من الناحية العملية فإن ما يدعى بالاستعمار القديم ذي الطابع الاستيطاني لم يرحل إلا شكلياً عن جل المجتمعات النامية، وترك في موضعه وكلاءً ونواطيراً مفوضين سامين بحلة وطنية شكلية لا تغير من دورهم الوظيفي في القيام بتسيير أعمال وحفظ مصالح أولياء أمرهم في عواصم الدول التي استعمرت مجتمعاتهم سابقاً، والتي تحافظ على موضعهم السيادي في تلك المجتمعات سواء عبر دعمهم عسكرياً لتوطيد هيمنتهم بقوة الاستبداد والحديد والنار، وهي الطريقة الفضلى لدى كل السادة أصحاب الحل والعقد، أو عن طريق دعمهم مالياً وإعلامياً وتسويقهم عبر قنوات الهيمنة الكونية على الإعلام وإصداراته المعاصرة ممثلة بوسائل التواصل الاجتماعي، أو عند الضرورة عبر استخدام القوة العسكرية العارية لجيوش المستعمرين القدماء نفسهم لوضع من يناسبهم في سُدة الحكم، بغض النظر عن الحجة التي يتم استنباطها حسب الحاجة، سواء كانت «أسلحة دمار شامل» كما كانت في حالة نظام الطاغية صدام حسين، أو توطيد الديموقراطية كما كان في قصة غزو هاييتي في العام 1991، أو بحجة الحرب الخلبية على «المخدرات»، التي تحصل شركات التصنيع الكيميائي والدوائي في العالم المتقدم على حصة الأسد من عوائدها، جراء احتكارها شبه المطلق لتقانات تصنيع المواد الأولية المطلوبة لتحويل نبات الخشخاش إلى أفيون وهيروين. وهي حجة الحرب على المخدرات التي تم استخدامها أيضاً لتبرير غزو باناما في العام 1989 لخلع عميل المخابرات الأمريكية السابق مانويل نوريغا بعد أن سولت له نفسه الاستحواذ على حصة أكبر من الفتات المحددة له من قبل أسياده وأولياء أمره مما كان يشرف على إنتاجه من مخدرات في باناما.
ولذلك فإن الحديث عن مفاعيل الاستعمار القديم لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار إفرازاته المعاصرة والمستمرة في كل مفاصل المجتمعات المنهوبة المفقرة في دول العالم النامي بشكل حاضر وملموس حتى اللحظة الراهنة، هو الواقع الذي لا يحتمل تغيره حتى المستقبل المنظور.
وقد يكون المفكر المصري الراحل سمير أمين أهم الاقتصاديين الذين درسوا مفاعيل وانعكاسات الاستعمار على هشاشة مجتمعات المستعمرات بعد رحيل مستعمريها الشكليين عنها، وهو ما قد درسه بشكل معمق وموثق في عدة كتب له وخاصة كتابه الذي حمل عنوان «تاريخ عالمي: رؤية من الجنوب».
ويمكن تلمس مفاعيل الاستعمار الاستيطاني على واقع اقتصادات الدول النامية بالنظر إلى خارطة المعمورة واتباع نهج جواهر لال نهرو في كتابه المهم الذي كتبه في السجن إبان احتلال البريطانيين للهند الكبرى قبل تقسيمها في العام 1944، والذي حمل عنوان «اكتشاف الهند»، والذي كانت الملاحظة الأساسية فيه تتعلق بالتناسب الطردي بين طول مدة استعمار أي بقعة جغرافية في الهند من ِقبل البريطانيين في الحالة الهندية، وبين مستوى الفقر في تلك البقعة الجغرافية، وهو استنتاج صحيح منذ زمن نهرو وحتى اللحظة الراهنة، ومثاله العياني المشخص البلد الأفقر على وجه البسيطة هو