خاص : دراسة بقلم – سعيد العليمي :
إن النزعة الشيعية بمثاليتها الثيوقراطية وبدعوتها للقسط والعدل والمساواة، وبوعدها بالأمان الشخصي، وبالتحرر من القهر والاستغلال كانت شديدة الجاذبية بالنسبة للعرب وغير العرب على السواء. ويقول “إيفانوف: “لقد كتب كثير من الهراء عن النزعة الشيعية أو عن الإسماعيلية خاصة، اعتبارها نتاجًا للروح القومية الفارسية، نتاجًا لعقلية خاصة، كما لو أنه لم يوجد شيعة أبدًا سوى الفارسيين، وكما لو أن غالبية الفرس لم يكونوا دعاة تابعين للاتجاه السُني. وفي الواقع فإن الوضع يجد كامل تفسيره في الشروط الاقتصادية لهذه الولايات التي ارتبط التقلقل والتذمر بها. ودائمًا ما ينسى اتفاقًا أنه حين شعر العرب بوطأة الحكم العباسي، فقد كان في استطاعتهم بسهولة أن يقوموا ببعض المعارضة استنادًا إلى تنظيمهم القبلي الذي لم يختف لزمن طويل جدًا. أما الفلاحون الفرس فقد كانوا عاجزين لأنهم كانوا معزولين في القرى وكان وجود سياسة موحدة بالنسبة لهم إنجازًا صعب المثال” (38)، وينتقد “إيفانوف” فكرة مجوسية الإسماعيلية لدى “البغدادي”، مشيرًا إلى أن “الزراد شتين” كانوا يقيمون آنذاك في قرى نائية مشكلين جماعات محدودة بعيدة تمامًا عن أي تنظيم أو نفوذ سياسي كما أنهم كانوا أقل عددًا من المسيحيين وربما من اليهود. ويؤكد حقيقة ذلك أن معظم الفقهاء والمحدثين من السُنة لم يكونوا عربًا بل فرسًا، فـ”البخاري” لم يكن عربيًا، ولا “البغدادي”، فضلاً عن حجة الإسلام الإمام “الغزالي”.
لم تكن الأحلام الوهمية بسيطرة مجوسية هي التي دعت المعدمين من عرب وغير العرب إلى الإنضواء تحت لواء المعارضة الإسماعيلية، وإنما العدل والقسطاس والمساواة التي ألح عليها المثال الثيوقراطي العلوىي ووعد بها الجماهير (39).
ولما كانت فكرة مجوسية الإسماعيلية لدى الشيخ “طه الولي”؛ هي الفكرة المحورية، فقد ارتبطت بها بالضرورة كافة المسائل الأخرى، فالإمامة ونظريتها حول تقديس الأئمة: “روجتها العناصر الشعوبية الحاقدة على العرب ودينهم”، وذلك دون أدنى انتباه للمغزى الطبقي والسياسي وراء هذا التقديس باعتبار “الإمام رمزًا أعلى لقوى المعارضة ضد الخليفة الذىي يُبرر سيطرته بناء على أسس دينية روحية، أما النزعة المهدية في رأي كاتبنا فقد ظهرت عبر تأثير المسيحية واليهودية كما كانت فكرة “المهدي المنتظر” من أقوى الوسائل التي اعتمدها خصوم العرب والإسلام لإثارة الجماهير. فلم إذاً حدث ذلك وأي حاجة اجتماعية لبتها هذه الفكرة؛ هذا ما لا يجيب عليه. كما تبنى القول التقليدي حول أن مؤسس مذهب غلاة الشيعة؛ هو: “عبدالله بن سبأ”، رغم أن هناك عديدًا من الدراسات التاريخية (40)؛ التي صدرت سابقة على تأليف كتابه، برهنت على أن “عبدالله سبأ”؛ هو أسطورة مختلقة كان هدفها إضفاء ظلال رمادية على واقع الأحوال الفعلي في عهد الخليفة الثالث وآله من بني أمية. وتصوير الثورة التي قامت ضده باعتبارها مؤامرة يهودية وقع في شباكها المؤمنون الأتقياء تضليلاً وتغريرًا.
