وكالات – كتابات :
يمتليء تاريخ الأمة الإسلامية بنماذج من أصحاب العلم والفكر الذين دفعوا أثمانًا كبيرة لمواقفهم الفكرية والسياسية المخالفة للسائد سلطويًّا أو اجتماعيًّا، وصلت إلى حد الجُوُد بحياتهم، حتى في غير ساحات القتال والنزال.
في هذه الجولة سنعود أكثر من: 11 قرنًا إلى الوراء، إلى لحظة مشهودة لعالمٍ شهيرٍ من أبرز رموز التراث الإسلامي في علم الحديث، وهو واحد من أصحاب الكتب الستة ذات الصدارة في جمع الأحاديث النبوية الأوفر نصيبًا من الصحة، إلى جانب مؤلفاتٍ أخرى عديدة، ومئات من التلاميذ الذين استقوْا منه معارفه.
ففي عام 303هـ، كان الإمام “أبوعبدالرحمن النَّسائي”، وهو يقترب من التسعين من عمره، يخوض مناظرةً حاميةً، بل ومتهورةً بالمقاييس العقلانية، في “الجامع الأموي”؛ بـ”دمشق”، دفاعًا عن الإمام “علي بن أبي طالب”، وفي معقل خصومه، ولم يكن يتصور أن تكون تلك المناظرة هي الأخيرة في حياته، وأنه سيتعرض في نهايتها إلى عدوانٍ جسيم لا يليق بشيبته ولا بمكانته العلمية ولا بحرمة بيت الله، ولكن الآن سنتعرَّف أولًا إلى الإمام “النَّسائي” نفسه قبل أن نُفصِّل الواقعة الأليمة التي تعرَّض لها.
“النَّسائي”.. طالب مُجِّد وإمام يستمتع بالحياة ويكره السلطة..
اسمه بالكامل هو: “أبوعبدالرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر”، ولِدَ عام 215هـ على أرجح الأقوال، ولقب “النسائي” يعود إلى بلدة “نَسا؛ التي يذكر “ياقوت الحموي”؛ في موسوعته: (معجم البلدان)، أنها كانت من بلدات “إقليم خُراسان”، (في الجزء الواقع في أرض دولة تُركمانستان الحالية).
واتجه “النسائي” مبكرًا إلى طلب العلم الشرعي، وخاصةً علم الحديث الذي راج كثيرًا في هذا القرن الثالث الهجري، وهو القرن الذي ظهرت فيه كبرى مصنَّفات الحديث المتداولة، مثل صحيحيْ “البخاري” و”مسلم” وسُنن “الترمذي”.
وقد رحل في شبابه المبكر من أجل طلب العلم على عادة عصره، فاتجه إلى العالم؛ “قتيْبة بن سعيد”، في منطقة “بغلان”، (بأفغانستان الحالية)؛ عام 230هـ على أرجح الآراء التاريخية، وأقام عنده سنةً كاملة يتلقَّى عنه العلم والرواية.
ولم يكتفِ الشاب الطموح؛ “أحمد”، بما حصَّله من العلم على يد إمامه؛ “قتيبة”، وقرَّر أن يطوف على كافة الحواضر الإسلامية الكبرى ليتلقَّى العلوم من أبرز من فيها من العلماء والمُحدِّثين، فيذكر “الذهبي”؛ في (سير أعلام النبلاء)، أنه تجوَّل لسنواتٍ طويلة في “خُراسان”، و”العراق”، و”الشام” والتي تولَّى فيها منصب قاضي “حِمص” لفترةٍ، وتجول في “الجزيرة الفراتية”، ثم “مصر”، والتي قرَّر الإمام الاستقرار فيها بعد أن جمعَ مخزونًا وافرًا من العلم والأحاديث، ووفد إليه بها الآلاف من التلاميذ للرواية عنه، ومنهم من اقتصر في الرواية على الأخذ عن “النسائي” فحسب، مثل المُحدِّث: “ابن الحدَّاد”.
يقول عنه “الذهبي”: “وَكَانَ مِنْ بُحُوْرِ العِلْمِ، مَعَ الفَهْمِ، وَالإِتْقَانِ، وَالبَصَرِ، وَنَقْدِ الرِّجَالِ، وَحُسْنِ التَّأْلِيْفِ”.