بنغلاديش، وهي البقعة الأولى التي حل فيها خَبَثُ المستعمرين البريطانيين الأوائل في شبه القارة الهندية في العام 1757، والتي كانت عاصمتها حسب توصيف الغزاة البريطانيين أنفسهم آنذاك بأنها حاضرة توازي العاصمة البريطانية لندن في مستوى التمدن حسب معايير ذاك الزمان، بينما هي حالياً تمثل الرمز المصفى للفقر المدقع والتهالك المدني لمدينة جل هيكلها العمراني من الصفيح والمناطق العشوائية غير المنظمة. وفي نفس سياق الحديث عن بنغلاديش كمثال لا بد من استحضار الحقيقة التاريخية المرة التي كررها المستعمرون أينما حلوا في أرجاء الأرضين والتي تمثلت في العمل الممنهج لتهشيم كل إمكانيات النهوض التصنيعي في مجتمعات المستعمرات، والتي كانت في طور متقدم لا يقل عن ذلك القائم في بريطانيا نفسها فيما يتعلق بصناعة حلج القطن وتحويله إلى منسوجات وأقمشة، والتي كانت مزدهرة في بنغلاديش حينما حل البريطانيون عليها، فكانت ضحية لذلك التهشيم الممنهج الذي أدى إلى إغلاق كافة ورشات الحلج والنسيج في بنغلاديش، وتحويل كل منتوج الأقطان الرفيع النوعية الذي تنتجه بنغلاديش للتصدير ليتم حلجه وتحويله إلى منسوجات في معامل لانكاستر في داخل بريطانيا، ليتم تسويقه بعدئذ عبر إرغام شعوب المستعمرات جميعها التي كانت تتحكم بحيواتهم الإمبراطورية التي لا تغيب شمس «القهر» عنها، ومنها بنغلاديش، على شراء تلك المنتجات المصنعة في المعامل البريطانية و بمواد أولية من أرضهم و بلادهم، وهو ما أسهم في حدوث قفزات في مستوى جودة الإنتاج الصناعي البريطاني جراء زيادة الطلب المضطرد على نتاجها من المنسوجات القطنية جراء اندثار كل منافسيها المحليين عملياً في أي من دول المستعمرات الشاسعة التي تغول عليها البريطانيون، و هو ما أدى إلى قفزات مهولة في النمو الاقتصادي البريطاني إذ كانت صناعة المنسوجات القطنية تمثل في ذاك الوقت عصب الاقتصاد العالمي كما هو حال النفط في زمننا المعاصر.
و تجدر الإشارة إلى أنه قد تم الإجهاز على البقية الباقية من الورشات الصغيرة التي تعمل في حلج وإنتاج المنسوجات القطنية محلياً في شبه القارة الهندية عبر فرض ضرائب وصلت إلى 1700% من قيمتها الأساسية عند محاولة بيعها في أي من الأسواق المحلية التي سيطر عليها المستعمرون البريطانيون، في نهج مآله الوحيد وأد أي إمكانية لاستمرار عمل تلك الورشات المحلية لعدم تمكنها من منافسة المنتجات القطنية التي تنتجها المعامل البريطانية وتسوقها في دول المستعمرات دون أي ضرائب فعلية عليها، وهو ما كان المقدمة لمسلسل الإفقار المتعمد الذي مارسه المستعمرون بحق شعوب المستعمرات، وهو في حالة بنغلاديش كان محط انتقاد الأب الروحي للاقتصاد الرأسمالي، وأعني هنا آدم سميث الذي أشار في كتابه الاستثنائي ثروة الأمم الصادر في العام 1776 إلى مفاعيل تلك الوحشية المنفلتة من كل عقال أخلاقي التي أدت بنتائجها لتحويل كل «ضيق حال إلى مجاعة» في الفضاء الاقتصادي لإقليم البنغال الخاضع للاحتلال البريطاني آنذاك.