ولم يكن متوقعًا من الكاتب بالطبع أن يُناقش جديًا الجانب الاجتماعي في تجربة “القرامطة” التي طابق بينها وبين الاشتراكية المعاصرة، وهو حين يتحدث مثلاً عن: “المجتمع القرمطي وطبقاته”؛ لا يعني الطبقات بمعناها العلمي، أي بمركزها في عملية الإنتاج الاجتماعي وعلاقاتها بملكية وسائل الإنتاج، وإنما يتحدث عن مراتب الأعضاء داخل التنظيم القرمطي.
وفي الواقع؛ فإن الكتاب في مُجملة عبارة عن رصف غير منتقي وغير ممنهج وغير نقدي لمجموعة من الآراء التقليدية لا إضافة فيها. ويمكن القول بصفة عامة أنه لم يضع “حركة القرامطة” في إطارها التاريخي بل عزلها عن مجمل النظام الاجتماعي الاقتصادي، كما أغفل صنوف القهر التي مورست على المعدمين، ولم يتصد للمشاكل الهامة التي قيلت بشأنها. وهو لم يعتمد في مصادره على أي من المؤلفات التي تعكس الجوانب الاقتصادية؛ مثل كتب الخراج والأموال، بل ولا الدراسات التاريخية الاقتصادية المعاصرة. كما أن مصادرة الإسماعيلية قليلة جدًا. وأفكاره عن “القرامطة” يستمدها من خصومهم دون أدنى تمحيص نقدي. ورغم أنه اعتمد على المستشرق “إيفانوف”؛ إلا أنه يبدو وكأنه لم يهضم أفكاره فلا هو تبناها ولا هو رفضها، ولا اتخذ موقفًا منها، وأنما أكتفى فقط بإيراد أسماء بعض مؤلفاته في قائمة مصادره. وإذا كان مؤلفنا قد ذكر الجغرافي؛ “ابن حوقل”، كأحد مصادره في نهاية كتابه، إلا أنه لم يُشر إليه في متن الكتاب وهو أحد إثنين شاهدا “تجربة القرامطة” في “البحرين”. وبإيجاز لم يبدأ الكاتب من حيث انتهى الباحثين الآخرين، بل من نقطة متخلفة عنهم كثيرًا، لذا لم يضف جديدًا لا في المادة ولا فىي وجهة النظر بشأنها.
وربما كان من المفيد أيضًا أن يتناول تقييمنا للمصادر عينة من أعمال بعض الإسماعيليين المعاصرين الذين عنوا بالكتابة عن “حركة القرامطة”؛ وسنتناول بإيجاز ثلاث أعمال لكل من: “عارف تامر”؛ و”إسماعيل المير علي”؛ و”مصطفى غالب”.
لقد كتب “عارف تامر” كتابًا تحت عنوان: (القرامطة) (41)، وهو يُقدم وصفًا بلاغيًا إنشائيًا هو أقرب للحكاية منه إلى العرض العلمي التاريخي المترابط، ويبدو “القرامطة الإسماعيلية” فيه وكأنهم خارج الشرط التاريخي تمامًا. فقد مثلت حركتهم: “دعوة ثورية اشتراكية عالمية”؛ وهي اشتراكية مبنية على: “أساس من التطور التاريخي للماضي وللظروف الاقتصادية للحاضر”. كما أن “قرامطة البحرين” قد: “درسوا جمهورية أفلاطون وطبقوها بإمعان؛ وهي تقوم على تنظيف المجتمع من الوحشية والتعصب والهمجية والرِق والاإقطاع للإنسان فى ظل الرأسمالية والبورجوازية وإزالة الملكية الشخصية”. وجدير بالذكر أن “عارف تامر”؛ لم يُقدم جديدًا في تفهم أي قضية تُخص الموضوع، كما أنه قفز فوق كل المشاكل المثارة والمعروفة للباحثين، فضلاً عن أنه لم يوثق آراءه ولم يُشر إلى مصادره. أما كتاب: (القرامطة)، لمؤلفة “إسماعيل المير علي”، فقد حرص صاحبه على أن يُبين كيفية كتابه التاريخ أكثر مما حاول كتابته بالفعل، وإن جرى ذلك تحت إدعاء تبني المادية التاريخية رغم أن الكتاب هو بمثابة تقريظ عاطفي لتجربة “القرامطة”. والتاريخ لديه هو عبارة عن سوء فهم متبادل يؤدي لسلسلة من الأخطاء، فقد أخطأ الأمويون بنزعتهم العربية، وأخطأ العباسيون باعتمادهم على الأتراك معًا جعل محرك التاريخ في النهاية: “حريم القصور”، ولا بأس لديه إن كان “الإمام علي” اشتراكيًا، وكذلك “أبوذر الغفاري”، مادام “حمدان بن الأشعث”؛ راعي “مشاعة الألفة” في “الكوفة” قد حقق: “ما عجزت عن تحقيقه كل ثورات العالم القديم والحديث”. وما دامت “دولة القرامطة” في “البحرين” قد أقامت: “جمهورية لم تسر فى خط تحويلي مرحلي للوصول إلى المشاعة العامة وإبطال الملكية الفردية. بل قفزت قفزة واحدة نحو تحقيق المجتمع المشاعي التعاوني الخالص الذي لا قيود فيه ولا حواجز… وهو المجتمع نفسه الذي تناضل من أجل بلوغة شعوب العالم الاشتراكي وكل الحركات الاشتراكية في العالم”. وبإيجاز: “.. إن اشتراكية الشيوعيين المعاصرين لم تصل إلى تطبيق ما طبقة القرامطة” (!!!!). وقد أصدر “مصطفى غالب”؛ كتابًا بعنوان: (القرامطة) (43)، أيضًا وهو ليس كتابًا في التاريخ بقدر ما هو عمل روائي، وقد خالف الأسلوب المتبع في كتابة مثل هذه الأعمال، فأعتمد أسلوب الرواية القائمة على الوصف والحوار والمونولوج الداخلي، كما أنه إلتزامًا بذلك الشكل القصصي لم يعتمد أساليب البرهنة التاريخية على الأفكار الواردة في سياق الأحداث. وقد أفتقر الكتاب إلى ثبت بالمصادر يُشير إلى الآراء والأفكار التي تضمنها. ومع ذلك فـ”عارف تامر” و”مصطفى غالب”؛ لهما جهود مشكورة في تحقيق أعمال “إسماعيلية” كثيرة وتقديمها إلى جمهور القراء والباحثين.
وهناك اتجاه آخر خيرة نماذجه الكاتب؛ “العفيف الأخضر” (44)؛ ومجلة (الجزيرة الجديدة)، ورغم نزاهة مقاصد هذا الاتجاه واحتفاله الثوري بالظاهرة القرمطية، إلا أنه قد رأى في هذه الأخيرة ميوله الذاتية فحجبت عنه الظاهرة نفسها. و”العفيف الأخضر” قد رأى فيها نموذجًا “للثورات الشيوعية المجالسية”، وإن شابته بعض النواقص البيروقراطية بسبب أن التنظيم الإسماعيلي كان يدخل الوعي إلى الطبقات الكادحة من خارجها، هذا فضلاً عن مراتبيته وربما سريته. واحتفل بصفة خاصة بالطابع الإلحادي الذي أضفته عليها المصادر التاريخية والفقهية المعادية، دون أن يُدقق ويُمحص طبيعة وخصائص الفكر “الإسماعيلي-القرمطي” بشكل عام، والروافد التي شكلته، والخصوصية التاريخية لبعض هذه الروافد الفكرية وصلتها بالأوضاع الاجتماعية أو الإثنية أو الجغرافية بل والمذهبية، وما إذا كانت بعض النزاعات الغالبة قد شكلت سمة عامة أم لا. فضلاً عن تجاهله للهامش التقليدي الواسع أحيانًا بين الفكر والممارسة وتشوهات التطبيق، وإضفاء محتويات معينة على الفكر كنتيجة للطريقة التي جرى بها وعية. كما لم يتوان الكاتب عن احتضان كافة تهم المؤرخين التقليدية عن إباحية “القرامطة” وإنحلالهم، مادامت هذه التهم تُشكل جزءًا من مفاهيم تنظيمه المجالسي عن الحب الحر.. وهكذا كان كاتبنا محكومًا بأفكاره المعاصرة وصراعه الراهن ضد البيروقراطية في السلطة والتنظيم وبنزعاته البوهيمية التي لونت رؤيته لتلك التجربة الثورية.