وكان سُنيَّ المذهب والإعتقاد، حتى إنه كان على سبيل المثال لا الحصر يُتابع مذهب المُحدِّث؛ “أحمد بن حنبل”، في تكفير القائلين: بـ”خلق القرآن”، وهي القضية التي اختلف فيها “المعتزلة” مع أهل الحديث مثل: “ابن حنبل”، وفيها استخدم الخليفة العباسي؛ “المأمون”، المنحاز إلى “المعتزلة”، سلطاته لفرض الرأي بأن القرآن مخلوق، لكن “النسائي”؛ في الوقت نفسه، كان يميل إلى مذهب الإمام “الشافعي” في الفقه، والذي كان مذهب أهل “مصر” في عصره.
يقول “ابن عساكر” متحدثًا عن الإمام “النسائي” في موسوعة (تاريخ دمشق): “أحد الأئمة المبرزين والحُفَّاظ المتقنين والأعلام المشهورين. وكان شيخًا مهيبًا، مليح الوجه، ظاهر الدم، حسن التشبيه”.
وعلى مدار حياته الطويلة، لم تُسجل كتب التاريخ صداماتٍ سياسية بين الإمام “النسائي” والسلطات المتعاقبة على “مصر”، لكن هناك شبه إجماع بين المصادر التاريخية؛ التي دوَّنت سيرة “النَّسائي”، على أنه كان يحرص كثيرًا على تجنب مخالطة أهل الحكم، وعلى تجنب أموالهم وأُعطياتهم، أو الصدارة في مجالسهم، حتى لا يدور في فلكهم، وقد أسهم هذا إلى جانب علمه الغزير في جعله من أكابر علماء “مصر” ورموزها في عصره، وضمن له احترام الكثيرين من عامة الناس، وخاصةً العلماء، لاسيَّما مع اشتهاره أيضًا بالاجتهاد في العبادات.
من أبرز مؤلفاته كتاب (خصائص الإمام علي بن أبي طالب)، والذي جلب له الكثير من الاتهامات بالتشيع، وكان الدافع لتأليف هذا الكتاب، هو انتشار نزعة العداء للإمام “علي” وآل البيت، لاسيَّما في “الشام”؛ وحاضرته “دمشق”.
ثم ألف كتابًا آخر في (فضائل الصحابة)، لكنه رفض أن يؤلف كتابًا في فضائل “معاوية بن أبي سفيان”، وتعلَّل بأنه لا يجد له فضائل تُذكَر؛ لاسيَّما في الحديث النبوي، سوى حديث: (لا أشبع الله بطنه) المشهور، والذي رغم محاولة علماء مذاهب السُنة التقليديين نفيَ أنه مسبَّة لـ”معاوية”، فإنَّ ظاهر الرواية المذكورة في (صحيح مسلم)، يوحي بعكس دفاعهم، ففيها أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام أرسل “ابن عباس” صغيرًا أكثر من مرة ليُحضر له “معاوية” في أمرٍ يُريدُه، فكان “معاوية” يأكل، فتباطأ عن الحضور إلى النبيِّ، فغضب عليه الصلاة والسلام، ودعا عليه بألا يُشبعَ الله بطنَه.
لكن في المقابل حرص “ابن عساكر”؛ في ترجمته لـ”النَّسائي”؛ في (تاريخ دمشق)، على أن ينفي أن يكون “النسائي” ممن يلعنون “معاوية” ويسبونه، ونقل عنه في السياق نفسه رواياتٍ تؤكد أن سب الصحابة بوجهٍ عامٍّ هو باب خفي للطعن في الإسلام.
ولم تقتصر كتبه على هذا الجانب، بل كانت له مؤلفات أكثر أهمية، ولا تزال مُتدَاولة بين طلاب العلم الشرعي إلى اليوم، ويُعد أبرزها: (السنن الكبرى)، و(السنن الصغرى)؛ الذي يُعد تلخيصًا وجمعًا لأصحِّ ما ورد في (السنن الكبرى).
وأقام “النسائيُّ” الجانبَ الأكبر من حياته في “مصر”؛ (القاهرة حاليًا)، وهي العاصمة الشعبية للقطر المصري التي اندمجت فيها عواصم “مصر” الإسلامية الثلاث: “الفسطاط والعسكر والقطائع”، حيث قطن في منطقة “زقاق القناديل”، والتي كانت من أرقى أحياء “مصر”؛ آنذاك، والتي يذكر مؤرخ “مصر”؛ طتقي الدين المقريزي”، في (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار)؛ أنه كان يسكنها الأشراف، وكان بالمنطقة مئة قنديل تحيل ليلَهُ نهارًا.