وذاك الواقع المزري الذي خلقه الاستعمار البريطاني كمثال في إقليم البنغال في الهند لم يتوقف عند تهشيم كل إمكانيات النهوض الزراعي والصناعي وإنما تعدى ذلك لإدخاله في نسق اقتصاد الوحشية الإمبريالية ممثلاً بإرغام الفلاحين المظلومين بالتحول من زراعة كل المحاصيل التي تشكل عماد قوت وحيوات أفراد المجتمعات التي يعيشون فيها، إلى زراعة نبات الخشخاش لأجل تصنيع أشكال المخدرات الأفيونية المعروفة آنذاك، والتي كانت البضاعة الوحيدة التي تمتلك الاقتصادات الغربية وخاصة البريطانية ميزة تفاضلية فيها على اقتصاد الإمبراطورية الصينية في مطلع القرن التاسع عشر، وهي الإمبراطورية التي كانت تنتج وتصنع كل ما تحتاجه، ولم تكن بحاجة إلى أي من نتاج الاقتصادات الغربية البائس في منظارها آنذاك، والذي تركز غالباً حول الأسلحة النارية وأدوات الحرب، والتي لم تكن حاجة أولية للإمبراطورية الصينية التي راكمت خبرة تاريخية عمرها عشرات القرون في ضبط وتسيير إمبراطوريتها الشاسعة دون حاجة ملحة لتطوير أدوات القمع التي كانت تستخدمها لضبط المجتمعات التي تقع في حدود تلك الإمبراطورية. وبالتالي لم يبق من منتجات ومشتقات ينتجها الأوربيون يمكن لهم من خلالها إجراء مبادلات تجارية مع الصين التي يحتاجون لإجراء مبادلات تجارية واسعة معها بشكل مستدام لاستيراد الشاي الذي كانت الصين تتحكم في جل إنتاجه العالمي، وخاصة في ضوء إنفاق جلَّ الذهب والفضة التي اكتشفها المستعمرون في قارتي العالم الجديد منذ القرن الخامس عشر على المبادلات التجارية مع الصين نفسها، والتي أصبحت موئل ومصب كل فوائض الذهب التي يستخرجها المستعمرون الأوربيون من قارتي العالم الجديد، لما كان للصين في تلك الحقبة الزمنية من ميزات تفاضلية في ما تنتجه من الشاي، والسكر، والأواني الخزفية، والتوابل، التي كانت تمثل المحرك الأساسي للاقتصاد العالمي منذ القرن الخامس عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر الذي حلت فيه صناعة المنسوجات القطنية لتكون على رأس تلك القائمة من المنتجات الرئيسية التي مثلت العصب المحرك للمبادلات والتجارة العالمية آنذاك.
وفي ظل ذلك الواقع من العجز التجاري مع الصين لم يجد الأوربيون سوى المنتج الوحيد الذي كان يلاقي سوقاً رائجة في الصين آنذاك وهو الخشخاش ومشتقاته المخدرات الأفيونية التي كانت ممنوعة الإنتاج في عموم الإمبراطورية الصينية في القرن التاسع عشر نظراً للآثار السلبية الإدمانية التي تركها السماح باستهلاك تلك المشتقات في فترة سالفة على المجتمعات في الصين.
وبعد أن طالب الأوربيون إمبراطور الصين بشرعنة استهلاك المخدرات الأفيونية في الصين، والسماح للأوربيين وخاصة البريطانيين لتوريدها من نتاج المزارعين المقهورين في البنغال وعموم شبه القارة الهندية التي كان البريطانيون يسيطرون عليها بشكل شبه مطلق، وهو ما كان رد الإمبراطور عليه بالرفض القاطع، فقرر الأوربيون وخاصة البريطانيين والهولنديين إطلاق حملة عسكرية موسعة في العام 1839 بالاستناد إلى ميزتهم التفاضلية الوحيدة المتمثلة في صناعة أدوات القتل والتدمير، وفنون استخدامها بكل الأشكال البربرية التي ليس فيها اعتبار للعزل من المدنيين، وأماكن عيشهم، والزرع والضرع الذي يقتاتون منه، وهو ما أفصح عن نفسه في حرب شعواء تفوق فيها الغزاة الأوربيون على أقرانهم من المحاربين الصينيين الذين كانوا لا يزالون يحاربون بتقنيات القوس والنشاب، والرماح والسيوف، وتمكنوا عبر تفوقهم العسكري ذلك من تهشيم المجتمع الصيني بشكل عميق وإضعاف قدرته الإنتاجية على كل الصعد، وصولاً إلى تهديم القصر الإمبراطوري نفسه، وإرغام الإمبراطور الصيني آنذاك على إلغاء الحظر على استهلاك المشتقات الأفيونية وتوريدها إلى الصين من الغزاة الأوربيين، إيذاناً ببدء التراجع الصاروخي تجاه القاع الذي شهدته الصين بعد تلك الحقبة، والذي يظن الكثير من المراقبين بأن الصين المعاصرة، لم تبرأ من مفاعيله التي حولت الصين من مركز الإنتاج الاقتصادي في العالم إلى فضاء جغرافي يعاني فيه أفراده بشكل يومي من هلع المجاعات التي كان آخرها بين العام 1959 وحتى نهاية العام 1961.
