل غياب الثقافة الوطنية الشاملة ، وانعدام الثوابت الرمزية الموحدة ، وخشية الاضطهاد السياسي والتهميش الاجتماعي والإقصاء العرقي والاستبعاد الطائفي ، يعمد كل فريق أو طرف إلى استنفار مخزون ثقافته الفرعية ، واستحضار رصيد موروثه القبلي ، واستصراخ حمية ولائه الجهوي ، بغية والاحتماء فيها والاتكاء عليها ، لتغليب مصالحه الآنية وفرض وجهة نظره الجزئية وترويج قيمه التحتية ، والسعي ، من ثم ، لتوسيع دائرة نفوذه ونشر مضمون أفكاره وترسيخ سلطان معتقداته . نقول في مثل هذه المعطيات فان ديناميات اشتغال الثقافات الفرعية (العنصرية والطائفية والعشائرية) ، تتحول من وظيفة شدّ لحمة المجتمع ولملمة شعثه ورأب صدوعه وترميم تشققاته ، إلى عامل أساسي في تعميق الخلافات بين مكوناته ، وتأكيد التمايزات بين عناصره ، وتأجيج الصراعات بين جماعاته ، وترسيخ الانقسام بين ذاكراته ، وتعميم العدوات بين هوياته . وفي سياق الولاء القائم على العجز والخضوع – كما يستنتج الباحث هشام شرابي – (( يبدو جليا”انه لا يمكن تصور فكرة العقد الاجتماعي .. ولان المعارضة الشرعية غير ممكنة ، فان التآمر والتمرد يصبحان البديلين الوحيدين . وعلى نحو مماثل فحين يحضر النقاش العلني ، فان التآمر والعنف هما الشكل الباقي للإقناع )) . وهكذا فان أزمة المجتمع المتخلف ، لا تخرج عن كونها انعكاسا”لأزمة ثقافاته الفرعية ، وقصور ولاءاته الأولية ، وانتكاس انتماءاته الهامشية ، والتي لا تشرأب رموزها وتتوثب أعرافها وتنثال قيمها وتسلل عاداتها ، إلاّ على أشلاء الثوابت الوطنية للدولة ، ونفي الخصائص المعيارية للمجتمع . ولكي تتجاوز الأولى عوامل ضعفها ومحنة تفككها ، ويتخطى الثاني عواقب أزمته وينهض من حطام كبوته ويستأنف خطى مسيرته ، لابد أن تستعيد الثقافة الوطنية الموحدة عافيتها وتتمكن من بسط سلطانها ، ليس على المستوى المادي المتمثل بالإطار الجغرافي / السيادي فحسب ، وإنما – وهو المهم في اعتقادنا – على المستوى الاعتباري / الرمزي ، لكي تترسب بين تضاعيف الوعي الفردي ، وتترسخ داخل أروقة المخيال الجمعي على حدّ سواء ..