كذلك اشتهر الإمام “النسائي” بالاستمتاع بملذات الحياة، فكان يحبُ الطعام، لاسيَّما لحم الديوك، والتي كانت تُنتقى له خصيصًا، وتُربَّى بشكلٍ يجعلها أسمن وأغزر لحمًا، ونُقِلَ عنه أنهُ كان يراها تقوِّي القدرة الجنسية، كما تزوج من أربعة زوجات، إلى جانب التسرِّي بعدد من ملك اليمين.
وقد أدت شُهرَته بحب المُتع الحلال، إلى أن أشاع البعض عنه أنه كان يشرب النبيذ على رأي المتقدمين من الأحناف، لكنه لما سُئلَ في ذلك، أجاب أنه يراه حرامًا مطلقًا، بل ذكر العديد ممن أرَّخوا لسيرته مثل: “ابن خُلَّكان” و”ابن عساكر” و”الصَّفدي” وغيرهم؛ أنه اشتهر في أيامه بالفحولة، وكثرة الجماع، كما كان يُحب إرتداء ملابس نوبية وخضراء أنيقة.
ويروي “ابن عساكر”؛ في (تاريخ دمشق)، أن “النَّسائي” خرج في إحدى المرات في حملة مع والي “مصر” كان هدفها فداء أسرى المسلمين لدى الروم، وفي الطريق، تجنب “النسائي” الاختلاط بالوالي ومائدة طعامه، وجعل لنفسه مائدةً خاصةً كان يستمتع خلالها بما لذَّ وطاب من الطعام والشراب الحلال، في استمرارٍ لعادته في حياته.
استشهاد “النسائي”.. لا تُدارِهم ولو كنت في دارهم..
لم يكتفِ الإمام “النسائي” في مواجهة من يُعادون الإمام “علي” بكتاباته ورواياته للأحاديث النبوية في فضل “آل البيت” ومكانتهم، إنما قرَّر الولوج إلى عش الدبابير، فسافر رغم سنِّه المتقدمة إلى “الشام”، في طريقه إلى أداء فريضة الحج، وذلك ليواجه أعداء الإمام هناك وجهًا لوجه.
ولم يكن غريبًا أن يتركَّز وجود خصوم الإمام في “الشام”، حيث كانت المنطقة قبل قرنيْن ونصف؛ معقل “دولة الأمويين”؛ التي نشأت في خضم منازعة “معاوية بن أبي سفيان” لخلافة الإمام “علي”، وشاع في كثيرٍ من عصورها باستثناء عصر الخليفة “عمر بن عبدالعزيز”، الإساءة للإمام “علي”، وإهانته في الخُطب على المنابر، كما ورد في بعض الروايات صحيحة السند.
وفي حاضرة الشام؛ “دمشق”، وفي جامعها الكبير، “المسجد الأموي” التاريخي، وقف “النسائي” يروي الأحاديث في فضل “علي بن أبي طالب” ونسله، فغضب بعض الحاضرين من المتعصبين ضد الإمام “علي”، وسألوه أن يقصَّ عليهم من فضائل “معاوية بن أبي سفيان”، فرفضَ، ولمَّا احتدم جدالهم له، أخبرهُم أنه لا يجد لـ”معاوية” فضيلةً سوى: “لا أشبعَ الله بطنه”؛ وهو الحديث النبوي الذي أشرنا له منذ قليل، والمرويُّ أيضًا في (صحيح مسلم).
غضب المؤيدون لـ”معاوية” عندما ردَّ عليهم “النسائي” بهذا الرد؛ الذي عدُّوه مُسيئًا لرمزهم السياسي، واعتدوا على الإمام الثمانيني، وانهالوا عليه ضربًا، وتكاد تُجمع المصادر التاريخية أنهم ركَّزوا الضرب تحت الحزام، لإيذاء الإمام وإهانته، ثم داسوا عليه، فأُخرِجَ بصعوبةٍ من المسجد بعد أن أُصيبَ إصاباتٍ بالغة، وحمله أنصاره على الفور خارج “دمشق”، فنُقِلَ إلى “فلسطين”، حيث تُوُفِّيَ بمدينة “الرملة” المُحتلَّة في “فلسطين”، وما زال قبره هناك قائمًا بها إلى اليوم.
بينما تذكر روايات تاريخية أخرى، كما ورد في كتاب (الكامل في التاريخ)؛ لـ”ابن الأثير”، أن “النَّسائي” أراد إكمال طريقه إلى “الحجاز” بعد الاعتداء عليه في “دمشق”، رغم إصاباته الجسيمة، وأنه بالفعل قد وصل إلى “مكة المكرمة”، وتُوفَّيَ بها، ودُفِنَ بينَ “الصفا والمروة”.