وقد تجدر الإشارة إلى الجهود التخريبية المنظمة التي قام بها البريطانيون في شبه القارة الهندية عموماً لأجل تهشيم اقتصاداتها الإنتاجية وخاصة الصناعية منها لإجهاض أي إمكانيات للنهوض الصناعي خاصة في الحقول التصنيعية التي كانت تتفوق بها الهند إبان حلول الغزاة الأوربيين عليها في أواخر القرن السابع عشر في صناعات التعدين، وخاصة صناعة الفولاذ الذي كان صناعة تاريخية عريقة في الهند منذ الأزل، يفصح عنها باللغة العربية مثلاً وصف خير الأسياف بأنه «حسام مهند» نسبة إلى الهند مثلاً، بالإضافة إلى صناعة السفن التي كانت متقدمة إلى درجة لجوء البريطانيين لتصنيع الكثير من سفنهم الحربية إبان الحروب النابليونية بين العامين 1803 و1815 في المرافئ الهندية، وخاصة تلك الموجودة في إقليم غوجرات، والذي كان أغنى الأقاليم الهندية إبان حلول المستعمرين عليه، وهو حالياً يكاد يكون أفقر الأقاليم في الهند المعاصرة بعد أن احتز المستعمرون منها أقاليم السند والبنغال لاصطناع دول باكستان وبنغلاديش بما تناسب مع مصالحهم الاستراتيجية والتكتيكية آنذاك للحفاظ على موطئ قدم وطيد لهم في شبه القارة الهندية من خلال دعم النخب الغوغائية المتطرفة دينياً التي كانت كلها تعمل بتنسيق أشبه بالعمالة الارتزاقية مع المخابرات الإنجليزية آنذاك من أجل اصطناع صدع في مجتمعات شبه القارة الهندية يحول الهوية الدينية عنوة إلى هوية قومية مختلقة، في تمظهر عياني مشخص لأوائل منتجات المستعمرين للتطرف الديني بشكله السياسي و العسكري الاحترابي بين أبناء الشعب الواحد.
وعلى الطرف الآخر من كوكب الأرض في قارتي العالم الجديد لم يكن سلوك المستعمرين الأوربيين أقل وحشية من سلوكهم في شرق المعمورة، إذ أنهم اعتمدوا سياسة ممنهجة لإفناء السكان الأصليين عبر الإبادة الجماعية المنظمة والممنهجة سواء باستخدام تفوقهم الحصري في فنون الحرب والقتل والتدمير على مجتمعات قبائل المايا والآزتك، بالإضافة إلى استغلال همجي للأمراض السارية كالحصبة والجدري التي طور لها الأوربيون مناعة تراكمية جراء التعرض لها على امتداد قرون سابقة، وهي الأمراض التي لم تكن معروفة في قارتي العالم الجديد؛ وهو ما اكتشف الغزاة الأوربيون قدرتها الشيطانية على إحداث إبادة جماعية في مجتمعات السكان الأصليين عبر استنباط الأوربيين تقنية رمي البطانيات التي كانت تستخدم للف مرضاهم بتلك الأمراض السارية بين مواشي سكان المجتمعات الأصلية، وهو ما يعني اضطرار أولئك السكان الأصليين للتماس مع تلك البطانيات بشكل حتمي خلال عملية العناية بمواشيهم، وهو ما عنى عملياً انتقال العدوى وإصابة مجتمعات السكان الأصليين بجوائح للأمراض السارية أدت إلى احتزاز حيوات عشرات الملايين من سكان أمريكا الشمالية والجنوبية أضيفوا إلى من تم إبادتهم بقوة الحديد والنار للغزاة الذين لم يوفروا أي جهد بربري يمكنهم من السيطرة على كل مصادر الثروة في أرض ومجتمعات السكان الأصليين بعد إفناء الغالبية العظمى منهم، و الذين كان عددهم يقدر بما يتراوح بين العشرة و الخمسة عشر مليوناً في أمريكا الشمالية وحدها إبان حلول الغزاة على أرضهم في خواتيم القرن الخامس عشر و مطلع القرن السادس عشر، و لم يتبق منهم راهناً في أمريكا الشمالية سوى بضعة ملايين لا تتجاوز الخمسة في أعلى التقديرات بعد مرور كل تلك القرون التي كانت تقتضي أن تصبح أعدادهم بمئات الملايين راهناً أسوة بمعدلات تزايد أعداد المجموعات البشرية الأخرى في أرجاء الأرضين لولا لم يتم إبادتهم جماعياً بالشكل المريع الخبيث السالف التوصيف.
ومن ضمن مآلات الإبادة الجماعية المنظمة التي جرت في أمريكا الشمالية كان التناقص المهول في عديد البشر الذين كان يتم استعبادهم من أبناء السكان الأصليين بقوة حديد نار المستعمرين، وإرغامهم على العمل في الأنشطة الزراعية والتصنيعية التي كانت عماد تخليق الثروة في العام الجديد، والتي تركزت حول زراعة الأقطان والتبغ واستخراج الثروات الطبيعية، و هو ما تم التعامل معه بنهج الاستعمار البربري الذي خياره الحاضر دائماً لتصحيح خطاياه بخطايا أكثر إثماً ووحشية، مشخصاً بتفتق عقل الغزاة الوحشي عن طريقة تكيفية لتعويض نقص قوة العمل المتاحة للعمل بشكل قسري لخدمتهم بعد إبادتهم للمصدر الأساسي لتلك القوة العاملة المستعبدة من سكان قارتي العالم الجديد الأصليين، من خلال استعباد سكان القارة الأفريقية عبر غزو أرض القارة السمراء بشكل مباشر «لاصطياد» بشر مظلومين لاستعبادهم وشحنهم عبر البحار في ظروف وحشية أرغمت ما لا يقل عن ثلث أولئك المظلومين من تفضيل إلقاء أنفسهم في لج البحر على المتابعة في رحلة استعبادهم المفجعة. ومن أولئك المظلومين من أبناء القارة السمراء وصل إلى العالم الجديد حوالي ثلاثة عشر مليوناً تمكنوا من مكابدة عناء رحلتهم المضنية عبر البحار والبقاء على قيد الحياة، ليتم بيعهم وشراؤهم وتحويلهم إلى أهم وسيلة إنتاج في العالم الجديد وأس كل ثرواته التي تراكمت فيه لاحقاً.
ولا بد في هذا السياق من الإشارة لمفاعيل تغول الأوربيين الغزاة على القارة السمراء وخاصة في منطقة جنوب الصحراء الكبرى، و هو ما أدى إلى إفراغ الكثير من المجتمعات من رجالها وشبابها القادرين على العمل والإنتاج، وترك فئات مجتمعية مضناة أساساً، وغير قادرة على إنتاج ما يكفيها لتقتات به في ظل الظروف البيئية القاسية غير الملائمة للزراعة في تلك المناطق وخاصة تلك التي تربها كلسية أو محدودة العمق، أو رملية لا تسمح سوى بأنواع محدودة من الإنتاج الزراعي مع القليل من الإنتاج الرعوي الموازي، الذي كان لا بد له من التقهقر في ضوء سرقة قوة العمل القادرة على التكيف مع تلك الظروف وتحويلها إلى عبيد لخدمة المستعمرين الأوربيين في العالم الجديد.
وفي نفس الوقت الذي كانت تتحول فيه اقتصادات أوربا باتجاه التصنيع والتحول الرأسمالي في مطلع القرن التاسع عشر، كان هناك سعي موازٍ لإدراك ذلك الشكل من التحول الاقتصادي في مصر الخاضعة آنذاك لحكم محمد علي باشا بصفته الخديوي أي «الملك أو الوزير المفوض» من السلطنة العثمانية بتلك الصفة، على الرغم من أن تبعيته لتلك السلطنة كانت شبه شكلية أو بروتوكولية في أحسن الأحوال، إذ كان نظامه شبه مستقل بشكل كلي عنها. وتمثل سعي محمد علي باشا آنذاك في عملية تحول اقتصادي شامل لعبت فيه الدولة العنصر المحرك، وكان يهدف إلى إخراج مصر من حقل المورد للموارد الأولية فقط، وهو ما يدعى في علم التاريخ الاقتصادي «اقتصاداً طرفياً»، بحيث تقوم بعملية تصنيع ما تنتجه من موارد أولية وخاصة القطن إلى منسوجات يتم بيعها في السوق العالمية وجني القيمة الفائضة عن عملية التصنيع التي تفوق بأضعاف مضاعفة القيمة المحدودة للقطن كمادة أولية، هادفاً إلى تحويل اقتصاد المجتمع المصري إلى «اقتصاد مركزي» وفق مصطلحات التاريخ الاقتصادي نفسه، وهي محاولة بدت في نظر الأوربيين وخاصة البريطانيين محاولة خطيرة تهدد هيمنتهم الكونية على صناعات الحياكة والنسيج على المستوى الكوني، وهو ما استدعى منهم اتخاذ قرار سياسي وحربي مفاده الحرفي آنذاك «وأد أي من يحاول المساس بالهيمنة البريطانية المطلقة في حوض البحر المتوسط»، وهو ما تجلى بشكل عياني مشخص في تهشيم أسطول محمد علي باشا وجل قدراته العسكرية في العام 1827 في معركة Navarino البحرية في البحر المتوسط، التي كان بنتيجتها إرغام محمد علي باشا على التراجع عن مشروعه النهضوي، بعد أن أدرك صعوبة مواجهته للقوى الإمبريالية الاستعمارية بشكل مباشر، وهو ما تجلى في التراجع عن كل المشاريع التصنيعية التي كان يشرف عليها ويدفع باتجاهها نظامه في مصر، وهو ما أدى إلى عودة الاقتصاد المصري إلى دائرة «الاقتصاد الطرفي» المحصور دوره في حلبة الاقتصاد العالمي بالاستجابة إلى رغبات الأقوياء بإنتاج ما يريدون من مواد أولية وتصديرها لهم بالسعر الذي يحددونه ليقوموا بتصنيعها في اقتصاداتهم المركزية، ومن ثم إعادة بيعها بالسعر الذي يحددونه أيضاً في نفس الاقتصادات الطرفية التي استجلبوا المواد الأولية منها لما يقومون ببيعه إليها. وهي الحال البائسة التي لا زالت تمثل واقع الحال في جل اقتصادات ما يدعى بالعالم النامي، والذي التوصيف الأقوم والأكثر صوابية تاريخياً له لا بد أن يكون العالم المنهوب المفقر.
وفي نفس سياق التهشيم الاستعماري الأوربي الذي كان نظام محمد علي باشا نموذجاً وصفياً له في الحيزين الاقتصادي والعسكري، لا بد من الإشارة إلى ما يتلاقى معه من تهشيم سياسي واجتماعي متعمد تجلى في كل الدول التي حل فيها المستعمرون تمثل في تخليق حدود سياسية وجغرافية اعتباطية في كل مجتمع تمت هيمنة المستعمرين الأوربيين عليه، بشكل يضمن إضعاف القوى الاجتماعية القادرة على المقاومة فيه، وفق نهج «فرق تسد»، ومن ثم الاستعانة بكل ألاعيب الفساد والإفساد المجتمعي لإيجاد وكلاء محليين يقومون بدور النواطير، والقائمين بتسيير مصالح السادة المستعمرين، مقابل الفتات التي يتم منحهم إياها من قِبل المستعمرين، وبقوة الأسلحة النارية المستحدثة على تلك المجتمعات. وهو ما أنتج مثلاً في شبه القارة الهندية حقيقة مذهلة تمثلت بأن بريطانيا تمكنت من حكم كتلة بشرية هائلة وصل تعدادها لأكثر من 250 مليون نسمة آنذاك، وتمكنت من السيطرة عليهم بما لا يتجاوز 34000 جندي وضابط بريطاني، يعضدهم أكثر من 250000 جندي مرتزق من الهنود أنفسهم أو ما كانوا يدعون «Sepoys»، وهو ما يعني حرفياً بأن البريطانيين قاموا باستعمار الهند عبر استغلال نقاط ضعف المجتمع الهندي نفسه، وتشويهه، وتحويل رهط منه إلى مرتزقة يقومون بمهمة استعمار أرضهم لصالح البريطانيين أنفسهم.
وذلك التوصيف الأخير من التخليق الاعتباطي للحدود السياسية التي تفصل المجتمعات التي انصهرت مع بعضها تاريخياً، اتخذ منحى تراجيدياً في حالة العالم العربي الإسلامي، وأعني به هنا الفضاء الجغرافي الذي كان يتحدث فيه غالبية الشعب باللغة العربية، والذي كان يمكن للفرد أن يتحرك فيه بحرية شبه مطلقة من مكة إلى تونس ومنها إلى إسطنبول دون أي عائق يذكر، ودون إدراك بانتماء على شكل هوية معرفة له سوى المدينة أو القرية التي ينتسب إليها، وبشكل ثانوي الدين الذي يتبعه، خاصة في مناخ التعددية الدينية واللغوية الذي كان الحالة الأعم في عمر السلطنة العثمانية حتى العقود الأخيرة القليلة من عمرها، والتي انزاحت خلالها تجاه قومية تركية مختلفة، بشكل ارتكاسي لذلك الوعي القومي التناحري الذي خلقه الأوربيون أنفسهم لتبرير حروبهم البربرية فيما بينهم، والتي لما تنقطع منذ إسقاط البرابرة الجرمان للإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس وكان آخرها الحربان العالميتان الأولى والثانية.
وذلك الواقع البائس أفرز بتراً اعتباطياً في اللحمة الاجتماعية للعالم العربي الإسلامي، وحدوداً مصطنعة بين اقتصادات تكاملت بشكل تاريخي بين حواضر على امتداد مئات أو حتى آلاف السنين، فتم بتر الموصل عن حلب، ودمشق عن القدس وبيروت، وجميع تلك الأخيرة عن القاهرة وحواضر شبه الجزيرة العربية وخاصة العمانية منها، والتي كانت بمجملها عصب طريق الحرير على امتداد قرون طويلة؛ و هو ما تم تعزيز مفاعيله التفتيتية النكوصية بدأب الأوربيين وتفننهم في إيجاد واصطناع كوامن الفرقة بين الشعوب التي استعمروها لضمان عدم إمكانية نهوض أي منها إلى مستوى يمكنها من مواجهة مستعمريها، وتجلى ذلك بممارسة كل الجهود لتأسيس التخلف في المجتمعات المستعمرة، والذي تمثل في عملية تجهيل ممنهجة، وإغلاق كل أبواب التعليم، بالإضافة إلى دعم كل الاعتقادات البدائية من قبيل دعم بعض الأفاقين هنا وهناك، كما كان في إيهام المستعمرين الفرنسيين لشعوب المنطقة البسيطة المخلفة في بلاد الشام «بربوبية» أفاق بعينه، ليتحول بقوة ودعم المستعمرين إلى «إله» يتم الاعتقاد به «إلهاً قائماً بالفعل على وجه البسيطة» لا بد له أن يأمر أتباعه بتنفيذ إرادات أولياء أمره من المستعمرين. ولا تزال هناك مجموعات بشرية كبيرة ويعتد بها في المجتمعات العربية من أتباع أولئك «البشر الآلهة» المصنعين بقوة المستعمرين، والذين حرصاً على عدم اختلاق معركة لا طائل منها مع أفرادها سوف لن نقوم بإيراد جملة من الأمثلة التاريخية عنها، ونترك ذلك للمتلقي الكريم لإعمال عقله البحثي التاريخي فيه.
وذلك الواقع الأشوه تكرر بشكل متعمد في كل موضع حل فيه المستعمرون، وبأشكال بربرية في القارة السمراء، وفي شبه القارة الهندية، وفي تركة السلطنة العثمانية في العالم العربي، والذي كان من مفاعيله حالة الضياع في الهوية المجتمعية لأفراد تلك المجتمعات المستحدثة سياسياً عبر تخليق حدودها اعتباطياً وإطلاق مسميات مستحدثة عليها من قبيل دول وممالك وإمارات وسلطنات وجمهوريات، وما كان على شاكلة ذلك، وجميعها في الواقع تكوينات سياسية اعتباطية مبتورة عن جذورها التاريخية، وواقع تطورها الاقتصادي على مر التاريخ؛ وهو ما أفضى إلى حالة أقرب إلى الجمر تحت الرماد الذي ما زال يفصح عن نفسه بحروب أهلية ومجازر هنا وهناك كلها محاولات متفجعة لإيجاد حل للواقع الأشوه الذي خلقه الأوربيون اعتباطياً في مجتمعات المستعمرات، ودون إفساح الفرصة لأي من تلك المجتمعات لتتطور بشكل طبيعي وتأخذ الشكل الأنسب لها، ولاحتياجات الأفراد فيها الذي قد يتخذ شكلاً آخر مغايراً لنموذج الدولة القومية البائس، والحدود الجغرافية المصطنعة والسياجات الشائكة المقامة على تلك الحدود، ويكون أكثر انسجاماً مع الإرث التاريخي لتلك المجتمعات وعلاقاتها وإرث تبادل المنافع والمصالح فيما بينها، بدل الاحتراب الذي كان وسيلة التواصل «الحضري» الأسمى للأوربيين على امتداد تاريخهم الطويل والذي يحاولون إخفاء وجهه القبيح البغيض الذي لا بد ألا يفلت استكناه دمامته وخبثه من كل قارئ حصيف للتاريخ.